فبراير.. عقد من التحرير: رؤى في التنمية الثقافية

فبراير.. عقد من التحرير: رؤى في التنمية الثقافية

حديث الشهر

عقد كامل من الزمن مرّ على واحدة من أخطر الأزمات العربية، وهي مدة كافية لتجعلنا نتساءل: إلى متى يستمر هذا التدهور العربي؟ وهل لم يأن الأوان لوضع استراتيجية توضح البصيرة العربية في النظر إلى قضايانا المصيرية؟

  • لقد أصبحت الكويت قادرة الآن على التفكير في كل خيارات الحاضر والمستقبل أيضاً
  • مطلوب تنمية ثقافية تعزز الإبداع وتحافظ على الهوية وتكفل حرية التعبير
  • على الحكومات العربية أن تشجع وتدعم كل المؤسسات العربية المشتركة في مجال صناعة وتجارة الثقافة

في مثل هذه الأيام من كل عام تحل ذكرى حدثين عزيزين على قلب كل كويتي هما عيد الاستقلال (1691) وعيد التحرير (1991) وفبراير هذا العام يحمل معه تميزا لهذين العيدين، هو مرور أربعين عاما على الاستقلال وعشر سنوات على التحرير.

عشرة أعوام مرت على تحرير الكويت من أسر عدوان غاشم ارتكبه النظام الحاكم في العراق وسعى فيه، عبر شهور سبعة من القمع والتخريب والقتل والحرق والتنكيل، إلى محو هوية هذا الوطن العربي الصغير الجميل، وإزالة معالمه من خريطة الحياة السياسية المعاصرة، وبحلول هذا الشهر يكتمل عقد كامل على التخلص من كابوس عدوان النظام الفاشستي الذي لايزال قابعا على أنفاس الشعب العراقي، ومتوعدا بالويل والثبور وعظائم الأمور كل من لا يؤيد سياساته الحمقاء، وأفكاره التي عفى عليها الزمن. عقد كامل تغيرت فيه معالم الكون وموازينه وقيمه وحفلت فيه الحياة الإنسانية حولنا بالمستجدات والمتغيرات الكبرى، ولم يتغير إلا القليل جدا، في عالمنا العربي الذي مازال يتمسك بعناد غريب بأذيال السيطرة المطلقة التي تغرب شمسها. فبعض النظم الحاكمة في عالمنا العربي وفي مقدمتها نظام صدام حسين في بغداد مازالت تتعامل مع شعوبها وفق تقاليد زمن القمع والحرمان والعبودية، وهي تقاليد تستمد ثقافتها من ظلمات العصور الوسطى، ومن بعض متحجري التفكير ممن مازالوا يبكون الماضي دون أن يدري أحد منهم أو يفكر بماذا يحمل الزمن القادم في طياته لأوطاننا وشعوبنا. لقد تساقطت الأنظمة المثيلة لهم كأوراق شجر الخريف، في شيلي والأرجنتين ويوغسلافيا وأوربا الشرقية، بل وسقطت حتى في أكثر الأنظمة تخلفا في إفريقيا، وأصبحت هذه الشعوب تتحرك الآن نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أما في عالمنا العربي فإنهم في غيهم قائمون!

الكويت وتجاوز الأزمة
على أن ما يعنينا هنا في الذكرى العاشرة للتحرير هو أين تقف الكويت الآن بعد انقضاء ذلك العقد الطويل من الزمن الذي تحملت فيه حكومة وشعباً ضغطا هائلا من جراء استمرار أساليب النظام الصدامي الاستفزازية وهو الأمر الذي انعكس سلبا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للشعب الكويتي الذي كان ضحية العدوان، هل تجاوزت الكويت آثار هذه الأزمة، وهي الطرف الذي دفع الثمن غاليا من دم بنيه؟ لاشك على الاطلاق في أن الإجابة ستكون بالإيجاب عن هذا التساؤل.

نعم لقد تجاوزت الكويت ـ أو كادت ـ الآثار السلبية الجوهرية لما أسميته في عدد سابق أنه إحدى (أكثر اللحظات غباء في التاريخ العربي في القرن العشرين) أو ما أصبح يعرف في الوثائق الدولية بكارثة (الغزو العراقي للكويت)، فقد أصبحت الكويت الآن قادرة على التفكير بصوت عال في كل خيارات الحاضر والمستقبل كذلك، وعلى المستوى السياسي أعادت الكويت علاقاتها التي كانت مقطوعة على إثر الغزو مع بعض الأشقاء العرب نتيجة لمواقفهم من الغزو،، وبعثت الدفء والحياة في بعضها الآخر، ومن ثم أصبحت تتحرك ـ كما كان دأبها دائما ـ في محيط عربي متوازن، تبذل فيه العون والمساعدة والمساندة قدر طاقتها دون منة أو أثرة. وعلى المستوى الداخلي تتواصل الممارسة الديمقراطية في إطارها الدستوري على الرغم من بعض ما يعتريها من شد وجذب، أو ما تواجهه من ضغوط تفرضها علاقاتها الخارجية، والمواطن هنا ليس مغيبا عن مجريات شئون حياته اليومية، والمؤسسات الشعبية تمارس عملها بحرية دون قيود استبدادية. كما شهدت الكويت، على مدى سنوات ذلك العقد، حالة من الإعمار شملت كل المرافق، حكومية كانت أو أهلية، وبدأت بوادر تحريك تلك المشروعات التنموية التي توقفت إثر العدوان وما فرضته إعادة الإعمار من تكاليف باهظة.

ذلك كله لا يعني سوى أن الكويت قد تجاوزت الآثار المباشرة للكارثة واستعادت ثقتها بتوجهها العربي وقدرتها على التأثير الإيجابي في مسيرة النهوض العربي، الاقتصادي والثقافي، وتلك بنود مهمة وأساسية في أجندة العمل الوطني والقومي للكويت، لكنها لا تحجب ـ بل ربما تعزز ـ وجود بنود أخرى أصبحت ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى تتعلق بالدور الثقافي المنوط بالكويت الذي مازالت تحمله، استمرارا للدور الذي قامت به منذ ما قبل الاستقلال في هذا المجال، وهو ما يتعلق بتعزيز إمكانات مسيرة التنمية الشاملة قطريا وعربيا بإفساح المزيد من الآفاق أمام مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في هذه المسيرة الإنمائية، وتعميق حضور البعد الثقافي في استراتيجية التنمية على الصعيدين المحلي والعربي، وتكثيف الجهود المبذولة من أجل تطوير أكثر جذرية ومعاصرة للأداء التعليمي والإعلامي في بلادنا.

الثقافة وبعدها الإستراتيجي
ولكي نتمكن من استعادة الدور الريادي في المنطقة لابد من التحرك نحو مزيد من حرية التعبير وحماية حقوق المبدعين وتقديم كل الدعم المادي والمعنوي لهم وتوفير كل مستلزمات النشر والتوزيع والترويج لأفكارهم وإنتاجهم الثقافي في مختلف فروعه الفكرية والفنية والبحثية،، فالريادة والمثل يتطلبان الإقدام والمبادرة لاستعادة المكانة.

ويؤدي بنا هذا الحديث عن أهمية تعميق حضور البعد الثقافي في استراتيجية التنمية إلى تلك الضرورة المتعلقة باستكمال وتعزيز وإثراء مشروعات العمل الثقافي، محليا وعربيا، ودفع عجلة التنمية الثقافية للتناغم والتكامل مع مجريات وجهود التنمية الاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية من ناحية، وتواكب بإيجابية وإبداع مستجدات عصرنا ومنجزات تقدمه المتسارعة في المعرفة والعلم والاقتصاد والاتصال من ناحية أخرى.

فلقد أصبح سائدا ومتفقا عليه الآن في أدبيات التنمية المجتمعية المعاصرة أن السياسة الثقافية هي مكون أساسي من مكونات السياسة الإنمائية، أو ما يطلق عليه "استراتيجية التنمية".

لقد أجمعت البحوث والمؤتمرات العالمية التي عقدتها الأمم المتحدة وكان محورها الرئيسي هو استراتيجيات التنمية، أجمعت على ضرورة أن تكون السياسات الثقافية للقرن الواحد والعشرين "استباقية" الطابع ومستجيبة بوعي للاحتياجات المتسارعة لتطور الإنسان والمجتمع. كذلك تؤكد التوجهات الراهنة لاستراتيجيات التنمية الثقافية على صعيد المنظمات والهيئات العالمية ـ وفي مقدمها منظمة اليونسكو ـ أن على السياسات الثقافية أن تعزز الإبداع في كل أشكاله، وتغني الإحساس بالهوية والانتماء لدى الفرد والجماعة، وتكفل حرية كل منهما في التعبير وتدعمهما في سعيهما نحو تحقيق مستقبل ثابت الخطى على طريق التقدم، وأن تنبني رؤى تطوير السياسة الثقافية بصورة متزامنة على المبادئ والمحددات المرتبطة بكل الأصعدة، سواء المحلية أوالقومية والإقليمية أو العالمية، كل ذلك من أجل توثيق عرى العلاقات بين شعوب العالم للتواصل وقطع الطريق أمام مناصري التعصب بكل أشكاله، وصولاً إلى مجتمع السلام والأمن العالميين.

توسيع السياسة الثقافية
وفي ضوء ما سبق يصبح من الضرورة بمكان، من أجل توفير الأسس والمنطلقات اللازمة لترشيد وتفعيل الجهد الإنمائي الوطني الشامل (وعنوانه وواجهته هنا هو البعد الثقافي في هذا الجهد أو تلك الاستراتيجية) أن يعمل المجتمع على توظيف طاقاته وجهود مؤسساته وأبنائه من أجل توسيع نطاق السياسة الثقافية بحيث تصبح ـ حقيقة وواقعا ـ مكونا أساسيا في صلب السياسة الإنمائية، وتوفير المزيد من الموارد لتنفيذ خطط ومشروعات التنمية الثقافية في بعديها الوطني والقومي، وتوفير المزيد من دعم الإبداع الثقافي بوصفه حجر الزاوية في استراتيجية التنمية المستدامة، وتطوير وتعزيز إمكانات البرامج والمشروعات المتعلقة بالحفاظ على التراث الثقافي، وتشجيع ودعم الصناعات الثقافية، وأخيرا ـ وربما أولا في سلسلة المنطلقات الضرورية لتعزيز مسيرة النهوض الثقافي ومن ثم تفعيل استراتيجية الإنماء العربي ـ تعميم ديمقراطية الثقافة وكفالة حرية المبدعين والمثقفين وحمايتهم من محاولات مصادرة حرياتهم وإبداعاتهم وتيسير وسائط التدفق الثقافي، ودعم جهود الترجمة والنقل من الثقافات الأجنبية علماً وفناً وأدباً.

عَوْرَبَة مشروع النهوض المجتمعي
وإذا كان صعود الثقافة العربية إلى أفق المستقبل مرهوناً بإنجاز المجتمعات العربية لمشروعات تنمية ثقافية حقيقية في إطار مسيرة تنموية متكاملة وشاملة، وفي سياق مجتمعات تتحول إلى الديمقراطية الحقيقية، فإن المواجهة الفاعلة والمبدعة حقاً لما اصطلحنا على تسميته بـ (تحديات العولمة) بمختلف تجلياتها عامة، ووجهها الثقافي خاصة، تستلزم (عَوْرَبَة) فعلية لمشروع النهوض المجتمعي الشامل في بلداننا. ذلك المشروع الذي لن تنحصر مجريات تنفيذه في أروقة الحكومات العربية، وإنما ستتجاوزها إلى صعيد المنجز الجماعي الذي تسهم فيه الحركة الثقافية بالمعنى الأرحب للكلمة، بما في ذلك صناع الثقافة ومنتجوها ومبدعوها، ومؤسسات القطاع الخاص والاتحادات المهنية وجمعيات وهيئات المجتمع المدني.

وإذا كانت مجالات هذا المنجز الجماعي للمجتمعات العربية متنوعة ومتداخلة، فقد يكون مناسباً أن نعرض هنا بعضاً من المهام بالغة الأهمية المطروحة على جدول العمل الثقافي العربي في صورة عناوين للجهود الثقافية العربية المنشودة خلال سنوات هذا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فبالإمكان تسمية عدد من المشروعات لأعوام هذا العقد، تتوافق عليه الحكومات والمؤسسات العربية لإنجازه متكاتفـين، فعام لإنجاز (الصندوق العربي للتنمـية الثقافية) وعام (للموسوعة العـربية الموحّدة) وعـام ثالث نطلق عليه (عام إقامة المكتبات العامة) في القرى والأحياء العربية كافة، وعام (تطوير مؤسسات التعليم العربية) جامعية وعامة... وهكذا.

ولكن تبقى مسألة غاية في الأهمية أرى من الضروري طرحها ونحن في بداية الألفية الثالثة، هي إقامة مؤسسات المشروعات الثقافية الكبرى متعددة الجنسيات العربية، وبرءوس أموال كبيرة لإقامة صناعات ثقافية عملاقة تنقل الواقع الثقافي والعلمي العربي المتردّي إلى المستوى الذي يؤهلنا - نحن العرب - لمواكبة عصر العولمة والشركات متعددة الجنسيات حاملة لواء عصر العولمة هذا، عصر المعلومات والاتصالات الكونية. بهذه الصناعات يتمكن العرب من التحوّل إلى (شريك في العولمة) بدلا من دور (المستخدم فيها)، فصناعة الكتاب العربي، الأداة الرئيسية في التعليم والثقافة، لا يمكن النهوض بها والدخول بها مرحلة المشاركة في ثقافات العالم بتلك الأوضاع المتردّية التي هي عليها اليوم. ولا مفر من قيام تلك الشركات والمؤسسات الكبرى إن أردنا أن نرتقي بمستوى الكتاب ومؤلفه وتوسيع انتشاره عربياً وعالمياً وتسويقه مع مثيله من المطبوعات الأجنبية في العالم. فصناعة الكتاب، وأقول تجارته، لن تتطور وترتقي بالجهود المتواضعة التي عليها الآن، فكل الأموال المستثمرة حالياً في صناعة نشر الكتاب، نشر العلم والمعرفة، لن تتمكن من الصمود أمام تطور العلوم الحديثة وتفوق الثقافات العالمية، ولابد من تجميع رءوس الأموال في مؤسسات كبرى تحفظ حقوق المؤلف وتعلي من شأنه وتوفر له من الدخل ما يرتقي بمستوى حياته وعائلته، ويفك عنه قيود العوز والفاقة والخضوع لابتزاز الناشر المتخلف، وتفتح أسواقاً كبرى لاستهلاك الكتاب عربياً وعالمياً باستخدام كل الوسائط الحديثة في الطباعة والإعلان والتسويق، وبالتأكيد فإن الانتقال إلى هذا المستوى المتطور في صناعة الكتاب وتجارته سيخلق مؤسسات لها نفوذها المالي والصناعي وبالتالي قدرتها على انتزاع حقوق المؤلفين والمبدعين في الحماية والحرية ومنع المصـادرة والاضطهاد عنهم وعن إبداعاتهم، نظراً لاتساع رقعة مَن سيملكون هذه المؤسسات وخاصـة من بين أصحاب القرارات السياسية والإدارية في الدول المساهمة في تلك الشركات. وأمامنا تجارب حيّة في العديد من البلدان في أوربا وأمريكا وآسيا لمثل هذه الشركات ومؤسسات النشر، وما لديها من نفوذ وسطوة في مجال النشر والإعلام والإعلان والدعاية.

استثمار الثقافة
في هذا الإطار تأتي مجموعة كبيرة من المؤسسات والشركات الكبرى في صناعة الثقافة كالمسرح، وبرامج التلفزيون، وتجارة الفنون التشكيلية والعاديات، والسينما. وهي من أكثر الفنون التي تستطيع أن تنهض وتخلق تجارة كبرى في هذه الصناعة، ولديها الفرصة لتجميع كل التجارب والإمكانات المتناثرة في البلاد العربية في مؤسسة كبرى برأس مال يوفر أرباحاً كبيرة للمساهمين فيها. فالسينما الحديثة المتطورة تملك إمكانات تسويقية هائلة محلياً وعالمياً، ولدينا تجارب حيّة في الهند وكوريا على هذه الإمكانية.

فتاريخ السينما العربية كفيل بأن يعطي ثقة لمن يفكر في إقامة مثل هذه المؤسسات العربية المشتركة بين القطاعات الاستثمارية الخاصة. وعلى الحكومات العربية أن تشجع وتدعم وتساند وتحمي بسن القوانين ودعم المبادرات الخاصة لإقامة مثل هذه الشركات والمؤسسات العربية المشتركة للدخول في تجارة وصناعة الثقافة، وهي صناعة ناجحة جداً كما يرى الخبراء ذلك، وعلى القطاع الخاص أن يبادر لتوسيع مجال استثماراته في البلاد العربية في مثل هذه المشروعات، والتي أصبحت الآن من أكبر المشروعات الاستثمارية في العالم،، فتجارة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وتجارة الفنـون التشكيلية والعاديات والموسيقى والغناء والبرامج المرئية يتسابق عليها المستثمرون في مشرق الأرض ومغربها على حد سواء، ونحن فقط المتفرجون والمستهلكون، وآن الأوان لنتحوّل إلى منتجين ومصدّرين.

إن نعمة الحرية التي تحملها لنا الذكرى العاشرة لحرب تحرير الكويت تملأ قلوبنا بالتفاؤل في مزيد من الحرية على المستويين السياسي والثقافي. ومن غير المعقول أن تمر ريح التغيير التي تعبر كل بلدان العالم بعالمنا العربي دون أن تقـتلع أشجار الأفكـار القديمة والنظم الاستبدادية الغائبة عـن الوعي. وعلينا أن نستعد على المستوى الثقافي لكل هذه التغيّرات، وإلا فسوف نتحوّل إلى غرباء في عالم غريب.

 

سليمان العسكري

 
 




فبراير عقد من التحرير