أدب الأطفال في تراثنا القديم

أدب الأطفال في تراثنا القديم

يظن كثيرون أن تراثنا الأدبي العربي القديم لم يعر الطفل اهتمامه، لكن هناك قولا آخر معارضا لهذا الاتجاه تكشف عنه هذه المقالة.

أدب الطفل، أو أدب الأطفال، هو تلك الأعمال ألأدبية المنتجة خصيصا للأطفال وتشمل الأجناس المعروفة في أدب الكبار من شعر وقصة ومسرحية فهو في النهاية وجه ثان لأدب الكبار.

ولقد ذهب بعض دارسي تاريخ الأدب العربي إلى أن الشعر العربي القديم تضمن كثيراً من عناصر فني القصة والمسرحية من حيث الشخصيات والحوار والحبكة الدرامية وكأنهم أرادوا بذلك أن ينفوا أن يكون مولد ذينك الفنين: القصة والمسرحية نتيجة تأثر بالأدب الغربي.

وقياسا على ذلك يمكن القول إن أدب الطفل، إذا عددناه فنا أدبيا جديدا، له جذور في تراثنا الشعري القديم غير أن مثل هذا القياس لا يسلم، لأن لأدب الطفل - بمعناه الحديث - خصائص تميزه عن غيره، وتجعله فنا ذا طابع خاص، ومن ثم تصبح نسبته إلى الأدب القديم غير شرعية.

غير أن شعرنا العربي القديم إذا لم يكن قد احتوى أدب الأطفال بوصفه فنا أدبيا خاصا، فقد تضمن الكثير من أدب الأطفال بوصفه لوناً شعرياً متميزاً، أو غرضاً شعرياً عرفته القصيدة العربية، فقد روت لنا كتب لتراث كثيراً من الأبيات أو المقطوعات، أو أبعاض القصائد التي تحدث أصحابها فيها عن تربية الأطفال وشئونهم، كما روت لنا كتب التراث كثيراً من تلك الأرجاز التي كانت النسوة يتغنين بها لأطفالهن، أو يرقصنهم بها. بل ونسبت كتب التراث ذلك في بعض الأحيان للرجال، فكأن الرجل العربي القديم لم يكن متجهما فظاً غليظ القلب كما تصوره لنا بعض الكتابات. بل كان يشارك زوجه في خدمة بيته وحمل أطفاله وترقيصهم وتدليلهم إذا دعت إلى ذلك حاجة.

فقد روى الجاحظ في البيان والتبيين أن الزبير بن العوام كان يرقص ابناً له وهو ينشد مرتجزاً متفاخراً بابنة الذي ينتسب إلى أبي بكر الصديق:

أبيض من آل أبي عتيق
مبارك من ولد الصديقَ
ألذه كما ألذ ريقي

وروى الراغب الأصفهاني في "محاضرات الأدباء" ومحاورات، الشعراء" نموذجاً من بحر الرجز لشاعر يصف وجوه أطفاله بأنها كالأقمار جمالاً، وهو يقول إنه لولا هؤلاء الصغار للزم داره ولم يغش قصور الملوك الجبابرة ولكن حاجته إلى المال لرعاية أطفاله ألجأته إلى مدح الملوك:

والله لولا صبية صغارُ
وجوههم كأنها أقمارُ
لما رآني ملك جبار
ببابه، ما طلع النهارُ

ويروى لنا صاحب "العد الفريد" أبياتا رجزية أخرى مما كان يستخدم في ترقيص الأطفال الأعرابي خفيف الظل يشبه حبه لطفله كحب بخيل اتاه المال بعد معاناه وفقر شديدين، فهو يحب ماله حباً جماً، كلما عن له أن ينفق شيئاً من ماله ذاك الذي أتاه بعد طول فقر، بدا له شيء عاقة عن بذل ذلك المال. فهو ضنين بطفلة تماماً كضن ذلك البخيل لماله فيقول ذلك الأعرابى وهو يرقص طفله:

أحبه حب الشحيح مالهْ
قد كان ذاق الفقر، ثم نالهْ
إذا أراد بذله، بدالهْ

وشاع في كتب التراث أيضا ذلك الترقيص الذي تغنت به أعرابية.

يا حبذا ريح الولدْ ريح الخزامى في البلدْ

هكذا كل ولـدْ؟ أم لم يلد مثلي أحـدْ؟

هذه الوان السابقة من الشعر أن نحتسبها جذوراً حقيقية لأدب الأطفال في تراثنا العربي، ويمكن أن نضيف إليها القصص الرمزي الذي رواه لنا الجاحظ في كتاب الحيوان وكتاب "المحاسن والأضداد" المنسوب له، أو رواه لنا أبوالعلاء في ثنايا كتابة الضخم "رسالة الصاهل والشامج" أو ما رواه الأبشيهي في كتابه "المستطرف من كل فن مستظرف" ومن هذا المصدر الأخير نختار القصة الآتية:

"قال الشعبي: مرض الأسد فعادته السباع ما عدا الثعلب، فأراد الذئب أن يكيد للثعلب عند ملك الحيوانات فقال للأسد: أيها الملك. لقد مرضت فعادتك السباع جميعها ما عدا الثعلب. قال الأسد. فإذا حضر الثعلب فأخبرني. فلما بلغ ذلك الثعلب جاء ليعود الملك فقال له الأسد: يا أبا الحصين مرضت فعادني السباع كلها إلا أنت قال الثعلب: بلغني مرض الملك فخرجت اسعى في طلب الدواء له. فقال الأسد: فأي شىء أصبت؟ قال الثعلب: قالوا لي: عليك بخرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج فيعالج بها الملك. فضرب الأسد بمخالبه ساق الذئب فشقها، وتسلسل الثعلب خارج عرين الأسد، وبعد قليل مر عليه الذئب يعرج والدم يسيل من ساقه. فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر، إذا قعدت بعد هذا عند سلطان، فانظر ما يخرج من رأسك!!"

فمثل هذه القصة وغيرها مما روته لنا كتب التراث يصلح أن يكون مادة طيبة الأدب أطفال حقيقي يشمل على كل الخصائص التي يمتاز بها أدب الأطفال العصري، وهذا القصص القديم إلى جانب شعر الترقيص الذي أشرنا إليه، مما نستطيع أن نعده - دون تجاوز - أصولاً عربية حقيقية لأدب الأطفال. فإذا انتقلنا إلى لون آخر من ألوان الأدب القديم المتصلة بالأطفال، وجدنا ما يمت إلى الأطفال بصلة ما، مثل الحديث عن تربيتهم وتعليمهم، والحديث عن تنكرهم - في بعض الحالات - لآبائهم أو أمهاتهم، والحديث عن رثاء الأطفال الذين ماتوا صغارا فلم تقربهم عيون أهلهم، الى آخر تلك الفنون التي نرى أنها تنتمي إلى أدب الكبار أكثر من انتمائها إلى أدب الأطفال، وما نرى فيها إلا لوناً خاصاً من ألوان الفن، أو غرضاً جديداً من أغراض الشعر لم يلفت إليه نقادنا قدر التفاهم إلى تلك الأغراض الشعرية التقليدية من مرح وفخر وهجاء وغزل.

فمن ذلك تلك القصيدة التائية لأبي العلاء المعري في ديوانه الشهير "لزوم ما لا يلزم" التي ينصح فيها بعدم تعليم البنات إلا في ظل ظروف مشددة فيقول ناهياً عن تعليم المرأة صراحة، ويدعو إلى تعليمهن حرفة الغزل لأن في ذلك أمانا لهن:

ولا تحمد حسانك إن توافت بأيد للسطور مقومات
فحمل مغازل النسوان أولى بهن من اليراع مقلمات
وإن جئن المنجم سائلات فلسن عن الضلال بمنجمات
ليأخذن التلاوة من عجوز من اللائي فغرن مهتمات،
ولا يدنين من رجل عجوز يلقنهن أياً محـكمات
سوى من كان مرتعشاً يداه ولمته من المتثغمات

وقوله في موضع آخر من الديوان نفسه عن تعليم البنات:

علموهن الغزل والنسج والردن وخلوا كتابة وقراءة

فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص تجزى عن يونس وبراءة

ولا بأس من أن نشير هنا إلى ان أبا العلاء المعري كانت له نظره خاصة إلى المرأة وإلى مسألة الإنجاب ذاتها، ولا تنفصل نظرته تلك عن رؤيته الفلسفية العامة التي عبر عنها خير تعبير ديوانه "لزوم ما لا يلزم" وهي رؤية تقوم على إنكار التكاثر والتناسل فهو يقول مثلاً مؤيداً فكرة وأد البنات التي شاعت في الجاهلية وانكرها الإسلام تماماً.

إن الأوانس أن تزور قبورها خير لها من أن يقال: عرائسُ

ويقول داعياً إلى عدم الزواج:

خير النساء اللواتي لا يلدن لكم فإن ولدن فخير النسل مانفعا

وأكثر النسل يشقى الوالدان به فليته كان عن آبائه دفعا

وهي نظرة تشاؤمية تخالف الأديان والطبيعة البشرية

وقد كانت مسألة وأد البنات في عصر الجاهلية مرتبطو ارتباطا وثيقا بحرص العرب من وقوع النساء سبايا في أيدي الأعداء، وهو أمر يسبب للقبائل المسببة نساؤها عاراً لا يفارقها.

عن الأبناء

وقد حفظت لنا كتب التراث نماذج من شعر شعراء، تحدثوا عن أبنائهم حديث العاطفة الإنسانية الكريمة الجياشة الفياضة بالحب والود. فمن ذلك ما رواه المبرد في كتابه الشهير "الكامل" لبعض الشعراء:

لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي. إنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين الفقر بعدي وأن يشربن رنقاً بعد صاف

وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف

وقد تحدث الشعراء عن إنجاب البنات في ظل تلك النظرة الجاهلية الجاهلة إلى المرأة، تلك النظرة التي أنكرها القرآن الكريم فقال تعالى:سورة النحل الآيتان 58-59وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون"النحل/58-59".

وكان حديث الشعراء عن البنات متناقضاً، فبعضهم يتحدث عنهن في رفق وحنو ومحبة وعطف كالمعلى الطائي الذي اشتهر بأبياته التالية واشتهرت به:

لولا بنيات كزغب القطا حططن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض

فانظر إلى رقه قولة في هذا البيت الأخير: إنه يفقد قدرته على النوم بل إن عينيه لتتوقفان عن حركتهما إذا ما إحس بأي خطر يحدق ببناته، انظر إلى تلك الرقة، وانظر بعد ذلك في نموذج آخر لشاعر تفيض رقته فتنقلب طريقته في التعبير عن تلك الرقة إلى صورة معاكسة فهو يقول:

أحب بنيتي وودت أني دفنت بنيتي في قاع لحد
وما بغضي لها غرضي ولكن أحاذر أن تذوق الذل يعدى
فإن زوجتها رجلاً فقيراً أراها عنده والهم عندي
سيصفع وجهها ويسب جدي فليت الله أكرمها بقبر

وإن كانت أعز الناس عندي

وفي رأينا أن هذا الشاعر لا يقل تشاؤماً عن أبي العلاء المعري، فلا يصح في عرف الناس، ولا يستقيم مع الطبيعة البشرية السوية أن يتمنى والد لوالده الموت.

إن الحطيئة مع ماجبل عليه من شراسة الطبع، وتبلد المشاعر، وحدة الجفاء، يروون عنه أبياناً تفيض رقة وعذوبة في مجال حيلته الأسرية كقوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سجنه:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لاماء ولاشجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلامم الله يا عمر

فقد رووا أن الحطيئة هذا الغليظ القلب أراد سفراً طويلاً فهيأ دابته وأخذ وبناته يودعنه فقال مخاطباً مهدداً إياها بطول الغياب:

عدي السنين إذا رحلت لرحلتي ودعي الشهور فإنهن قصار

فأجابته زوجته في الحال بقولها:

اذكر تحنننا إليك وشوقنا واذكر بناتك إنهن صغار

فأخذته العاطفة إلى بناته وقال لمرافقيه: حطوا - اي انزلوا أمتعتي من على الرواحل - فوالله لا رحلت أبداُ

وهكذا، يجد المتأمل في تراثنا الأدبي القديم ثروة وأصولا طيبة ليس فقط لأدب الأطفال بمعناه العلمي الضيق، بل ولأدب الأطفال بوصفه باباً واسعاً من أبواب الأدب العربي القديم كما نقول: أدب الكتاب، وأدب الوزراء بمعنى ماقيل لهم وفيهم وعنهم وفي مجالسهم من أشعار وقصص ومساجلات ومسامرات وأحاديث. فلا جناح علينا إذن أن نتسع بمفهوم أدب الأطفال في تراثنا ليشمل:

أ - القصص الرمزي على ألسنة الحيوانات والطيور فمثل ذلك القصص يصلح للأطفال في كا زمان ومكان.
ب - مراثي الآباء والأمهات لأبنائهم.
ج - شعر الترقيص.
د - مراسلات الآباء والأبناء
هـ - عتاب الأبناء العاقين.
و - قضية وأد البنات وما ورد فيها من شعر تأييداً أو تفنيداً.
ز - تعليم الأطفال.
ج - نوادر المعلمين مع الأطفال "كما في رسالة المعلمين للجاحظ".

 

مصطفى رجب