الشيشان.. بلاد مسكونة بالحلم والأساطير والمقاومة عبدالمنعم الأعسم

الشيشان.. بلاد مسكونة بالحلم والأساطير والمقاومة

بلاد لا يمكن قهرها. هذا ما اتفق عليه المؤرخون وأرباب السياسة والشعراء. فعندما تفرض الهزيمة عليها أمام الإمبراطوريات الجامحة تلجأ إلى جبال القفقاس حيث تضمد جراحها وتأخذ جرعة الحياة. ولا يهم أن يطول استشفاؤها فهي ستنزل في نهاية المطاف من المغاور إلى واجهات الأحداث.

لعل سر هذا العصيان المتجذر في هذه الأرض الصغيرة يمكن قراءته في ملامح التكوين القبلي الأول للشعوب القفقاسية التي يعد "الشيشان" من أقدمها وأعرقها.. ذلك التكوين الذي اتحد بغريزة مقاومة الأجناس الوافدة (الأغراب) واتخذ، فيما بعد، إشكالا سياسية هي انعكاس للحروب التي شتتها لإمبراطوريات البيزنطية والفارسية والعثمانية والروسية والألمانية طمعا في موقعها الذي يشكل ممرا قاريا استراتيجيا، وفى ثرواتها فيما بعد من المعادن والبترول.

غير أن البعد القبلى لمقاومة السكان استمر باستمرار جدارة الرابطة القبلية في التعبئة، حيث تبدى الأمر في صور أسطورية للشجاعة وجدت تعبيرا لها في الكثير من المعالم الحية.

يلتقط شاعر روسيا القديم "ليرمنتوف" هذا الخيط بالقول:

شرسة القبائل التي تقطن تلك الشعاب معبودها الحرية، والكفاح قانونها الوحيد قوية في صداقتها لكنها أقوى في الانتقام لا تدين لسيد يملي عليها تعاليمه من عل تجزي الخير بالخير وترد الشر بالشر ولا حدود لديها للكراهية ولا للمحبة.

الأصل.. جغرافية وجذور

تقع "الشيشان" في نقطة على الامتدادات الشمالية" لجبال القفقاس العظيمة (الممتدة بين البحر الأسود وبحر الخزر بطول 1200 كيلو متر) على الشواطئ الجنوبية لنهر "ترك" التاريخي.. يحدها من الشمال والشرق بلاد الداغستان ومن الجنوب نهر "آندي" ومن الغرب بلاد الانغوش.. وهي جزء من بلاد القفقاس الواقعة غرب بحر الخزر وشرق البحر الأسود وجنوب نهر ترك وشمال نهري "كر" و "ريبون".. وهي بلاد عريقة التاريخ، مسكونة بالسحر والجمال والحكمة وبهاء الطبيعة الآسر قال "أرنست همنغواي" وهو ينهض قراءة الصورة القلمية لـ "ليو تولستوي" عن هذه البلاد: "لقد عشت بنفسي هناك.. لما في تصوير الناس والأحداث والطبيعة القفقاسية العذراء من واقعية وفتنه" [ووابي إفريقيا الخضراء].

ينحدر "الشيشان "كشعب قفقاسي من سلالة الشراكسة: سكان شمال القفقاس الذين توزعوا بين شعوب الويناخ (أصل الشيشان) والاديغة والاستين والداغستان وقد اشتهروا بالفروسية والقوة والوسامة وطول القامة حيث يقول عنهم الروس (خصومهم التاريخيون) أنهم "فرنساويو القفقاس، سريعو الخاطر، أذكياء بالفطرة.. مرحون، قدر ما هم مقاتلون.. ومعتدون بأنفسهم". وإذ يؤخذ بهذه الشهادة المؤسسة على معايشة تمتد لأكثر من ألف عام، فان للعرب القدامى ممن وطأ هذه البلاد الكثير من الشهادات الحية إعجابا بها وإنصافا لها، وقد رصد المؤرخ والرحالة العربي أبو إسحاق إبراهيم الاصطخري في كتابه (مسالك الممالك) واحدة من معالم تنظيمهم الاجتماعي المبكر متمثلة في المضافة (الديوانية) التي اعتبرها "مدرسة الحياة" ومركزا للشعراء الشعبيين (اوساكوا) ولرواة القصص والسير والأحداث (الحكواتية)، وقد تحدث عن ثراء مدن وحواضر الشيشان وعن وفرة البضائع وبهاء ورشاقة الموروث وسحر الطبيعة و "إن من لم ير ذلك بأم عينيه لا يمكنه تصديق ما ذكرت".

يقول بعض الشيشان أن أصلهم عربي يعود إلى زعيم قبلي اسمه (علي عرب) كان قد هاجر المخ القفقاس من دمشق الشام في زمن متناهي القدم، وهو نفسه (ناخ سو) الذي يقول آخرون إنه أبوجدهم الذي نزح مع قومه من شمال آسيا عبر سيبريا، في حين يستند رواة إلى نظرية المؤرخ "هيرودوت" بأن الشيشان من قبائل الشركس التي كانت تقيم على سواحل بجر قزوين الشرقية قبل أن تهاجر في شرق قفقاسيا وتستقر على ضفاف نهر ترك، حيث انصرفت لشؤونها وانعزلت عن بقية القبائل حتى اكتسبت لهجة جديدة تحولت، بمرور الوقت، إلى لغة قومية ذات قواعد ومفردات مستقلة عن اللغة الأصلية (الاديغة).

أما الإسلام فقد وصلت طلائعه إلى القفقاس في العام 22 للهجرة (737 م) على هيئة دعاة من بضعه آلاف فارس، ثم جاءت الجيوش الإسلامية، لأول مرة، إلى جنوب القفقاس ونجحت في إقامة الحكم الإسلامي لأكثر من أربعمائة سنة حين انسحب العرب المسلمون أمام الحملة الصليبية الجامحة التي ساعدت على إقامة حكم السلجوقيين في قفقاسيا، وفي العام 1236 اجتاح (جنكيز خان) المغولي قفقاسيا ونشر فيها الخراب والدمار، وضاعف خلفه (تيمور لنك) من البطش بالسكان الذين اضطروا للاحتماء بالجبال لعقود طويلة من السنين.

روسيا ضد و(مع) الشيشان

ومن المغول في الفرس إلى العثمانيين إلى الألمان إلى الروس تنقلت الشيشان وهي تخفي تحت ثيابها (القاما) السلاح الذي لم يفارقها، مثلما لم يفارق مخيلة الروس الذين خاضوا أكثر من غيرهم حروبا شرسة مع (وضد) الشيشان.

في العام 1500 م بدأت روسيا القيصرية الاهتمام بالقفقاس إثر أنباء عن عزم العثمانيين شق قناة بين نهري الدرن والفولغا فقررت احتلال المنطقة لإفشال المشروع من جهة وللوصول إلى بحر الخزر بما يعنيه ذلك من تأمين حاجتها إلى ميناء في مناطق المياه الدافئة من جهة ثانية، ولتهديد المصالح البريطانية من جهة ثالثة.

غير أن تتر القرم حالوا دون ذلك بتصديهم للجيوش القيصرية بلى ومطاردتها إلى موسكو، فضلا عن انشغال الروس بحروب وصراعات مع الكولونياليات الغربية حيث اضطرهم ذلك إلى وضع السيطرة على القفقاس جانبا لأكر من مائة عام حين تدم تولستوي الكبير (جد الروائي المعروف) مستشار بطرس الأكبر عام 1722 تقريرا سريا بوجوب توسيع النفوذ الروسي جنوبا، وعندما وصل القياصرة يد بحر آزوف عام 1739 كانت الامبراطورية العثمانية في وضع العاجز عن التدخل الأمر الذي شجع الامبراطورة القيصرية (كاترين الثانية) على إقامة خط من القلاع والمستوطنات القفقاسية يمتد بمحاذاة الشيشان، ومن وادي نهر ترك حتى بحر آزوف، وفي غضون ذلك ألحق القياصرة هزيمة منكرة بالعثمانيين الذين تخلوا عن سيادتهم على القرم بموجب معاهدة عام 1774 ولكنهم راحوا يعززون مواقعهم على امتداد البحر الأسود على تخوم الوجود القيصري، توطئة لجولة جديدة. كانت الحروب وفترات الحصار الطويلة قد القت بالعبء البر على سكان القفقاس الذين تعرضوا إلى حملات القمع والإبادة الجماعية من فبل الروس بسبب موالاتهم للأتراك تطلعا إلى الانعتاق من القيصرية، كما تعرضوا إلى اجتياح وباء قاتل أهلك آلاف الأفراد وقضى على قرى وجماعات بأكملها، واضطرت أعداد كبيرة من الشيشان وقبائل الاديغة إلى الهجرة القسرية عن بلادهم، غير أن ذلك لم يمنع من اتساع أعمال المقاومة المحلية للوجود الروسي، بل ولم يمنع من تحقيق انتصارات باهرة منها تحرير الابخاز وإقامة أمارة مستقلة فيها تستأثر بدعم وتأييد قبائل القفقاس جميعا.

على هذه الخلفية اندلعت الحرب الطويلة الحاسمة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية (عام 1828) حيث ستقرر نتائجها، بعد ثلاثة عقود؛ مصائر شعوب القفقاس، وشعب الشيشان بخاصة.. هذه الشعوب التي كانت نهبا لاعتبارات متضاربة، فهي تنتمي دينيا إلى دين العثمانيين وجغرافيا إلى القيصرية، وقوميا إلى طموح طاغ إلى الاستقلال الناجز مما لا يحققه أي من الطرفين المتحاربين.

وبما أن الحرب في الحرب بالنسبة إلى الشيشاني، فلم يجد بدا من أن يفي بتقاليد الشجاعة وزهوها بالقتال مع الروس ما دامت الظروف فرضت عليه أن يكون في صفوفهم، وكان سموه فوق خيانة رفيق السلاح، على الرغم من الكراهة التي يضمرها الشيشاني للقيصرية، موضع احترام وإعجاب المقاتل الروسي، وقد كان ليو تولستوي (الروائي) يتأمل هذه الفرادة في تكوين الشيشاني يوم كان ضابطا في الجيش القيصري الذي ينتشر في شمال القفقاس حيث شاءت الظروف أن يخدم في وحدة عسكرية تقيم في قرية (ستارا غلادكوفسكايا) الشيشانية، وقد سجل في قصة (سوستبول في ايار) التي استلهم أحداثها من تجربته الشخصية في معايشة سكانها ومقاتليها أروع اللمحات عن "طبيعة القفقاس المهيبة، والناس الوسيمين، عشاق الحرية الجسورين الذين يعيشون في رحابها في توحد تام معها".. "وبتلك الأناقة القفقاسية المميزة التي تأتي من محاكاة الفرسان الشيشان فان كل ما يلبسه الفارس الحقيقي عريض دائما وممزق، وبلا عناية " (قصة القوزاق).

وإذ يرصد تولستوي اتحاد الشيشاني بقضية الحرب القيصرية فإنه يتابعهـا من زاوية وجدانية مرهفة.. ففي قصته الطويلة (الحاج مراد) دخل الكاتب في مسامات التكوين الروحي للسكان القفقاس وهو يتابع تجليات " المريدية " كفلسفة إسلامية وتطبيقات دينية ي سلوك الشيشاني، ولا يتواني عن الغور بعيدا في مجاهل هذه النفس للكشف عن مكنونها ومصادر قوتها وينابيع الحكمة التي تعيد إنتاجها في مجرى الصراع.

والحاج مراد، في القصة والواقع، زعيم روحي وسياسي لقبائل داغستان الممتدة حتى الشيشان، وقد خاض معارك ضارية ضد القياصرة وارتبطت باسمه تعاليم في تأسيس الدولة الدينية والسلوك والالتزامات، غيرانه لم يكن ليشتهر قبل أن يظهر على مسرح الأحداث الزعيم الأسطوري (الإمام شامل) الذي تحالف مع مراد وافترق معه في مجرى الاختلاف على جدوى الكفاح " حتى الموت " حيث كان شعار الإمام.

ملاحم المقاومة والتهجير

لقد أضرم شامل، بجرأته وصلابته، النار الخبيئة في وجدان الشعب الداغستاني الذي ينتمي إليه، غير أنه لم يجد خميرة من الفرسان ترقى إلى مواصفات وشروط وعناد الحروب التي يشرع في إشعالها أفضل من الشيشان، فانتقل إليها ليستقوي برجالها الجبليين عن روسيا وجيوشها الجرارة، وليدخل في عداد العناصر التاريخية التي أثارت، وتثير حتى الآن، جدلا في صفوف المؤرخين والمعنيين بالموروث الأدبي والسياسي والتاريخي لروسيا ودول الشرق الإسلامية.

في العام 1837 عزمت القيصرية على إنهاء حركة شامل فدخلت معه في سلسلة مديدة من المعارك زادت في صلابة عوده بدلا من أضعافه، وبعد ست سنوات من القتال الضاري اضطر الروس إلى الانسحاب من الشيشان وأراض واسعة من داغستان لينفسح الطريق أمام توحيد شمال وشرق القفقاس تحت راية "المريدية وبقيادة الإمام شامل، فيما أخفقت محاولة روسية بعد سنتين، في إطفاء إرادة التحرر القومي للقفقاس، ومن تأثيرها في دائرة واسعة لشعوب آسيا الغارقة في ظلام النسيان، حتى أن كارل ماركس دعا إلى استلهـام هذه المأثرة بالقول: " انظروا ماذا يستطيع شعب يطلب الحرية أن يفعل، وشاهدوا البطولات التي قدمها هذا الشعب برغم قلة قدراته، من أجل الحفاظ على حريته، فعليكم أن تأخذوا العبر منهم"، وفي شهادة أخرى كتب "تورناو" الذي رافق إحدى الحملات " التأديبية " ضد الشيشان: " ويستحق الشيشان كخصوم كل تقدير واحترام، ففي وسط غاباتهم وجبالهم لا تستطيع أي قوات أن تحتقرهم، فقد كانوا رماة مهرة، شجعانا إلى أقصى الحدود، أذكياء في الشئون العسكرية كما أنهم سريعون في استغلال الظروف المحلية، وينتهزون فرصة كل خطأ ارتكبناه، ويستثمرونه بسرعة فائقة من أجل تدميرنا".

ويلاحظ أن جبابرة الروس كانوا يتقربون إلى الشيشان أملا في استلهام سر صلابتهم ونبع سجاياهم القتالية، وربما لهذا السبب اقترن (ايفان الرهيب) الذي كان وراء صراعات سياسية عاصفة داخل الطبقة القيصرية الحاكمة في القرن السادس عشر بـ (ماريا) وهي شيشانية جميلة استطاعات مد الجسور بين قومها والقيصر، وثمة أغنية قديمة كان الشراكسة يتداولونها على لسان وفد منهم التقى القيصر.. تقول:

"يا أبا الجميع.. أيها القيصر الأرثودكسي
ما الذي ستعطيه وتمنحه لنا؟
سأعطيكم ما عندي:
نهر ترك الذي يجري بحرية
من السلسلة الجبلية نفسها إلى البحر الأزرق الواسع.. إلى بحر قزوين."

ومع بدء (حرب القرم) في العام 1853 كان شامل قد أصبح حقيقة من الحقائق المؤثرة في مصائر الأحداث، بل وتمددت قواته إلى جورجيا، جنوبا لإبعاد النفوذ الروسي، أو- طبقا لكتابات عسكرية تاريخية روسية- لغرض فتع جبهة ضد الجيش القيصري تخفف من ضغطه على الأتراك، الأمر الذي اضطر الروس إلى المناورة حين انزلوا قواتهم في ابخازيا لمشاغلة شامل واستدراجه بعيدا عن الساحة التي يتقرر فيها مصير الحرب، وفعلا، حين توقفت الحرب عام 1856، أصبح السبيل سالكا للروس للاجهاز على قوة شامل في حملة غلب عليها الطابع الانتقامي، ولا عجب أد ينال الشيشان حصة الأسد من النتائج الكارثية لانكفاء الحركة، حيث تناقص السكان تحت طائل الإبادة والتهجير إلى النصف في غضون سنوات قليلة أعقبت استسلام الإمام وإخضاع المنطقة نهائيا للحكم القيصري، و بحلول العام 1860 انخفض عدد سكان الشيشان إلى الربع، وهي آية واحدة من آيات الصهر القومي للشعوب القفقاسية.. الصهر الذي وضع برنامجه القياصرة بدعاوى تخلف الشعوب الآسيوية والعملي على تطوير اقتصادياتها وواصله السوفييت بدعاوى ترسيخ الإخاء القومي وتعزيز الشراكة بين القوميات في وطن الاشتراكية، وانتهى هذا البرنامج- في الواقع- إلى ركود في مستوي التطور الاقتصادي وتخلف عملية التمدن في عهد ما قبلى الثورة الاشتراكية، رالى اختلال واضطراب معايير الشراكة والتجانس بعدها.

أما حملة التهجير الجماعية التي طالت الشيشان فقد جرت بين أعوام 1859 و 1866 مع شراكسة الداغستان والاستين والقبرطاي وقد اتجه غالبيتهم إلى الدولة العثمانية والبلقان والشرق الأوسط، ولكن أكثر صفحات التهجير مأساوية تتمثل في موت الآلاف منهم في الطريق قبل وصولهم إلى المنفى. وتؤكد وثيقة أعدها مؤلفون روس أنه في صيف عام التهجير الرابع قضت خمسة آلاف عائلة شيشانية نحبها تحت الشمس المحرقة وهي تقطع الطريق بين مدينتي (موش) و(ارزروم)، وكان الجوع يقتل من مائة في مائتي إنسان يوميا، فارتدت بقاياهم إلى الحدود الروسية قبل أن يفتح الأتراك النار عليهم ليبيدوهم جميعا.

وفي العام 1877 اندلعت انتفاضة مسلحة في الشيشان بقيادة أحد مريدي الإمام شامل (الحاج علي بك) غير أن الروس أغرقوا بالدم هذا التحرك، لتبدأ صفحة جديدة من افراغ البلاد بتهجير مئات الآلاف من الشيشان إلى عمق الأراضي الروسية. لكن عمليات الإجلاء المنظم لسكان القفقاس جرت بعد المعاهدة التي وقعت بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية عام 1878 والتي قضت ب " تهجير جميع الشراكسة الذين يقطنون على الحدود بين الدولتين في أراضي الدولة العثمانية " حيث وجرت قوافل جديدة من السكان وفرضت عليهم الإقامة في مناطق مختارة قبل أن يهرب الكثير منهم، عبر البحر، إلى دول عديدة ومنها فلسطين.

لم يكن الشيشان الذين يغادرون بيوتهم تحت الحراب لينسوا بلادهم الجميلة خلال رحلة المجهول الشاقة، فقد كانت أغنيتهم على كل لسان، وهي تقول:

"علم السفينة يخترق صدر الريح مرفرفا
وأملنا بالله كبير بلقاء في وطننا السليب".

اضطراب الموقف من الشيشان

حين اندلعت الثورة البلشفية في شتاء 1917 استقبلها الشيشان (في الداخل والخارج) ببداهة وطنية تنطلق من الكراهة المتوارثة للقيصرية المترنحة، فوقفوا إلى جانب الجيش الأحمر في معاركه (استمرت أربع سنوات) مع قوات دينيكين القيصرية البيضاء التي كانت تحتل بلادهم، وحتى عندما عالت المعارك إلى جانب القياصرة صيف عام 1919 انسحب الشيشان إلى جبالهم لمقاتلتهم، وقد منيت أفواج الحرس الأبيض بخسائر فادحة.

وفي غضون ذلك أصدر (فلاديمير ايليتش لينين) باسم " مؤتمر اتحاد شعوب القفقاس " مرسوم التحرير (27/ 11/ 1917) ويقضي بان "جميع الأراضي والغابات التي أعلن عنها ملكا للحكومة القيصرية أثناء غزو القفقاس سترد إلى الشعوب التي أخذت منها، وفي إبريل/ نيسان 1921 عقد مؤتمر لممثلي شعوب القفقاس تمخض عنه نداء وجه إلى (جوزيف ستالين) بوصفه قوميسارا (وزيرا) لشئون القوميات في روسيا السوفييتية يذكر: " أن أهل الجبال القفقاسية من شيشان وأنغوش واوستيين وبلكار وقرشاي، بعد أن تحرروا من نير الظالمين.. تحدوهم جميعا رغبة قوية في التعاون في وحدة سياسية واحدة". وفيما عمت أجواء من الاستقرار الحذر برزت أول مشكلة في التعامل مع السلطة المركزية وتمثلت في إصرار الإدارة الروسية علي فرض الكتابة بالحروف اللاتينية وبخاصة في مجالات المخاطبة الرسمية الأمر الذي أثار حفيظة السكان واضطبر الشيشان إلى إعلان الإضراب العام مطالبين باحترام لغتهم ومنع المواطنين الروس من إجبارهم على التعاطي معه لغة وكتابة غريبتين عنهم. ولم يكن الاحتجاج ينطوي على تمسك طقوسي بلغة الشعب، فقط، بل إن المشكلة تجسدت في استحالة دخول أبناء القومية الشيشانية في وظائف الدولة التي ستقتصر على من يجيد اللغة الروسية، كتابة ومخاطبة، الأمر الذي يعني اقتصار الوظائف على الروس، حتى أنه بعد أكثر من عشر سنين لم يزد عدد الموظفين المحليين في شمال القفقاس على (17) موظفا من بين (1310) من الموظفين الروس الذين يشغلون الإدارات العامة في المنطقة.

وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وجد الألمان في صفوف شعب الشيشان المتذمر الكثير من المقاتلين في وحدات الاقتحام ومجموعات العمل خلف الخطوط العسكرية، فكأن ذلك المبرر المعلن لأوسع حملة تهجير قسرية طالت الشيشان في العهد السوفييتي عقب توقف تلك الحرب. فغداة توقف الحرب جاء أوان الحساب مع الشيشان.. كان يجري جمع السكان بحجة الاحتفال بانتصارات الجيش الأحمر، وفيما كانوا يرقصون على أنغام الأغنية الشعبية " لقد وهبنا ستالين السرور ونحن أبناؤه" كانت المليشيا تغير على جموعهم وتنقلهم إلى الشاحنات المعدة لذلك، ولم تكن المصادر السوفييتية لتخفي حقائق المحنة الإنسانية التي أحاقت بالشيشان جراء حملة التهجير الجديدة التي أسفرت عن إجلاء (407690) مواطنا، وأفراغ (6060) ميلا مربعا من الأراضي، وذلك طبقا للإحصائيات الرسمية، هذا عدا إجراءات الاعتقال والحجر والإبعاد عن الوظائف التي لحقت عشرات الألوف والتضييقات التي تعرضت لها ثقافة الشيشان وموروثهم التاريخي والروحي.

حمزاتوف.. إلى الانسجام مع الضمير

كتب الشاعر والروائي الداغستاني (رسول حمزاتوف) قصائد ومقطوعات في مطلع الخمسينيات هجا فيها شامل، وشهد زورا ضده وألب مواطنيه على سيرة الإمام، وتشاء السنوات اللاحقة أن يكون أول من يستعيد وعيه، ليتمثل الضحية ويعيد إنتاج عبقريتها، بل وليمضي معها انحدارا من داغستان إلى الشيشان سعيا إلى اكتشاف سر القوة رحب التراب والحكمة الشعبية.. يقول: " لقد أعماني بريق ذلك الزمان، كما تعمي الفتاة الجميلة الشاب الغبي.. كنت انظر إلى كل شيء كما ينظر العريس إلى عروسه، لا يرى فيها أدنى عيب".. "لقد تقرر، آنذاك، أن شاملا عميل بريطاني أو تركي، وأن هدفه إذكاء العداء بين الشعوب ".. "كنت أصدق البيت الذي أكد ذلك.. وكنت اصدق سيد ذلك البيت.. والآن.. من جديد يعود الجرح القديم الذي لم يلتئم ليمزق قلبي ويحرقه بناره".

وتعد رواية حمزاتوف "بلدي" وثيقة وجدانية مليئة بالمراجعة الحارة لما فات جيل الإحياء من حقائق: لقد اندمجت الأساطير بالصور والمشاعر باللمحات الإنسانية في سطور متفجرة، حيث تقف الإمام شامل عنوانا لها: " حدثني والدي قال: سألت الشيخ شاملا العظيم، يوما، بطانته"
- يا إمام، قل لنا، لماذا منعت نظم الأشعار؟ أجاب شامل: أريد أن يبقى الشعراء الحقيقيوق وحدهم، هم الشعراء، لأن الشعراء الحقيقيين"يستمرون في نظم الشعر مهما حدث.. أما الكذابون.. أما المنافقون الذين يدعون أنهم شعراء فسيخافون مني ويسكتون، لأنهم جبناء.

ويتهجى حمزاتوف الأثر العميق لإقدام شامل في الموجودات الحية والروحية لأبناء جلدته.. يلمها بيدين حاذقتين، وبانتباهة رحالة ماهر: "كان شامل يقول لرجاله: لنفترض أن العدو استولى على قريتنا كلها، فسيبقى النصر لنا؟ ما بقي النبع في أيدينا". ويحمل جغرافيا بلاده وحكمتها حيثما يحل، إنها زاده وشرفه وهويته:
"في كوبا أهديت فيدل كاسترو فروة من فرائنا. سأل كاسترو مستغربا: لماذا ليس لها أزرار؟
ـ كي يرميها الإنسان عن كتفيه في سرعة أكبر وقت الحاجة، ويمتشق سيفه."

وفي مواقع عديدة من رحلة حمزاتوف يأتي صوت شامل من بعيد راسخا مليئا بالحكمة والألغاز: "في صباه، أراه جاثيا علي ركبتيه فوق، صخرة اخولغو الملساء، رافعا إلى الأعلى يديه المغسولتين للتو في ماء نهر كويسو الافاري.. قفطانه مرفوع، وشفتاه تتمتمان كلمة ما.. بعضهم يؤكد أنه حين كان يهمس أثناء صلاته بكلمة الله كان الناس يسمعون كلمة الحرية،. وحين كان يهمس بكلمة الحرية كانوا يسمعون كلمة الله".

لقد أعاد حمزاتوف الاعتبار للإمام شامل ولشعب الشيشان.. إنه لم يعد الروح لهما، فقد كان تولستوي وبوشكين وماركس وسبنسر قد سجلوا أسماءهم على صفحات تلك الروح.. وأن شعب الشيشان سبق الجميع إلى صياغة روحه من حجر تلك الجبال العجيبة.. جبال القفقاس.

"كوخ يرمولوف"
مسقط رأس "غروزني"

في وسط مدينة غروزني، عاصمة الشيشان ، ثمة كوخ أسطوري يمدّ لسانه للمارة يحيطه ويفصله عن شارع "أكتوبر" الفسيح سياج متماسك صلب، وصف مكثف من أشجار البتولا الباسقة تخفي يافطة حمراء صغيرة تقول "يرمولوف.. واحد من أعظم جنود روسيا".

"يرمولوف" الذي يخلد الآن بتمثال برونزي نصفي ينتصب في مدخل الكوخ، يشي بقسوة صاحبة الاسبارطية، ولا يبخل على المارة بالتحذير من أنهم في أرض مسكونة بالعصيان والخفايا.. فهو أدرى من أي واحد بسر هذه البلاد.

صاحب الكوخ، الجنرال يرمولوف هو الذي بنى مدينة غروزني عام 1818 حين كان حاكما للقفقاس، وقائدا للقوات القيصرية، وممثلا موثوقا للإسكندر الأول.. وقد عين موقعها على رابية حول نهر "السونجا" لتشرف على مسالك غاية في الدقة نحو أحراش البلاد الصغيرة التي كانت ثوراتها تدوّخ روسيا وتقلق قياصرتها على الدوام.

كان "كوخ يرمولف" تحت الأرض يوم كان القائد القيصري يدير معاركه ضد الشيشان المتمردين على القيصر وقد أضفى على ساكنه هالة من الأساطير بوصفه قائدا لا يقهر، حتى أن بوشكين، شاعر روسيا، ارتقى به إلى ذروة المديح في قصيدة شهيرة استهلها بالقول :

أيها القفقاسي طأطئ
رأسك الثلجي، واخضع
إن يرمولوف قادم.

كان يرمولوف قد تلقى الكثير من التحذيرات من أن بلاد الشيشان المحتلة مقبلة في العقد الثاني من القرن التاسع عشر على العصيان ومحاربة الجيش القيصري فعزم على بناء مدينة "غروزني" كحصن ومنطقة وثوب إلى جوارها.. فاختار امتدادا من الأرض المرتفعة بين نهري ترك وسنجا من جهة وسلسلة التلال المزدوجة المنحدرة إلى وادي نهر "نفتيانكا" من جهة ثانية وأقام حصونا عصية، لم تكن لتسلم السكان المتذمرين الناقمين على الوجود العسكري الروسي.

شيدت قلعة "بريجرادني ستان" أولى قلاع غروزني قرب ثكنة " ميخائيلوفسكايا" العسكرية، وقد رعى يرمولوف بنفسه خطة دموية لضمان بنائها والانتقال إلى بناء الحصون الأخرى.. ففي العاشر من يونيو / حزيران العام 1818 وضعت أسس القلعة ذات الأعمدة الستة في احتفال مخطط له ليكون كمينا للمقاومين الشيشان بان تركت قطعات مدفعية روسية على مقربة من المواقع دونما حراسة، فهاجمها الشيشان ليفاجأوا بنيران القناصة الروس الكثيفة، وكان المائتا قتيل بمثابة أضحية المدينة التي ستضاهي أجمل بلدان العالم في اتحاد الأزمان وجمالية الجغرافية فضلا عن آبار النفط الغزيرة وأبراجها الباسقة.

وإذ يلاحظ زائر مدينة "غروزني" خطوط قوة في ملامح المدينة وبهائها فإنه سيكتشف - إذا ما تأمل مغزى ذلك - أن خيطا من تلك القوة إنما يمتد إلى اسم الجنرال يرمولوف الذي كان عسكريا مرموقا وسفاحا من طراز فريد.

كانت اندفاعات يرمولوف في طريق الإبادة قد أزعجت حتى الإسكندر الأول الذي رفض مرة اقتراحا من الجنرال بتقليد الأمير بيكوفيتش تشيركاسكي وسام صليب القديس جورج عن "غارة جريئة ناجحة" وراء نهر الكوبان انتهت بإبادة قرية شيشانية آهلة دون أن يبقى من سكانها طفل أو امرأة.

مرة سأل زائر أجنبي عمدة العاصمة الشيشانية ما إذا كان ثمة تفسير لحالة المدينة وهي تنطوي على نفسها في ساعات الغروب.. قال العمدة: إنها تتذكر . وأشار بيده إلى "كوخ يرمولوف".

 

عبدالمنعم الأعسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الحرب هي الحرب بالنسبة للشيشان...... سيدة مصابة ترقد في المستشفى





النساء يقمن بالحصاد فهل أبقت الحرب لهم شيئا يحصدنه





أطفال من الشيشان على أحد التلال نزعت الحرب الأخيرة إحساسهم بالأمان





شيخ ومئذنة وكتاب الله





شاعر داغستان الكبير حمزاتوف