حول مسابقة العربي للقصة القصيرة.. مجرى جديد للإبداع العربي

حول مسابقة العربي للقصة القصيرة.. مجرى جديد للإبداع العربي
الجريدة المطبوعة صفحة ( - 1 - )

حديث الشهر
القصة في الأدب هي سجل المشاعر، وخزانة الواقع والتاريخ، فليس بكثير عليها أن تحظى بالاحتفاء والاهتمام.

عندما عرض عليّ الزملاء في مجلس تحرير المجلة إعادة إحياء مسابقة العربي للقصة القصيرة لم أستطع أن أخفي ترددي، وللحقيقة فالتجربة التي خاضتها المجلة من قبل في هذا المجال لم تشجعني كثيراً.

ففي المسابقة الماضية التي أعلن عنها في عدد يناير 1985 وظهرت نتيجتها في عدد يناير 1986 لم تنهل علينا الآلاف من القصص فقط ولكن انهالت معها عشرات الاتهامات ما بين قصة مسروقة وأخرى مترجمة وثالثة سبق نشرها، ثم جاءت ثالثة الأثافي كما يقولون عندما تبين أن القصة التي احتلت المركز الأول وفازت بها سيدة لا داعي لذكر اسمها، لم تكن هي كاتبة القصة، ولكن الكاتب الحقيقي كان هو زوجها والذي كان بالمصادفة كاتبا معروفا لا داعي لذكر اسمه أيضا.

الزملاء بدورهم حاولوا إقناعي بأن هذا الأمر ليس ذنب المجلة ولا اللجنة التي كلفت بفحص القصص، بل إن هذا الاختيار هو دليل على جودة اختيارهم. فقد اختاروا القصة ولم يختاروا الاسم. وفي كل عمل عام لابد من حدوث مثل هذه التجاوزات بل إنه يحدث في العمل اليومي للمجلة نفسها، فكم من كاتب أباح لنفسه أن يرسل لنا مواد سبق نشرها، وكم من آخرين سطوا دون وازع من ضمير على أعمال غيرهم.

تجاوزات عديدة تم سردها، وتبريرات مختلفة حاولت الوقوف بين التهويل والتهوين، وأنه لا يصح إلا الصحيح حيث لا تزر وازرة وزر أخرى. وهكذا تمت الاستجابة لمطلب إعادة التجربة تفاعلاً مع النوايا الطيبة للحديث عن الدور التنويري الذي تقوم به العربي وأن عليها مهمة في إحياء الإبداع القومي وتشجيعه وأن هناك أجيالا جديدة من عشرات المؤلفين الصغار ينتظرون فرصة تأخذهم إلى دائرة الضوء فإذا فعلت ذلك مجلة واسعة الانتشار ولها اسم عريق وسمعة طيبة كالعربي فسوف تكون هذه فرصة نادرة لا تتكرر وغير ذلك من عشرات الأسباب والحجج. أبرزها أن العربي لم يخل أي عدد من أعدادها من القصة العربية، بل وقد ساهمت أخيرا في نشر هذا الفن فنشرت فيه أكثر من ملف من مختلف البلدان العربية. وما دامت قد فعلت ذلك فعليها أن تتم دورها.

ماذا كان يمكن أن أفعل؟

بدأنا عن الإعلان عن المسابقة في عدد يناير 1996. وكان المخطط أن ينشر لمرة واحدة فقط، ولكن ردود الفعل السريعة طالبت على الفور بنشره أكثر من مرة وكذلك إطالة فترة قبول المساهمات أمام المشتركين، برغم أننا قد وضعنا أسهل مسابقة من نوعها، فلم يوجد فيها أي شروط تضع حدا للسن أو الموضوع أو الجنسية. كانت مسابقة قومية في طموحها الذي توسمته العربي، مفتوحة لكل الأعمار ولكل الموضوعات ولكل كاتب العربية هي لغته أو يتسطيع أن يكتب بها. ثم جاءت مساهمة دار سعاد الصباح كي تدعم هذه الجائزة أكثر ماديا وأدبيا. كل هذا الأمر جعلني أنسى كل المحاذير السابقة وأبدأ في التفكير من جديد في مسابقة عربية قومية تكون مستمرة، وهي الوحيدة من نوعها، تحتضن الإبداع العربي وتكشف في كل عام عن أسماء لم تعرف الأضواء فتكرم موهبتها وتضعها على الطريق الصحيح، أي أننا بالتدريج وجدنا أنفسنا في خضم تحقيق أحد أهداف المهمة الأساسية التي قامت العربي من أجلها.

ثم بدأت القصص في التدفق على المجلة، بطيئة متناثرة في أول الأمر ثم ازداد الإيقاع والتدفق وأخذت تصل إلى المجلة بمختلف الطرق والوسائل، بالبريد العادي والسريع والمسجل، وباليد والفاكس، بالحضور إلى مقر اللجنة، أو بتكليف أقارب لهم يعملون في الكويت لإيصالها كأننا قد فتحنا السد أمام نهر كانت مياهه متوترة وكامنة. وبدأت أكوام القصص في الارتفاع حتى لم تعد تكفي الملفات المؤقتة التي كنا قد أعددناها. وقبل إغلاق باب المسابقة كان العدد قد وصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة قصة مختلفة الحجم. بعضها قصير جدا لا يتجاوز الصفحة الواحدة وبعضها يكاد يصل إلى حجم الكتاب... وبات واضحا أننا أمام ظاهرة تستحق التوقف، وتستحق التساؤل أيضاً: لماذا هذا الشغف بهذا الفن.. وهل هو مناسب للتعبير عن الذات العربية أكثر من غيره من الفنون? أم أنه فن سهل التعامل معه لايتطلب الخبرة الإنسانية العميقة وطول النفس الذي هو من أهم خصائص الرواية، ولا يتطلب اللغة والإيقاع والموسيقى كما في كتابة القصيدة? هل هذا مبرر لأن كتاب القصة لم يعودوا يعدون بالعشرات أو بالمئات بل بالآلاف أيضا... وهل لدينا حقا ثلاثة آلاف وخمسمائة كاتب قصة في العالم العربي?.

فن الحساسية الخاصة

مما لاشك فيه أن القصة القصيرة فن بالغ الحساسية، فهو جرعة مركزة كل شيء مستخدم فيها بقدر دقيق، إنها تأخذ الكثير من اللغة الشعرية المستخدمة في القصيدة، وتقتنص لحظة من لحظات الرواية ولكنها ليست كأي لحظة وإنما تجمع في ثوانيها المعدودة الماضي والحاضر والمستقبل، وتأخذ الموسيقى لمسة من الإيقاع اللاهث، ومن علم النفس شخصياتها المتفردة الوحيدة دوما. إنها فن الفنون في صورة مكثفة، لذلك فإن التعامل مع هذا الفن يتطلب نوعا من المهارة الخاصة، لذا فإنني ـ لا أخفي عليك ـ قد انتابتني الحيرة وأنا أشاهد كل هذه الكمية المتراكمة في إدارة المجلة.

هل أصبح هذا الفن بتلك الدرجة من الأصالة بحيث يستقطب كل هذا العدد الكبير.. أم أنه فن وارد علينا مثل العديد من الفنون أصبح علينا أن نمارسه بحكم ممارستنا لمنتجات الحضارة المعاصرة?.

البعض يميل لاعتبار القصة القصيرة أحد الفنون الجديدة الوافدة علينا، بل إن كثيرا من النقاد الغربيين يميلون إلى أنها هي أيضا أحد الفنون التي ارتبطت بصعود الطبقة الوسطى وظهور سكان المدن بمعناها المعاصر. ففي المضمون هي تركز على الإنسان المفرد... المختلف الذي قلما نجد له نظيرا في الواقع. وقد كان تشيكوف وهو واحد من أفضل كتاب القصة القصيرة يقول: كلنا خرجنا من معطف (جوجول) وهو يعني بذلك قصة المعطف الشهيرة التي ألفها نيكولاي جوجول عن ذلك الموظف البائس الذي كان يعيش في أحد أقبية مدينة بطبرسبرج الباردة والذي حلم كثيرا بمعطف دافىء من الفرو فأخذ يجمع الروبل على الروبل حتى تحقق حلمه أخيراً واشترى المعطف وإذا به في اليوم الأول من ارتدائه يفاجأ بأحد اللصوص وقد انقض عليه وأخذه من فوق كتفيه. لقد تجمد الموظف المسكين من شدة البرد والأسى ولكن شبحه ظهر في الشوارع يطارد الناس ويأخذ من فوقهم كل معاطف الفرو التي يتدفأون بها.

بهذه القصة، بهذه الشخصية الوحيدة المنعزلة الهامشية. بدأ ـ في رأي البعض ـ تيار القصة القصيرة، حتى أن فرانك أوكونور يقول في كتابه المهم (الصوت المنفرد) إنها فن الجماعات المعزولة التي لا تجد من يعبر عنها. فالرواية هي فن تجسيد الحياة وإعادة روايتها مرة أخرى وهي شهادة على عصر ما، في زمن ما، يمكن أن نقرأ من خلالها حركة المجتمع. أما القصة، فهي تغوص داخل ذات الفرد لتجسد مواجهته الدائمة للأسئلة الصعبة التي يطرحها عليه الكون والحياة. وهي ليست ابنة المدينة كالرواية، ولكنها ابنة المجتمعات الصغيرة التي يتكون منها معظم عالمنا العربي، ولعل هذا أحد أسباب ازدهارها كما يقول الدكتور إحسان عباس.

جذور القصة

ويخالف البعض هذا الرأي إذ يصرون على أن للقصة جذورا بعيدة موغلة في القدم، تعود في الأدب الغربي إلى خرافات إيسوب ذلك الكاتب اليوناني الذي صاغ الحكمة على ألسنة الحيوانات. ونجد مثيلا لهذا الأمر في كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع عن الفارسية. كما نجده أيضا في عشرات الأخبار الصغيرة والمقامات المتناثرة في الأدب العربي، بل إن البعض يؤكد أن نشأة القصة الغربية الحديثة مدينة في أساسها للأدب العربي ففي عام 1253 ميلادية وفي عصر الملك الفونسو العاشر ملك إسبانيا ترجم إلى اللغة القشتالية كتاب مكائد النساء وحيلهن). في ذلك الحين، وهو عبارة عن 26 قصة قصيرة تشبه في بدايتها إلى حد كبير قصة سيدنا يوسف عليه السلام ومحاولة إغواء امرأة العزيز له، كما صورها لنا القرآن الكريم وهي هنا تمثل الخيط الظاهري الذي يربط بين حكايات الكتاب، وإن كان يربط الكتاب رابط خفي هو أنها كلها تدور حول مكائد النساء وحيلهن التي تفوق أحيانا حيل الشيطان. ويعتمد الكتاب في أساسه على حكاية زوجة الملك الصغيرة التي حاولت أن تغوي أحد أبناء الملك فلما لم يستجب لها وقام بصدها، أسرعت الزوجة لتبلغ الملك أن ابنه هو الذي حاول إغواءها، الأمر الذي أغضب الملك وجعله يأمر بقتل ابنه. ولكن وزراء الملك ـ وكانوا من الحكماء ـ أمهلوا الملك قليلا قبل أن ينفذ وعيده وأخذوا في كل يوم يقصون عليه قصة مختلفة تدور في محورها جميعا حول كيد النساء الذي يغلب دائما كيد الرجال. وبعد هذه الفترة هدأ الملك، ربما بفعل القصص وربما لأن المدة قد استطالت، وعفا عن ابنه. ويلاحظ أن هذا هو نفس (التكنيك) الذي اتبعته شهرزاد في إطفاء شهوة القتل عند شهريار. المهم أن هذا الكتاب قد انتقل من اللغة القشتالية إلى بقية اللغات الأوربية شعراً ونثراً. وكان هو الأساس الذي بنى عليه الكاتب الإيطالي الشهير بوكاشيو كتابه (الديكاميرون). وهي تعني الليالي العشر التي تصف كيف انتشر الطاعون في إحدى المدن الإيطالية فأغلق أهل البلاط أبواب القصر عليهم لمدة عشرة أيام كاملة وأخذوا جميعا ـ رجالا ونساء ـ يقصون على بعضهم القصص المختلفة عن الحب والعشق وخاصة عن الحيل التي يتبعها الأزواج أو الزوجات لخيانة شركائهم. وبرغم أنها في معظمها كانت متأثرة بالقص العربي القديم فإنها قد أضافت إليه لمسة من الإباحية لابد وأنها كانت سائدة في هذا الزمن.

في (الديكاميرون) نشأت القصة ـ على اعتبار أن فن القص يشمل الروايـة أيضـا ـ بمعناها المعاصر، انتقلت من البلاط المغلق إلى عالم المدن الصغيرة وجاء أختراع المطبعة وانتشار الصحافة بعد ذلك لتتحول القصة إلى سلعة مطلوبة ووسيلة ضرورية للتعبير عن لحظات القلق والحزن والسعادة في حياة الإنسان.

ولعلني أميل إلى أن القصة القصيرة هي مولود حديث سواء في الأدب الغربي أو العربي. فليس قصر الحجم مبررا لأن نربطها بالأمثولة الخرافية عند إيسوب أو نوادر التراث العربي. إنها عمل فريد وخاص في شكله ومضمونه. فكل هذه الأشكال كانت تعبيراً عن ذات الجماعة البشرية في مرحلة من مراحلها المختلفة محصلة خبرتها الجمعية.. ولكن القصة القصيرة تتصل وتعبر عن الذات الفردية في مواجهة أسئلة الكون (العويصة). إنها لا تعبر عن مجموعات بشرية. ولكنها تعبر عن أفراد بعينهم بكل ما فيهم من سواء ومن شذوذ.

ثلاثة رواد

ولعل تاريخ تطور القصة على يد ثلاثة من أهم أفرادها هو الذي رسخ هذا الاتجاه، فمن الغرب الأمريكي جاء إدجار آلن بو، شاعر سوداوي النزعة يميل إلى الوحدة والتفرد ليكتب قصصا غريبة مليئة بقصور القرون الوسطى بكل ما فيها من أرواح هائمة معذبة وعشاق ينسجون وشائج علاقاتهم بالدم. وربما كان إدجار آلن بو هو رائد قصص الرعب والتشويق التي ما زالت تخاطب النفس حتى الآن.

ومن أوربا جاء الكاتب الغزير الانتاج جي دي موباسان الذي ألف حوالي 53 مجلدا مليئا بالقصص القصيرة وشرح من خلالها العديد من أنماط المجتمع الفرنسي بدءا من نساء الطبقة الراقية ومغامراتهن مع عشاقهن إلى فلاحي الجنوب البخلاء وصراعهم الدامي من أجل السيطرة والمال.

ولعل موباسان هو صاحب أكبر متحف من الشخصيات التي عرفها الخيال القصصي إلى الآن. ولكنه مات ضحية هذه الخيالات عندما داهمته الوساوس السوداء والملانخوليا وقضى بسببها.

ولكن اكتمال القصة المعاصرة كان بلاشك على يد ذلك الكاتب الذي جاء من أصقاع روسيا الباردة أنطون تشيخوف، ذلك الطبيب النحيف الجسم، الذي مات مثل زميليه بو وموباسان، في الأربعينيات من عمره ـ دخل باب القصة القصيرة من باب تعاطي الرزق حين كلفته إحدى الصحف بأن يكتب لها كل أسبوع قصة فكهة يسلي بها القراء، ولأنه كان مفلساً فقد قبل العرض وبدأ يكتب حكاياته كل أسبوع. ولأن موهبته كانت فياضة فقد تحولت هذه الحكايات إلى قصص قصيرة رائعة مليئة بالسخرية. لقد جعلنا نضحك من موظفي الأقاليم الذين لا يفيقون من شرب الفودكا، ومن ملاك العقارات البلهاء، ومن الفتيات المغرورات، والأهم من ذلك أنه زرع في داخلنا تعاطفا قويا مع كل هذه النماذج البشرية ولا أنسى ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن ينسى قصة (كآبة) إذا قرأها مرة واحدة. إنها عن حوذي تعيس مات ابنه ويريد أن يقص على أي واحد مأساته، ولكن كل الركاب مشغولون بأنفسهم كل واحد منهم يطلب منه أن يسرع بالسير وأن ينظر أمامه. لا أحد يهتم به أو يأبه له. وفي آخر الليل يعود الحوذي التعيس إلى الحظيرة ويجلس أمام البغل الذي كان يقود عربته ويقول له في أسى:

لنفرض أنه كان لديك بغل صغير ومات.. ويبدأ في قص حكايته عليه.

كتب تشيخوف عشرات القصص، وظلت لمساته المؤثرة عنصراً سائداً في القص العالمي لفترة طويلة. وأعتقد أن العديد من القصاصين العالميين والعرب قد خرجوا من معطفه كما خرج هو من معطف جوجول.

هناك العديد من فرسان القصة القصيرة ولكني ركزت على هؤلاء الثلاثة ليس بسبب ريادتهم لهذا الفن فقط ولكن لأن كل واحد منهم ترك طابعه المميز عليها، وقد دعا هذا بعض النقاد للقول إنه لا توجد قواعد للقصة القصيرة، وأن كل كاتب عظيم يكتب بقواعده الخاصة، وأن هذا الشكل الصغير المطاط قابل للتشكل مع مختلف الظروف تبعا لموهبة الكاتب ولكني أعتقد أن هناك قواعد أساسية يجب على الأقل أن يتوافر بعض منها في كل قصة جيدة.

أول هذه القواعد هو وحدة الانطباع، فالقصة القصيرة عليها أن تسعى منذ السطور الأولى إلى هدفها، لا تتشتت ولا تشتت ذهن القارىء معها ولكن يجب أن تنظمها جميعا وحدة شعورية واحدة، لا تتعدد فيها الشخصيات أو الأماكن. كما أنها تصور لحظة قصيرة يمكن اختصار أزمنة عديدة فيها، لحظة غاية في التركيز والدلالة على مصير الشخصية التي تتعرض لها. كما أن نسيجها اللغوي يكون مختلفاً، يساهم في خدمة الشخصية الرئيسية بحيث تفكر اللغة بنفس الطريقة التي تفكر بها شخصية القصة. وأن تكون اللغة في خدمة المضمون.

كما أن القصة يجب أن تهتم بالشخصية بأبعادها الجسمية وأبعادها العقلية والاجتماعية أيضا. وكذلك لابد من أن توجد العقدة التي تواجهها هذه الشخصية والتي تظهر من خلالها كل سماتها النفسية والتي تؤدي إلى الصراع الدرامي.

وليس من الضروري أن تجتمع كل هذه القواعد معا في قصة واحدة، ولكن على الأقل تحرص على البعض منها حتى لا تفقد القصة روحها وتتحول إلى مجرد مغامرة نثرية لا نطلق عليها قصة بل كلمة (نص) كما يفعل الكثير من شباب القصة هذه الأيام.

القصص ومتاعبها

ولعل هذه المقدمة تقودنا إلى حال القصة في عالمنا العربي، فهناك الكثير الذين يدعون ريادتها. تختلف الأسماء وتختلف تواريخ نشر أوائل القصص. هل هو محمد تيمور من مصر أو هو ميخائيل نعيمة من لبنان. ولا يهم هذا الآن، المهم أنها جاءت ثمرة احتكاكنا بالثقافة العالمية وكان لابد أن نخرج من عالم المقامات لنجد وسيلة للتعبير عن ذاتنا حتى ولو جاء القالب من الخارج.

والأهم من ذلك أيضا أن العشرات من كتابنا العرب لم يخرجوا بعد عن هذا القالب، وفي مقابل كل روائي نجد عشرة أو عشرين كاتبا للقصة القصيرة. لا يحدث هذا لمجرد أنها الفن الأسهل بل لأنها الأقرب للتعبير عن بيئات عربية مازالت منغلقة على نفسها والكتاب يجدون في هذا الشكل إحدى وسائل الانعتاق والتعبير عن هذا الأسر.

ولست أريد أن أخوض في تفاصيل الأسماء العربية التي تجيد هذا الفن وتضيف إليه فالأسماء عديدة والمحاولات جديرة بالتقدير ولعل هذا ما دفعنا إلى تبني هذه المسابقة وهأنذا بعد أن ابتعدت طويلا أعود إلى مسابقة العربي للقصة القصيرة.

لقد كان مأزقا حقيقيا لنا ونحن في زحمة العمل اليومي ونستعد لإعادة بقية إصدارات مجلة العربي وأعني بها مجلة العربي الصغير وكتاب العربي أن نفاجأ بهذا العدد الهائل الذي يحتاج للفحص الدقيق حتى لا نظلم أحدا ولا نضيع موهبة. وكان لابد من أن نضع خطة للطوارىء.

في أول الأمر قسمنا القصص إلى مجموعات وتم تكليف كل واحد من المحررين بالقراءة الأولية، قراءة كان هدفها الوصول إلى أفضل ما في هذه القصص والبحث عن المواهب المدفونة خلف السطور. كانت الأسماء محجوبة والقصص لا تحمل سوى أرقام مجردة حتى نضمن الحيدة أولا وعدم التأثر بالأسماء الشهيرة ثانيا. وقد استغرق هذا الأمر كل الإجازات الأسبوعية وإجازات الأعياد بالنسبة لطاقم التحرير لدى المجلة وعددهم ليس بالكثير.

واستمرت القراءة المتواصلة حتى وصلنا إلى العدد الذي اعتقدنا أنه جيد وصالح للدخول في التصفيات قبل النهائية. أتعرفون كم قصة? ثلاثمائة قصة بالتمام والكمال.

وهكذا بدأت المرحلة الثانية. قسمنا القصص إلى مجموعات. كل واحدة منها خمسون قصة وأرسلنا كل مجموعة إلى واحد من أعلام القصة في الوطن العربي، ولا أدري إن كنت أذكر أسماءهم أم لا، فقد جرت العادة في أمثال هذه المسابقات على إخفاء أعضاء لجنة التحكيم حتى لا يتعرضوا للوم أو القدح مما يمثل ضغطا عليهم عند التحكيم لمرة ثانية. المهم طلبنا من كل واحد منهم أن يختار من كل مجموعة خمس قصص فقط وأن يعطي لكل قصة درجة. وقام كتابنا الأعزاء بما لديهم من خبرة بهذا الأمر، وهكذا أصبح لدينا ثلاثون قصة صالحة للدخول في التصفيات النهائية.

ومرة أخرى كونا لجنة من أربعة كتاب، أعطينا كل واحد منهم نسخة من الثلاثين قصة التي وصلت للنهائيات وطلبنا منهم أن يختاروا عشراً من المركز الأول حتى المركز العاشر. وعشرا أخرى صالحة للنشر في كتاب العربي. وكان يجب أن تعقد هذه اللجنة اجتماعاتها في المجلة حتى تتناقش وتأخذ أصواتها بالإجماع قبل إقرار النتيجة النهائية.

وكم يطول جدل الكتاب. وكم ينجذب كل واحد منهم لأسلوب أو فكرة أو تأسره بارقة لم تكتمل عند واحد من الكتاب، ولكنها كانت مناقشة خصبة، أسفرت في النهاية عن تلك النتيجة التي يراها القارىء منشورة في مكان آخر من هذا العدد.

ولقد برزت خلال فرز قصص هذه المسابقة العديد من الملاحظات ربما تؤكد كلماتي التي قلتها سابقا عن القصة القصيرة وما تمثله من دور في العالم العربي، فذات مرة علق أحد الكتاب ساخراً أن الذين يكتبون القصة القصيرة عندنا أكبر بكثير من قرائها. وكان الكاتب الشهير يحيى حقي يحتفي كثيرا بكتاب القصة غير الجيدين لأنهم في اعتقاده سوف يكونون قراء جيدين، لذا فالأمر يستحق الاهتمام.

أولى الملاحظات: أن البعض لا يفهم ماذا تعني كلمة القصة القصيرة، البعض يعتقد أنها حكاية طويلة يكفي أن تروى في اختصار، والبعض يكتفي بجعلها مجرد أداة للوعظ والإرشاد والحض على مكارم الأخلاق، وهناك من لايفرّق بين المقالة وبين القصة وهناك أيضا من لم يغادر أعتاب المنفلوطي حتى الآن.

ثانية الملاحظات أن الإبداع قليل وعسير المنال، ففي وسط هذه الكثرة من الكتابات كان من الصعب أن تجد الفكرة الأصيلة، فالبعض اكتفى بعمل ملخص لبعض أفلام الميلودراما، والبعض وجد من الأسهل أن يأخذ قصة مترجمة ويغير الأسماء فيها ليعتقد أنها بذلك قد أصبحت عربية.

ولكن أغرب ما صادفناه حقا هو ذلك الذي أرسل للمسابقة مجموعة من القصص، واحدة باسمه والباقية بأسماء أولاده، كأنه يتوقع أن الفوز سيتم بسحب القرعة، تخلط القصص كلها ونسحب أي واحدة منها بطريقة عشوائية.

آمال مستقبلية

ولكن هذا لا ينفي الجانب الإيجابي الذي كشفت عنه المسابقة. وهو الأمر الذي كنا نسعى للكشف عنه، أن جذوة الإبداع العربي ما زالت متوقدة، فقد أكدت كثير من القصص أن هناك محاولة مستميتة من الكتاب للخروج عن الأطر المألوفة والتوق إلى الحرية والانطلاق والتجريب، في كل قصة من القصص العشرين التي فازت والتي رشحت للنشر. يبدو هذا واضحا في قصة (أولاد العنزة) من تأليف الكاتب السوري وليد معماري. لغة بسيطة وآسرة كأنها إيقاع شعري، تنهض من خلاله ملامح الجدة التي تعرف المصائر وتحفظ الأحداث، نراها من خلال طفل صغير فيه براءة الاكتشاف الأولى. وبرغم أن أبطال القصة كلهم من الناس المغمورين فإن خلفيتها هي الأحداث التاريخية الكبرى للتاريخ السوري المعاصر. كما يخوض سعدي أمين حسن في قصته (المزلقان) نفس التجربة مع أبطاله الهامشيين في صعيد مصر وهم يعانون من ارتفاع هجمة التطرف والعنف التي دخلت وسط تفاصيل الحياة الأسرية فأصابتها بالعقم. ويقدم لنا عمر أبو القاسم من ليبيا في (أثناء شرب الشاي) تجربة جديدة في فنية القص تنتزع الوهم وتضع القارىء في مواجهة الواقع.

لقد كان بودي أن أتحدث عن بقية القصص الفائزة، فكل واحدة منها من وجهة نظري ومن وجهه نظر المحكمين أيضا قد تم اختيارها لأنها تقدم شيئا طازجاً وجديدا في مجرى الإبداع العربي ولهذا السبب لم نكتف باختيار القصص العشر الأوائل التي أعلنا عنها في المسابقة ولكن تم اختيار عشر أخرى سوف يتم نشرها أيضا.

وإذا أضفنا إلى ما سلف بعض الملاحظات العامة فإننا نختار منها اثنتين أولاهما تتعلق بنسبية الأذواق خاصة في تحكيم الفنون، وبرغم أن القصص الفائزة كلها جيدة، فإن هناك ـ لابد ـ قصصا جيدة لم تفز، لكن غاية العدل ظلت ماثلة رغم كل اختلاف بوضع إطار ودرجات لبنود التحكيم، التزم بها المحكمون.

أما الملاحظة الأخرى فهي الكتابة النسوية بقوة تعبيرية ولغوية شأنها شأن أفضل كتابات الرجال ولعل قصة (الغجر والصبية) تكون نموذجاً لها.

برغم كل ما مر، فسوف تعاود العربي التجربة مرة أخرى لأن لديها قناعة ثابتة بأن هذا هو جزء من الدور المنوط بها، ففي الولايات المتحدة تقام كل عام مسابقة كبيرة للقصة القصيرة هي مسابقة (أو. هنري) باسم واحد من أشهر كتاب القصة الذين عرفتهم أمريكا. وهي تجمع نتائج هذه المسابقة في كتاب سنوي تتجلى فيه مظاهر تطور هذا الفن. وتحرص أمريكا لا على الإصدار السنوي لهذا الكتاب فقط ولكن على ترجمته لكل لغات العالم. وفي كل مشاريع التبادل الثقافي الذي تعقدها أمريكا مع الدول الأخرى يكون هذا الكتاب في مقدمة الكتب التي يتم تبادلها والحرص على ترجمتها.

ونحن حتى الآن نفتقد لوجود هذه المسابقة القومية العربية، كما أننا نفتقد لمثل هذا الكتاب السنوي الذي يجمع بين دفتيه آخر تيارات هذا الإبداع. وقد بدأنا في العربي هذه الخطوة الاولى، فهذه المسابقة سوف تفتح ذراعيها كل عام لكل تجارب الإبداع العربي بغض النظر عن السن أو الجنسية. وسوف يتضمن كتاب العربي الذي بدأت إعادة إصداره في أحد أعداده القادمة كتاباً يضم بمشيئة الله القصص العشرين التي تم اختيارها على أمل أن يظل هذا تقليدا سنويا يحول المسابقة إلى كتاب يساهم في دفع مسيرة الإبداع القصصي العربي.

إن كتاب العرب بمختلف أجيالهم مدعوون للمشاركة في تدعيم هذه المسيرة ومثلما نريد من هذه المسابقة أن تكون دعما للمبدعين الجدد، نريدها أيضا أن تكون حافزاً ومثيراً للكتّاب المتمرسين، حتى يحدث ذلك التفاعل الخلاق بين كل أجيال الكتابة العربية. لقد بدأنا السعي، وعلى الله قصد السبيل.

 

محمد الرميحي