بين عامي 1908، 1938 عاش الشاعر محمد عبدالمعطي الهمشري.. وهو شاعر لإيكاد يذكره الآن أحد، بالرغم من أنه صوت بارز في الحركة الشعرية الرومانسية التي عرفت باسم جماعة شعراء أبوللو، وكان في حياته القصيرة وشعره، واحدا من شعراء الطليعة في مستهل ثلاثينيات هذا القرن، في مصر والوطن العربي: على محمود طه و إبراهيم ناجي و محمود حسن إسماعيل والهمشري.

في مدينة المنصورة، على شاطئ النيل في مصر، تألقت موهبة الهمشري بعد أن أخذت قصائده طريقها إلى القراء عبر مجلة " أبوللو " ومجلة "التعاون " والمنصورة- كما يقول الشاعر صالح جودت- الذي كان شاهدا على هذه الحقبة من حياة الهمشري- مدينة تنبت الشعر والجمال، وتلهب القلب والخيال، ويشتهر رجالها بالظرف والذكاء والإغراق في حب الأدب والفن، كما تشتهر نساؤها بالجمال والخفة والشاعرية. كما أن بها رائحة التاريخ منذ عهد الأيوبيين وانتصاراتهم في الحروب الصليبية، ولا تزال بها حتى اليوم دار ابن لقمان التي حل بها لويس التاسع ملك فرنسا أسيرا، وحديقة كبيرة تحمل اسم الملكة الأيوبية شجرة الدر.

من ينابيع الشعر الإنجليزي استقى الهمشري ثقافته الأولى، متابعا خطى شعراء الرومانسية الإنجليزية الكبار: شيلي وكيتس وبيرون ووردزورث. وجذبه إليهم أن طبيعته المرهفة ونزعته العاطفية المغرقة وجنوحه إلى الخيال المحلق بكل انطلاقاته وقدرته على استدعاء الصور الشعرية كان ذلك كله مماثلا لحال هؤلاء الشعراء الذين حاكاهم حتى في الموت، فقد رحلوا في رونق الشباب ويفاعته، ورحل هو في الثلاثين!

وفي شعر الهمشري التفاتة عميقة إلى الطبيعة المتميزة في ريف مصر، وقصائده عن شجر النخيل والفراش الأصفر وعودة الراعي وشجرة الليمون واليمامة وأغنية الفلاح المصري لجاموسته الصغيرة والقرية المهجورة وأحلام النارنجة الذابلة وأنشودة النيل وحدائق الشفق تنطق كلها باحتضان وجدانه لهذه العناصر والقسمات في لوحة الطبيعة الريفية، وانحنائه الإنساني على إنسانها الذي طحنته ظروف الحياة القاسية وعذبته معاناته الطويلة في رحلة الحياة وشظف العيش. وتوشك هذه القصائد أن تكون سابقة لقصائد محمود حسن إسماعيل التي يضمها ديوانه الأول " أغاني الكوخ " أو هي مساوقة ومواكبة لها في الزمن. ويبدو أن الشاعرين معا قد هزهما- كما قز غيرهما- تغنّى الرومانسيين الإنجليز بالطبيعة في بلادهم وشدوهم لعناصرها المختلفة من طير ونبات وإنسان وحيوان، وكانت ترجمات عدة لقصائد هؤلاء الشعراء قد بدأت تأخذ طريقها على صفحات المجلات الأدبية وتحدث تأثيرها السريع في إبداعات الشعراء.

لكن للهمشري مدخلا ثانيا إلى الاهتمام بالريف واحتواء وجدانه لعالمه وعناصره ومفرداته. فقد أتيح له خلال عمله في مجلة " التعاون "- التي كانت تصدرها وزارة الزراعة- التعرف على الحركة التعاونية، وشاعرها الأيرلندي الكبير جون راسل، الذي كرس حياته للدعوة من أجل النهوض بالريف، ورفع مستواه وإقامة ما يسمى بالحضارة الريفية.

ووجد الهمشري في دعوة " راسل " المعنى الذي يرجوه لحياته، فجعل من شعره وسيلة لتحقيق هذه الرسالة التي نذر من أجلها حياته وفنه: الدعوة إلى الاهتمام بالفلاح وإسعاده والعناية بالأرض مصدر الخير والعطاء.

وفي لغة الهمشري- كما في شعر الرومانسيين الكبار- المعجم الشعري المترف، الذي أحسن اختياره، والعناية بمفرداته، والإيقاع الموسيقي اللافت، الذي ينبض بإيقاع النفس وموسيقى الوجدان، والقدرة الفذة على التصوير والتجسيد، وتحويل المعنويات إلى محسوسات لها صوت وملمس ورائحة ولها أيضا خيال محقق لا محدود. وفيها أيضا هذا التأثر الواضح بالشعر المترجم، عبارات وتراكيب وهندسة أسلوب. وفي شعره تفوح أشواق الرغبة العارمة في امتلاك الجمال، والشوق الحميم لعناصر الحياة، وفوران القلب المفعم بالمشاعر والعواطف الجياشة، التي تصدر عن شباب فوار، ووجدان ممتلئ ونفس شديدة التطلع، عميقة النظرة والتأمل.

يقول في قصيدته " إلى جتا الفاتنة في مدينة الأحلام- وهي القصيدة التي يقدم لها بكلمات تحمل إهداء القصيدة إلى ملهمته، مع أزهار سحرية من حدائق الخيال وبساتين الشفق- وتظل القصيدة تتأرجح ما بين خيال أسطوري بعيد، وواقع قريب المتناول تجرده صور شعرية مستلهمة من الطبيعة والريف، يقول الهمشري:

ها هو الليل قد أتى، فتعالي
نتهادى على ضفاف الرمال
فنسيم المساء يسرق عطراً
من رياض سحيقة في الخيال

***

صور المغرب الذكى رباها
فهي تحكي مدينة الأحلام
نفحت في الخيال منها زهور
غير منظورة من الأوهام

***

ووراء السياج زهرة فل
غازلتها أشعة في المساء
نشر النسم سرها وهو يسري
في مروج مطلولة الأفياء

***

ودهاليز من ظلام ونور
صورت سحرها يد الأطياف
عشش البلبل الخيالي فيها
ساكباً لحنه الحنون الصافي

***

إن هذه الأزهار تحلم في الليل
وعطر التاريخ خلف السياج
وخرير المياه، والشفق السحر
وهمسا من النسيم الساجي

***

والندى والظلال تنعس في الماء
وهذا الشعاع خلف الغمام
بعض ألحانه تأنق فيها
فتراءت في هذه الأجسام

***

أنت لحن مقدس علوي
قد تهادى من عالم نوراني
سمعت وقعه السماوي روحي
فأفاقت في معبدالأحزان

***

أنت حلم منور ذهبي
طاف في أفق عالم مسحور
وتجلى على غياهب روحي
بجناح من الضياء البشير

***

أنت عطر مجنح شفقي
فاوح الروح في همود الذهول
قد سرى في الخيال طيب شذاه
من زهور في شاطئ مجهول

***

أنت ظل مقدس، أنت كهف
طائفي في ربوة الأحلام
غمر الروح في سكينتها السحر
فتاهت عن عالم الآلام

***

أنت كوخ معشوشب في رباة
مقمر الصمت سرمدي الخيال
نعست روحي الكليلة نشوى
فيه ترعى فجري هذا الجمال

***

أنت صمت مخيم، ففضاء
فظلام، فكوكب، فنهار
فهمود تدب فيه حياة
ويغني في فجرها النوبهار

***

أنت كل الحياة أنب كياني
أنت روحي أبصرتها في سباتي
أنب وحيي مجسداً، أنت لحني
ياسماء على سماء حياتي

***

أنت أغويتني بأن ألقاك
خلف سور الحياة، فوق رباك
غير أني بحثت عنك طويلاً
وأخيراً تعست تحت ذراك

***

أيقظيني من الذهول، وغني
ياملاكي على طلول حياتي
أرشديني إلى الضياء، وإلا
فاتركيني أهوي إلى ظلماتي

***

وعلى عالمي الشتائي فيضي
نور دفء يفني ظلامي الحالك
وارفعيني كمعبدقدسي
تتهادى به طيوف جمالك

***

إنني في الظلام أنصب وحدى
خيمة للفناء من آلامي
فاسمعيني، فإنني سأغني
لك " جتا" في وحدتي وظلامي

إن العالم السحري الذي يأخذنا إليه الهمشري في هذه القصيدة، يتزيا بثوب الطبيعة المصرية الذي تشارك في نسجه صور الكوخ والرباة وطائر النوبهار والمروج والأفياء أي الظلال والبلبل والنارنج والسياج. والبلبل في هذا النسيج صدى لقراءات الشاعر في الشعر الإنجليزي أكثر من كونه واقعا مصريا، فالبلبل- كما يقول العقاد في ديوانه هدية الكروان- طائر لإيكاد يوجد في مصر، أما الطائر الذي يشنف أسماع الناس في جنبات الوادي فهو الكروان الذي اتخذ منه كل من الدكتور طه حسين والعقاد تسمية لبعض آثارهما الأدبية: "دعاء الكروان" لطه حسين و "هدية الكروان " للعقاد. ثم هو عالم شعري يكاد يكون صوفياً، يتزيا بثوب الروحانية التي تشيعها مفردات الشاعر ذات الدلالة والإيحاء: اللحن المقدس العلوي- العالم النوراني - الوقع السماوي- الظل المقدس- الكهف الطائفي- ياملاكي- المعبدالقدسي-، بحيث تذوب أنداء هذه الروحانية في ثنايا الصور الشعرية المنتزعة من واقع منظور وتحليق خيال يسبح في اللامنظور.