جمال العربية
الروح القدس أحمد مخيمر صوت شعري متميز بين كوكبة الشعراء التي التمعت أسماؤها في ختام الثلاثينيات ومطالع الأربعينيات من هذا القرن وعرف أصحابها بجماعة أبوللو الشعرية، التي تعد واحدة من كبريات حركات التجديد في الشعر العربي الحديث، وكان من نجومها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل ومحمود أبو الوفا وأحمد فتحي وطاهر أبوفاشا وغيرهم. وكان أحمد مخيمر من بين كل هؤلاء أكثرهم ميلا ـ من حيث الطبع والتكوين ـ إلى الفكر والتأمل والنزوع الفلسفي، مما سيجعله يتجه إلى كتابة لزوميات مخيمر على نهج لزوميات المعري، وإبداع ملاحم شعرية تمزج بين روح الشعر وعمق الفكر ونفاذ البصيرة والتأمل. كما صنع في "أشواق بوذا" و"الروح القدس". وقد ولد أحمد مخيمر سنة ألف وتسعمائة وأربع عشرة، وكان رحيله في عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين، بعد أن خلف عددا من الدواوين الشعرية الناطقة باقتداره الفني، وصوته الشعري المتميز، وتفّرده ـ من بين أقرانه بالتحليق إلى آفاق عالية من البصر والتأمل. من أبرز هذه الدواوين: ظلال القمر "1934" وأنفاس في الظلام "1935" ولزوميات مخيمر "1947" والغابة المنسية "1965". وفي الملحمة الشعرية الطويلة "الروح القدس" التي تبلغ خمسة آلاف ومائة وخمسين بيتا وعدد مقطوعاتها ألف وثلاثون مقطوعة كل منها تتكون من خمسة أبيات ـ في هذه الملحمة يجمع الشاعر بين الروحي والوطني والقومي والإنساني، ويتدفق وجدانه بأنغام هذا العالم الشعري الشديد الغنى والامتلاء، الذي يؤكد الشاعر من خلاله انتماءه العميق لوطنه وإنسانيته، وحرصه على أن يكون صوتا في قافلة التقدم والتنوير، وأن يرد عن وطنه العربي كل ألوان الغدر والاستعباد، داعيا إلى أن يكون الإنسان في مستوى اللحظة والموقف والوجود، وأن تتماس صفوف الأمة من خلال عمل موحد، وألا تيأس مهما تراكمت الأحزان وادلهمت الظلمات وأوشك الناس أن يفقدوا إيمانهم بالغد. في ملحمة "الروح القدس" يطلب جبريل من الحضرة العلية أن يأذن له بالهبوط إلى الارض في صورة بشرية ليعيش بين الناس ويحيا مشاعرهم وأفكارهم، ويوجههم إلى القيم والمثل العليا. لقد ظل طويلا يهبط إلى الرسل بالرسالات التي يبلغونها للبشر، أما الآن فهو يريد أن يهبط إلى الأرض، وأن يبلغ الناس مباشرة، وأن يوضح لهم طريق الصواب. وسرعان ما تمضى أحداث الملحمة، لقد استجابت الحضرة العلية لرغبة جبريل، الذي تحول إلى روح عارمة تدفع الشعب إلى الإيمان العميق بقوته، وبقدرته على النضال من أجل مستقبله، والثقة الكاملة في النصر على أعدائه مهما بلغوا من القوة والبطش، ومهما بالغوا في خداعه وتضليله. وتتصاعد الأحداث في الملحمة الشعرية وصولا إلى توهج النضال من أجل تحرير فلسطين من قبضة العنصرية الفاشية، وتدعيم كفاح الفدائيين، حيث تحل النهاية، وتصل الملحمة إلى ختامها. أما اللغة الشعرية التي أبدع بها أحمد مخيمر ملحمته فيقول عنها صديق ورفيق عمره الشاعر عبدالعليم عيسى في تقديمه لها: "شعر أحمد مخيمر يمتاز بإحكام النسج، وجمال التصوير، وانتقاء اللفظ الدال المعبر بأمانة عن شعوره وإحساسه، يساعده على هذا ملكة فنية، وملكة لغوية، واستعداد فطري متميز، لكنه قد بلغ الذروة في شعره في الطبيعة. فقد كان من الشعراء الأقلاء في الأدب العربي ـ قديمه وحديثه ـ الذي كانت بينهم وبين الطبيعة بجميع صورها وأشكالها قرابة نفسية حميمة، وتعاطف وثيق موصول. لقد كان دائم الاندماج فيها، والاتحاد بها، والنفاذ إلى مكنونها، واستشفاف أسرارها، والإصغاء إلى همسها وأصواتها وأنغامها. وهو بهذا يغاير الشاعر العربي القديم الذي كان يقف عند مظاهر الطبيعة الخارجية، ولا يتعمق طواياها، ولا يحس علاقاتها، ولا يرى فيها تجسيداً لمشاعره وحالاته النفسية. وفي ملحمة "الروح القدس" شواهد بديعة على قدرة مخيمر وتفننه في إبداع اللوحات الشعرية المعبرة عن الطبيعة، وتجسيد هذه الصور الجميلة من خلال لغة صافية ومعجم شعري موفور الدلالة، وإيقاع موسيقي متناغم: ومن أجمل الصور الشعرية التي تضمنتها هذه الملحمة البديعة "الروح القدس" لوحة يصور فيها الشاعر جبريل وهو ينفخ في نايه مصدرا أنغام الصفاء والنورانية والهداية، محققا بها لسامعيه نشوة عليا وجلوات روحية عميقة يقول أحمد مخيمر إنه بدأ في كتابة هذه الملحمة في يونيو 1950 ثم توقف في سنة 1951 حتى سنة 1964 ثم واصل الكتابة بعد ذلك على فترات متقطعة حتى أتمها في منتصف الستينيات، ومن هنا يلمس القارىء أسباب تغير الأسلوب والأفكار عبر مقاطع الملحمة وداخل سياقها الممتد. لقد ازداد الشاعر مع الأيام نضجا ووعيا وإيمانا بالحركة الوطنية والقومية وتأملا واستبصارا بالفكر الواقعي، فكر التقدم والاستنارة. يقول أحمد مخيمر:
|
|