أرقام

أرقام

أغنى الأغنياء.. وأفقر الفقراء

العالم بالصور، غيره بالكلمات.. وبالكلمات غيره بالأرقام. الأرقام أشد قسوة وأكثر تعبيرا في كثير من الأحيان.. وأبرز الأرقام ما يكون مؤشرا على حياة البشر.. كيف يعيشون؟ وإلى متى يعيشون؟

وربما كان هذا المعنى وراء ذلك التقرير المثير الذي أذاعه البنك الدولي في ربيع عام "97"، والذي تناول فيه قضية الفقر والثراء في العالم من خلال أغنى خمس دول، وأفقر خمسة بلاد.. طبقا لمؤشر متوسط دخل الفرد.

وقد لا يكون هذا المؤشر كافيا للدلالة على حياة الناس، ولكن إذا قفز الفارق بين الأدنى والأعلى في الدخل ليتجاوز خمسمائة ضعف.. أى أن كل دولار ينفقه فرد في أفقر البلدان يعادله أكثر من خمسائة دولار ينفقها زميله في البلد الثري.. إذا حدث ذلك فهل يمكن أن نتجاهل متوسط الدخل كمؤشر على نوعية الحياة؟.. لا أظن.. و.. من هنا يصبح "تقرير الربيع" الذي أصدره البنك الدولي ذا دلالة مهمة.

القمة.. والقاع

بمؤشر نصيب الفرد من الناتج القومي عام "95"، وقف في أعلى السلم: لوكسمبورج وسويسرا و اليابان والنرويج والدنمارك.. وفي أدنى السلم موزمبيق وأثيوبيا وزائير وتنزانيا وبوروندي. نلاحظ، أن الأكثر ثراء ينتمون جميعا إلى أوربا.. عدا اليابان كاستثناء وحيد.

في نفس الوقت فإن الأشد فقرا ينتمون جميعا لإفريقيا جنوب الصحراء.
الأعلى دخلا على الإطلاق: لوكسمبورج حيث وصل متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي في ذلك العام "95": "41،2" ألف دولار.. وذلك مقابل الأدنى وهو إنسان موزمبيق الذي بلغ متوسط دخله السنوي ثمانين دولارا لاغير.. بفارق يزيد على الخمسائة ضعف، وهو فارق يهبط بعض الشيء عندما نقارن الأفضل حالا بين أكبر خمسة فقراء وهي بوروندي التي بلغ فيها متوسط الدخل "160" دولارا في السنة.. مع خامس الأغنياء وهي الدانمارك التي يصل فيها متوسط الدخل إلى "30" ألف دولار.

الفارق يقل لكنه يظل شاسعا.
وبقراءة المزيد من الأرقام والتفاصيل حول البلدان العشرة موضع المقارنة نلاحظ أيضا أن البلدان الفقيرة كثيفة السكان شاسعة المساحة.. وعلى العكس من ذلك يأتي الأغنياء "فيما عدا اليابان" ليتمتعوا بتعداد سكاني محدود ومساحة من الأرض قليلة.

سكان إثيوبيا ذات المائة دولار من الدخل للفرد: حوالي "52" مليون نسمة.. وسكان زائير "120 دولارا للفرد": "41،2" مليون نسمة.. وفي المساحة تزيد مساحة الأولى على المليون كيلومتر مربع.. وتبلغ مساحة زائير أكثر من "2،3" مليون كيلومتر مربع.

على الجانب الآخر.. جانب الأثرياء يهبط عدد السكان إلى تحت المليون في حالة لكسمبورج الذي يبلغ سكانها "396" ألف نسمة "طبقا لاحصائية 93" ومساحتها ثلاثمائة كيلومتر.. ثم يرتفع الرقم في حالة النرويج والدنمارك فيبلغ سكان الأولى "4،3" مليون نسمة والثانية "5،2" مليون.. ويأتي الاستثناء بين أغنى خمس دول وهي اليابان التي بلغ عدد سكانها عام 93: "124،5" مليون نسمة.. وإن لم تتجاوز مساحتها أيضا "378" ألف كيلومتر.

العلاقة إذن عكسية بين متوسط الدخل وعدد السكان.. والمساحة الكبيرة لا تنعكس بالضرورة على حالة من الوفرة والثراء برغم ما قد تحمله من موارد طبيعية.

الفقر والثراء شيئان مختلفان، لا يتعلقان بالضرورة بالمورد البشري أو المورد الطبيعي.. لكنهما يتعلقان كما يبدو من التقسيم الجغرافي السابق بدرجة التقدم والتخلف.. أو بنوعية إدارة الموارد، ويسمى بوفرة الموارد، وهو ما تشير له الأنشطة الأساسية في كل مجموعة.

في مجموعة الأكثر فقرا يبرز النشاط الزراعي كنسبة رئيسية في الهيكل الاقتصادي للدولة، فهو "60%" من هذا الهيكل في إثيوبيا و"52%" في بوروندي و"56%" في تنزانيا.. وعلى العكس يأتي النشاط الصناعي متأخرا ومتواضعا فلا تتجاوز مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي "12%" في موزمبيق و"10%" في إثيوبيا و"21%" بوروندي و"4%" في تنزانيا.

عند الأغنياء يختلف الأمر، وقد ندهش عندما نعرف أن نصيب الزراعة في الناتج المحلي باليابان لا يتجاوز "2%" ولا يزيد عند النرويج والدانمارك على "3 ـ 4" بالمائة!.

وبينما يبرز نشاط الخدمات في الدول الغنية حتى يصل إلى "69%" من الناتج المحلي في حالة الدانمارك فإنه يهبط إلى "27%" في حالة بوروندي و"29%" في حالة إثيوبيا!.

نوعية النشاط إذن تحكم الفقر والثراء، وفي المؤخرة ـ وبرغم أهمية هذا القطاع ـ يأتي عائد الزراعة، خاصة تلك التي تقترب من الاستخدامات الأولية كالغابات وهو ما يميز إفريقيا جنوب الصحراء.

حياة.. ولا حياة!

في التفاصيل وعندما نتأمل الأرقام لابد أن نتوقع كيف يعيش الأعلى دخلا والأقل دخلا.. فإذا كان الفارق بين الأدنى والأعلى "1:500" فإن نمط الحياة أو مجموع استهلاك الفرد لابد أن يتفاوت على هذا النحو، ومتوسط العمر لابد أن يكون انعكاسا آخر لما يتمتع به الإنسان "أو لا يتمتع".

ماذا تقول هذه التفاصيل عن حياة الفريق الأول و"لا حياة" للفريق الثاني؟.. لنأخذ عينة من كل ذلك.

الغلاء يطحن الفقراء حتى أن التضخم يصل إلى "42%" سنويا في موزمبيق.. لكن حال الأثرياء شيء مختلف، ونسبة التضخم في اليابان "في سنة الدراسة" لا تزيد على 1،5%.

الأمية تصل إلى "67%" في موزمبيق و"50%" في بوروندي، وهي أقل من "5%" في كل البلدان الخمسة الأكثر ثراء!.

أما استخدام الطاقة، وهي مؤشر رئيسي لمستوى المعيشة والحضارة فإن ما يستهلكه الفرد في إثيوبيا يهبط إلى ما يعادل "23" كيلوجراما من الطاقة.. في مقابل "5096" كيلوجراما في الدانمارك و"3642" في اليابان و"3491" في سويسرا.

إنهما نوعان من الحياة يستخدم فيهما الإنسان الإفريقي الحد الأدنى من الآلات ووسائل النقل والمعدات الحديثة المنزلية بل ومن الإنارة أيضا.. وعلى النقيض من ذلك يأتي الاستهلاك الضخم للطاقة في الدول الأكثر ثراءً، والأكثر استخداما للآلات والمركبات والأجهزة المنزلية وأجهزة تكييف الهواء.. الطاقة وراء كل شيء والمقولة القديمة مازالت صحيحة: "إنها مؤشر التقدم والتخلف".

التفاصيل كثيرة وإذا كان متوسط العمر يقدم النتائج النهائية لحياة الإنسان ويمكن أن تعتبره "موجز نوعية الحياة" فإن ذلك المتوسط وفق توقعات البنك الدولي يقول كل شيء.

متوسط العمر في الفئة الأولى بين "46 ـ 52" عاما.. أما في الفئة الثانية فإن المتوسط عند المولد يتراوح بين "76 و85" عاما.. أي أن الفئة الثانية تعيش مرة ونصف المرة بالقياس للفئة الأولى، وربما تعيش ضعفها أيضاً!.

إنه عالم الأثرياء جدا، والفقراء للغاية يخرج منه الوطن العربي الذي تحتل أعلى دولة فيه من حيث دخل الفرد رقم "12" بالقياس للعالم وهي الامارات العربية بينما تحتل الدولة العربية الثانية من حيث متوسط دخل الفرد وهي الكويت الترتيب رقم "17" بالقياس للعالم كله. لسنا إذن الأكثر ثراء كما تصورنا صحافة الغرب ووسائل إعلامه.

الأغنياء هناك في أوربا، والفقراء في إفريقيا.. والعرب "بين.. بين" وإن انقسموا أيضاً بين أغنياء وفقراء بكل ما يحمله الفقر والثراء من مؤشرات وملامح.

 

محمود المراغي