واحة العربي

واحة العربي

الربيع
حالة الخروج من برد الكمون تقافزاً في الكون الدافئ

ظللت أسعى بين كتب وأوراق، وأنصت إلى موسيقى، ثم لم يلبث الفؤاد أن انداح في الدفء القادم من بعيد منفصلاً عن عقلي، وكدت أهم بالقفز في العالم المتفتح الغامض الواضح، الذي يتلوى بين الألوان، وتناغم الأصوات، وسريان الحمية في الجوانح، مع جذب ناعم وشرس وسعيد لتجارب مبكرة يغلفها الاضطراب والحرج والحزن القديم، بعدها أحسست بتنميل ـ من النمل ـ يزحف مثل بقايا ضوء في أركان النفس، وجاءت أبخرة لتفاعلات أشعار مع أمنيات تتوافق مع الشدو، لتنضغط داخل تاريخ قديم يود أن يتسامى لحظة هذا التشكيل المتناغم: قوس قزح.

إنه الربيع..
أبناء الريف يعيشون حالة الربيع أكثر من الانتباه إليها، ففي شهر فبراير الميلادي، طوبة القبطي، تكون مسطحات المزروعات قد واجهت أقصى حالات الصقيع، هذا البرد البللوري المركز الذي يدمر خضرة النباتات ـ حتى المزروعات الخشنة مثل نبات القلقاس تنزوي أوراقه العريضة الواسعة ثم تتقلص مسرعة نحو التجهم والجفاف والخضوع للصفرة الذابلة، حتى أنك تقترب منها كي تستبين نوعها من عروشها، مع أن حقول القلقاس تقدم لك رونقها من مسافات بعيدة، حتى لو كنت مستقلا لقطار أو سيارة تحول بينك وبين الإمعان اللازم، كما أن كثيرا من الأشجار الوارفة تصل إلى ذروة الذبول لتبدو ملامح جافة لأنثى فقيرة مسنّة، نبات واحد ناعم طيب يظل يهرب من الصقيع، يستقبله ليلا وينفثه صباحاً، إنه البرسيم، يساعده على ذلك تعدد مرات جمعه في أكوام قبل أن تخترقه بللورات الأذى الثلجية.

نعم: البرسيم، ذلك الأخضر الذي يفترش أرض الشتاء، والذي يطلق الناس عليه في بلادنا "الربيع".

وما يكاد فبراير/ طوبة يزحف راحلاً للأفق، وتتسلل مويجات الدفء من الأماكن الغامضة، حتى تبدأ الطبيعة في إعداد نفسها لأجمل أيامها ولياليها، تنظف جسدها ومواطىء بهجتها من بقايا نوم وأعشاب ووسن وانطواء وكمون وجفاف، ثم التثاؤب المنساب في الأوصال سخونة ويقظة وخضرة، وكلما اهتزت الأغصان تطايرت رياح أمشير بالبقايا الناشفة، لتترك الفرصة الواسعة لانفلاق الخشب استشرافا للبوادر الرقيقة الناعمة الرقيقة الخضراء. إنها الصوت الكامن الذي يصيبه التوتر في فيولينا "كمان" فيفالدي بعد اندحار برد الشتاء تحت سطوة دفء الربيع. إن اللحن يكاد يتقافز فور انسلاخ الجلد البارد والتقاء الجسد بالطبيعة دون فاصل في "الفصول الأربعة"، حتى تكاد ـ من أثر حدة نغمات الكمان المتراقصة أن تتقافز معها، إنها ـ بعد ذلك ـ تجتاحك اجتياح الطاقة الغامضة للعجول الصغيرة المتقافزة حول أمهاتها، ثم تقافز أمهاتها في محاولة للانفصال بحثا عن علاج يشبع الجوع الغامض الجديد، هذا الذي تلمسه ـ إن كنت تستطيع استقبال شروق الشمس يا ابن المدينة ـ في استغراق قمم الجبال إنصاتاً للمعابثة الحارة وهي تنظر في لذة إلى آفاق الوادي الأخضر.

حينذاك يصبح مناسباً للطيور أن تتشاكس، وتتنافر، وتتضارب، وللثعالب أن تخترق أسوار الأكواخ، بعدها سيكون الجو أكثر دفئاً لتنطلق كيزان النخيل بخضرتها الباهتة منبثقة من بين جُمّار الجريد، وسوف تلتقي بجلود ثعابين متناثرة وممزقة، وغربان تحوم حول منطقة كتاكيت، ومشاجرة بين أب وابن تؤدي إلى الطرد ـ والأم تبكي في حياد ناصحة ابنها أن ينتظر الفرج في الموسم ـ الربيع ـ القادم، ثم بعض الهمس عن صبية تسللت آخر النهار إلى ما يدعو للقلق، وفي عزف سريع سوف تتأود أزاهير وورود في بقع متباعدة كأنها تخشى همس التقارب، ويظهر زهر الفول الأبيض بالنقطة السوداء في إيقاعات كسول لبطة تبحث عن مكان تبيض فيه، لكنها ـ ومع اصطدامها بدوائر النسيم ـ تنتشي دلالاً على إيقاع أنغام بيتهوفن في الباستورال الريفية، ويقشعر جسد الكون ثم يتمدد فتنطلق الضفادع على سواحل البرك لتعزف نقيقها، ويبحث الخفراء عن موقع في النور، وتتصادم الجديان والكباش فتظل الماعز والشياه تنتظر، ويقعى الجمل مصدراً صوته المشابه لانسكاب المياه من القلة ثم يقف فيرغي ويزبد مطارداً ناقته، وينطلق ذكر الجاموس عاصفة مخترقاً جماعات البهائم المندهشة، وتتلاقى رقاب حمارة وحمار في مداعبة وتعانق رغم صراخ راكبيهما، وتبدأ الخنافس في التحرك خارجة من جحور العقارب، ويلامس النسيم وجه المياه فتشعر الترعة بالحرج، وتنشأ دورات من المطاردات بين تنظيمات الكلاب المثقلة بالرغبة والتوجس فتزداد كلوبتها، وتترنح الصقور في الأعالي مصدرة أصواتاً قلقة، وبعد منتصف الليل تغادر النساء الرجال كي تطمئن على عدم استحلاب العجول لاثداء الأبقار، وتمتلىء السراديب بالأرانب الصغيرة ذات العيون المشعة، ويصطاد المحرومون الهدهد ليذبحوه ويحمصوه فيكون رسالة وحجاباً لتقريب الحبيب المبتعد، لتظل الفراشات تداور الزهور المتراقصة في الشمس.

وخلالها تتواكب موجات الهواء الخارجة على النسيم لتصبح ريحاً، وتعلو أصوات أغاني العشق والحب الكائن والذي كان، ويصيب الرمد العيون، والعطس الأنوف، والحمّى الأجساد، والشروخ الأصوات، حيث يتخلص الجو من بقايا السحب ومشائم الولادة والدوار الغامض.
فقد بدأ الربيع ـ سريعاً ـ يرحل، ممهداً الكون لاستقبال الخماسين.

 

محمد مستجاب