الناس والزمن

 الناس والزمن

يقول علماء تاريخ الإنسان - (الأنثروبولوجي) - إن هذا الكائن الجديد، الذي يمشي على قدمين ويستخدم الطرفين الباقيين في مختلف أغراض معيشته، بحذق ومهارة لا يدانيه فيهما كائن آخر، قد ظهر على كوكب الأرض منذ مليونين أو ثلاثة ملايين من السنين، وهم معذورون في ذلك، فالمهمة شاقة وعويصة، والعثور على جمجمة هنا وأصبع هناك مسألة تخضع للمصادفة، والدلائل مخبوءة في باطن الجبال والأنقاض.

هم يقولون إنه كانت هناك أنواع أو فصائل من البشر قبل هذا النوع الذي ننتمي نحن إليه والذي يقدرون أنه بدأ وجوده منذ حوالي مائة ألف سنة، وهم يطلقون أسماء لاتينية على الأنواع السابقة، بعضها يدل على خصائصها والبعض على الموضع الذي عثروا فيه على هياكلها، ونحن من الفئة الأولى (هومو - سابينز)، و(هومو) يعني إنسان، و(سابينز) كلمة لاتينية تعني (العاقل) أو (الذكي)، وهذا - بالطبع - وصف نطلقه على أنفسنا مع أنه لا يبدو لنا نحن أنه صادق أو دقيق، ويحضرني هنا حوار بين كائنين هائلي الحجم في قصة فولتير (مايكرو ميجا) (1725) ينظران إلى كوكب الأرض من خلال تلسكوب صنعاه من ماسة صغيرة، ويقول الأول "لا أظن أن حياة توجد فوق هذه الكرة، مَن المغفل الذي يسكن مكاناً كهذا؟" فيجيبه الآخر (حسنا، لعلها مسكونة بالمغفلين!)، وكان فولتير يعيب على الآدميين أموراً كثيرة كما هو معروف، على رأسها الصراعات الجماعية والحروب.

تتمثل قدرات الإنسان في طاقاته الجسمية - وهو في هذا يتفق مع بقية الكائنات، وهو أقوى من الكثير منها، وأضعف من غيرها - ثم في جهازه العصبي، وهو هنا أرقى بكثير جداً منها جميعاً، وإذا كانت الكائنات قد تطورت بالنشوء والارتقاء، الذي قال به داروين وغيره، فلا نظن أن الإنسان قد تطور بأسلوب (البقاء للأصلح)، أو (للأقوى) وهي العبارة التي ابتدعها عالم النفس الأمريكي وليم جيمس، لأن عملية التطور هذه تستلزم ملايين السنين وهو لم يقض على سطح الكوكب زمناً بهذا الطول، هومو سابينز، إن صح أن عمره حوالي مائة ألف من السنين، قد اجتاز - بالطبع - تطوّراً هائلاً، ولكن هذا التطور يتمثل في الوسائل التي توصل إلى صنعها بفضل اكتساب المعرفة الهائلة بأسرار المادة، إنه بالسلاح الناري مثلاً - واليدوي أيضاً - قد تمكن من كسر شوكة الوحوش المفترسة كالسباع والنمور، إلى حد أنه أصبح الآن يسن القوانين من أجل حمايتها من الانقراض، بما في ذلك قروش المحيط، التي تحوّلت زعانفها إلى واحدة من أمتع الوجبات في أكثر المطاعم أناقة. نحن - إذن - نجتاز التطور - وبسرعة خاطفة - بمقتضى ما تبتدعه عقولنا من وسائل لم يستطع الإنسان الماضي - أو لم يتسع له الوقت - أن يبتدعها، وإن كان الباحثون يرون أن جهازه العصبي لم يكن ليمكّنه مما توصلنا نحن إليه لصغر حجم مخه، على أي حال، هذه كانت الأخطار التي تهدده، ومازالت تهددنا أيضاً:

هل نحن أشرار بالسليقة؟
(إن قتل الكائنات بواسطة كائنات من النوع نفسه، هو ظاهرة لا يشارك الإنسان فيها سوى حفنة من الفئران والعناكب). آرثر كوستلر (1905-1983).

أصحيح هذا؟ إلى حد بعيد، وإن كنت شاهدت مرة مشهداً في فيلم تسجيلي عن حياة القروش، كان عدد منها يتزاحم للوصول إلى طعام - دموي طبعاً - يلقي به الباحثون، واحد منهم التفت فجأة إلى جاره ثم انقضّ عليه بفكيه والتهم قضمة في حجم بطيخة كبيرة، (اقتطع أربعين رطلاً!)، كما قال الصياد في (العجوز والبحر)، ويقال أيضاً إن السباع قد تفترس أشبال غيرها ليخلو لها الجو. كائناً ما كان الأمر، فمقارنة الإنسان بالحيوان مسألة عويصة، فبينما نحن نشارك الحيوان في غرائزه، وفي (المنظومة البيولوجية)، إلا أن الشق الحيواني منا يتصل اتصالاً وثيقاً بهذا الجهاز الإضافي: جهاز عصبي متطور جداً، يختزن التجارب في ذاكرة واسعة النطاق، ويعالج البيانات التي يتلقاها بحواسه الخمس، وعلى رأسها السمع، ومما يزيد الأمر تعقيداً أنه يسمع أصواتاً متعددة ومتباينة تصدر من لسانه وشفتيه وحلقه، مع التطور واختزانه الخبرة، تمكنه من التخاطب، حيث العقل - (لوجوس) - يحل شفراتها بكفاءة عظيمة، ولما كان كل هذا كلا واحداً لا يتجزأ، فإن الأحاسيس الناشئة عن تجارب الإنسان مع الناس والأشياء، تتكرر وتنشأ عنها (ألفة)، تنتج ما نسميه (الحب) عندما تكون سارة، وبالعكس، بعض الكائنات تشاركنا ذلك، الحمائم - مثلاً - تألف بيوتها وتعود إليها، أما الكلاب فهي تحب، وتتبادل الحب معنا، وليس مع بعضها البعض، العواطف - (باثوس) - هي الضلع الثاني من هذا المثلث المعقد، الحب، وهذا قد يطول أمده، الخوف، وهذا قد يكون لأي مدى، الغضب ثم الغيرة، بعد ذلك يأتي أنه لما كان الإنسان لا يتصرف بدافع الغريزة وحدها مثل الحيوان، بل عنده القدرة على (كبح) رغباته بهذه الأدوات، فإن الأداة الثالثة، الأخلاق - (إيثوس) - تنضم لهذا وذاك لتضع أمامه بدائل متعددة كثيراً ما تحيل حياته جحيماً بفعل الحيرة بين نوازع الجسد التي يشترك فيها مع الكائنات، من جهة - وضوابط هذه القوى الثلاث التي لا تنفصل عنها، حتى في المجتمعات البدائية جداً، عندما كان الناس يتناسلون بما يشبه نظم الحيوان في ذلك، كان هناك دائماً فارق.

يقول بيير بومارشيه: (الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل وهو ليس جوعان، ويشرب وهو ليس ظمآن، ويتناسل في كل المواسم)، وهذا - فيما نظن - أمر طبيعي جداً أن ينشأ عن هذا الازدواج بين الجسد Soma والنفس Psyche، تلك التي قال عنها ابن سينا إنها (هبطت إليك من المحل الأرفع) - نحن لا نأكل لمجرد إشباع الجوع، ولا نشرب لمجرد إطفاء الظمأ، ولا نتزاوج لمجرد تلبية الغريزة، إذ إن لدينا قدرة على الاستمتاع الواعي بهذا كله، جدول الماء بالنسبة لنا ليس مجرد مصدر له، بل هو صورة جميلة ننعم بألوانها ونطرب لصوتها، وكل سلوك يجعلنا ننحاز إلى الجسد دون العقل - ومن ذلك مثلاً الصراع الدموي - هو اقتراب من طبيعتنا الحيوانية وبالتالي فهو حط من مكانتنا في الكون، وبعضنا لايزال، نحن نقتل الحيوان لهذا الغرض، وبأشكال آخذة في التغير ككل شيء في حياتنا، عندما نتقدم في المعرفة تتطور أساليبنا في كل شيء، في كتاب (داخل إفريقيا) نجد جون جانتار يصف الإفريقيين عندما يصطادون فيلا وينقبون ثقباً في جسده ثم ينهالون عليه بأفواههم إلى أن ينفذوا من الجانب الآخر، (كل شيء، حتى الأمعاء!)، - ولكننا نقاتل بعضنا بعضا لدوافع أخرى كثيرة، الإغارة من أجل المغانم مثلاً، ولا نهاية لحكايات البرابرة الذين تسميهم كتب التاريخ أباطرة وفاتحين، أو من أجل الانتقام، كما في إلكترا وهاملت، (بل ومن الحيوان كما في موبي ديك)، ولكن يظل الاكتفاء والرخاء والشعور بالأمن والكرامة أموراً ضرورية لارتقاء الإنسان، ومقياس الارتقاء هو غلبة النفس على الطبيعة الحيوانية.

الحرب: السلوك البهيمي
(إني لأعجب لقول هوميروس: "ألن تنتفي روح الصراع بين الناس والآلهة؟" ألم يدرك أنه كان يصلي من أجل دمار الكون؟ الحرب فينا جميعاً، والصراع عدل، الحرب أم الجميع وملكة الجميع، جعلت البعض آلهة والبعض رجالاً، البعض عبيداً والبعض أحراراً). هرقليطس (500 ق.م).

بالنسبة للصراع بين الآلهة، فلا اعتراض لدينا عليه لأنه لا يدور إلا في مخيلة الشعراء ولا ينتج عنه إلا روائع مثل أسطورة أوزيريس والإلياذة، ماداموا آلهة من نوع زيوس وديونسيوس، وليس من نوع موسوليني وأضرابه، ممن يبشّر بهم هذا الفيلسوف الفاشي القديم - وسنأتي لذلك - أما الصراع بين الناس، فنحن لا ننكر حتميته بحكم طبيعتهم التي هي في جذورها فردية وأنانية، الذي ننكره هو أن القوة الجسمية هي أفضل وسيلة لجسمه. ولغاية أواخر القرن التاسع عشر كان نبلاء أوربا - والتي كانت إذ ذاك تقود حركة التنوير والتقدم في الفكر والمعرفة - يحتكمون إليها في فض منازعاتهم الفردية (أما الجماعية فكانت الحرب طبعاً هي المبارزة بين المجتمعات، الأباطرة يتنازعون والشعوب تعاني أقسى درجات التعاسة)، نعم، كانت المبارزة تقنينا للقتل، ما عليك إلا أن تأتي بمدرب بارع يعلمك، ثم تنطلق في تحدي الناس وإهانتهم، وما على الواحد منهم إلا أن يقبل التحدي ويفقد حياته، أو يرفضه ويفقد كرامته ومكانته هو وذريته، كما في قصة سكاراموش المعروفة. بهذا الأسلوب الهمجي فقدت روسيا أمير شعرائها وشكسبير أجيالها إلكسندر بوشكين (1799-1837) الذي مات في شبابه في مبارزة مع ضابط يمارس هذه البلطجة، كان عشيقاً لزوجته.

كان أمراً طبيعياً جداً في الحروب، و(قانونياً) تماماً، أن يفعل المنتصر ما يشاء بالمجتمع الذي انتصر عليه، إبادة الرجال أو استعبادهم، سبي النساء أو اغتصابهن، بيع الأطفال في أسواق العبيد، تصوّر المرأة وهي مطلوب منها أن تتقاسم الفراش مع رجل قتل زوجها وخطف أطفالها ولم تعد تعرف أين هم! أتيلا - مثلاً - زعيم قبائل الهان - التي جاءت من آسيا واستوطنت أواسط أوربا في القرن الخامس - كان لديه جيش من نصف مليون آدمي، كان أباطرة الرومان في الشرق والغرب يدفعون له الجزية اتقاء لشره، وعندما توقف فالنتيان الثالث عن الدفع، بعث إليه أتيلا في روما يطلب شقيقته أونوريا، والتي كان الإمبراطور أبعدها إلى القسطنطينية لأنها وقعت في غرام موظف في القصر. وكانت الأميرة قد استغاثت بأتيلا وأرسلت إليه خاتم أصبعها، وقرر هو أن هذا عرض بالزواج، وطلب من أخيها بائنة أو دوطة هي نصف الإمبراطورية الرومانية الغربية، ولما رفض طلبه، انطلق بجيوشه يعيث فساداً في شمال إيطاليا واليونان، كانت الجثث تملأ شوارع المدن ولا تجد مَن يزيلها. مات إتيلا بعد ليلة عرس ماجنة سنة 453م، وبعد هذا بخمسة قرون أخرى، نجد اليابانيين يقتلون في ليلة واحدة ربع مليون صيني في مدينة (نانكنج) التي كانت عاصمة شيانج كاي تشيك (يعني ضعف مَن هلكوا بالقنبلة الذرية في هيروشيما وناجازاكي)، وذلك سنة 1937م، وبعد ذلك بأربع سنوات، تنطلق جيوشهم في شرق آسيا، وكان جنودهم، عندما يعثرون على مستشفى، يربطون الجرحى في الأسرّة ويشعلون النار فيها، وكانوا يتسلون باقتلاع عيون الأطفال، ودق المسامير في رءوس الكهنة البوذيين، أما اغتصاب الفتيات في أعمار الطفولة، فكان لعبة الفراغ، احتلال جزيرة صغيرة مثل أوكيناوا، تكلف أربعين ألف قتيل من الجانبين، وكان تقدير الجانبين أن غزو اليابان أمر محتوم، وأن الخسائر ستكون أربعين مليونا من كل منهما (وقد أهلكت الحرب العالمية الأولى رقماً ليس بعيداً عن هذا) - ليس موضوعنا الحكم على مدى أخلاقية هيروشيما وناجازاكي، فقط هذا أمر لا يتسنّى الحكم عليه دون أخذ هذا كله في الاعتبار.

لن يستطيع أحد أن ينكر أن جهوداً صادقة ومخلصة قد بُذلت في سبيل إبعاد البشرية عن الصراع الدموي وتقريبها من النزاع القانوني وتحكيم الـ (سايكي) فوق الـ (سوما).

من معاهدة جنيف (1864م ثم 1868م) بشأن معاملة جرحى وأسرى الحرب، وإعادة صياغتها بما يتفق مع أساليب القتال المستجدة سنة 1906م، والتي اعتمدتها الدنيا كلها، ثم إنشاء عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، صحيح أنها عجزت عن فعل شيء في الغزو الإيطالي الهمجي للحبشة سنة 1935م، ثم فظائع اليابان المألوفة في مانشوريا (وقد اعتذرت حكوماتهم المتعاقبة عنها ومازالت تعتذر) وفي الحرب الأهلية الإسبانية، ولكن العصبة، كانت أساساً لنشوء الأمم المتحدة عندما انحلت سنة 1946م، جهود كثيرة صادقة قد بذلت: إنشاء محكمة العدل الدولية، محادثات نزع السلاح في أوائل الستينيات، اتفاقيات الحد من الأسلحة الإستراتيجية، (سولت)، كان هذا وذاك في عصري كنيدي وكارتر، جهود القوى المتحالفة تحت مظلة مجلس الأمن في أوائل التسعينيات في أثناء إدارة جورج بوش... إلا أن المنظمات والاتفاقيات وحدها لا تكفي مادام (صراع الكبار!) مستمرا، الكبار الذين يستخدمون الغازات السامّة والأسلحة الجرثومية التي تحرمها هذه الاتفاقيات.

العبودية: بقعة على ضمير البشرية
"مجيء الزراعة، والتفاوت بين بني الإنسان، أدى إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء، وحتى ذلك الوقت لم يكن يخطر ببال الذين ينتصرون في الحروب أن الأسير المفيد هو الأسير الذي يبقى حيّاً، تناقصت جزارة لحوم البشر وتزايدت العبودية، وكان هذا يعد رقيّاً في السلوك الآدمي!! ما إن استقر الرق وبدأ يظهر أنه نشاط اقتصادي مربح، حتى أخذ نطاقه يتسع ليشمل المجرمين والمدينين، وأصبحت الحروب تشنّ من أجل اكتساب العبيد، وهؤلاء يستخدمون في خوض المزيد منها، بمضي القرون، أصبح هذا أمراً معتاداً، ونجد أرسطو يدافع عن الرق بوصفه أمراً طبيعياً ومحتوماً، والقديس بولس يمنح بركته لما يظهر أنه كان في أيامه عطاء من السماء". ويل ديورانت (1885-1981).

إنصافاً للحقيقة، فإن المهاجرين من أوربا إلى الدنيا الجديدة، لم يكونوا هم الذين ابتلوا البشر بالعبودية، إن الذي يجعلهم يبدون كذلك هو أنهم أكثر مَن كتبوا عنها وأظهروا ما ارتكب في ظلها من فظاعات، ولكنها بالنظر إلى استمرارها لغاية أواخر القرن التاسع عشر، تكون البشرية لم تعش دونها إلا ما يزيد قليلاً على واحد في المائة من تاريخها المعروف. شاعرنا العظيم أبو الطيب المتنبي، أمر بقطع رقبة شاب من عبيده لأنه ضبط متلبساً بسرقة تافهة، بوشكين، انحدر من نسل أمة إفريقية، لعل جيناتها لعبت دوراً في حمأة دمائه، وأمير شعرائنا أحمد شوقي، كانت جدته لأمه يونانية عاد بها المصريون من حرب المورة، ولكن هذا لن يجعلنا نشارك أرسطو مشاعره بشأن استخدام البشر ككلاب الحراسة، إنه حتى الحيوان أصبح إيذاؤه جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن هارييت بيتشر ستو، صاحبة (كوخ العم طوم) - وهي رواية تقول إنها تلقتها كوحي من السماء - تروي لنا أن أبناء الأثرياء في الجنوب الأمريكي، كانوا يتسلون بأن يتراهنوا على لون دماء العبيد السود، "مع أن الواحد منهم كان ثمنه يصل إلى ألفي دولار أمريكي!".

إن كانت الولايات المتحدة بالذات تلام على شيء فهو أنها - كدولة - لم تتمكن من تحريم الرق في وقت كانت فيه كندا على حدودها الشمالية، قد تخلصت منه بوصفها إحدى دول الدومنيون - أملاك التاج البريطاني، أما تكساس، إلى الجنوب منها، فكانت قد حرمته بوصفها مقاطعة مكسيكية، فلما ضمتها أمريكا إليها أصبح الرق قانونياً فيها، وعادت إلى الوراء عندما انفصلت عن المكسيك سنة 1835م، ثم انضمت رسمياً إلى الاتحاد سنة 1844م، واشتركت مع عشر ولايات جنوبية أخرى في مؤتمر انعقد في مدينة مونتجومري بولاية جنوبية تدعى آلاباما (وهي تستحق هذا الاسم، ولنذكر اسم هذه المدينة التي انبثقت منها حركة محاربة التمييز العنصري بعد انعقاد المؤتمر المذكور سنة 1860 بما يقرب من قرن كامل)، كان انعقاد هذا المؤتمر بمناسبة انتخاب إبراهام لنكولن رئيساً للولايات المتحدة، ولإعلان أنها لم تعد متحدة، وذلك لأن لنكولن كان مصرّاً على إلغاء نظام الرقيق، بينما الولايات الجنوبية تجد في هذا مبرراً للانفصال، وكانت ساوث كارولاينا أول ولاية تعلن الانفصال، أدى هذا - كما هو معروف - إلى قيام الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت خمس سنوات مهلكة ومدمّرة، لا من أجل إعتاق العبيد، بل من أجل المحافظة على وحدة الدولة، ومازال المؤرخون، وسيظلون، مختلفين بشأن ما إذا كان ممكناً إذ ذاك تجنب هذه الحرب المأساوية، وهي على أي حال قد أنتجت أعظم كمّ من المؤلفات التاريخية والأدبية التي وضعت عن أي حرب، باستثناء الحروب النابليونية. كان استقلال كل ولاية عزيزاً على نفوس شعبها، وبدا كأن الشمال يفرض إرادته على الجنوب. ولكن الكثيرين - بفضل التنوير وتطور مفاهيم البشر، وسواء كانوا شماليين صناعيين، أو مزارعين جنوبيين - قد بدأوا يحسّون بالنفور من هذا الشيء القبيح، وانقسم الأمريكيون على أنفسهم إلى حد أن الأخوة، بل الآباء وأبناؤهم، كانوا يجدون أنفسهم يتقاتلون على الجانبين، وهو ما ينتظر عندما يتصارع ضمير الإنسان مع ما جُبل عليه من شرور المجتمع. كانت قد نشأت في الولايات الشمالية جمعية تحارب الرقيق سنة 1833م، وكان لابد أن تنقضي مائة وستون سنة قبل أن نرى وليم كلينتون، وهو رئيس الولايات المتحدة، بعد أن أصبحت أقوى حضارة عرفها التاريخ، في زيارة رسمية لجمهورية السنغال، يقف مع رئيس تلك الدولة لتلتقط لهما صورة تذكارية عند بوابة بحرية في موقع مرسى للسفن التي كانت تشحن فيها جموع العبيد كالبضائع، يجذفون في بواطنها السفلى وهي تعبر بهم المحيط إلى مصير أشد سواداً من جلودهم.

"ألأن وجهك أبيض، ولأن وجهي أسود، سميتني عبدا؟"، هكذا يصيح محمد الفيتوري في ديوانه "أغاني إفريقيا"، الإجابة العقلانية تأتي على لسان عالم الأنثروبولوجيا المعاصر وسليل أسرة ليكي الشهيرة باكتشافاتها العظمى في هذا المجال، في كتابه "الأصول Origins"،هو يشرح لنا كيف أن سواد الجلد ليس سوى رد فعل طبيعي لأشعة الشمس مقصود به أن يقدر على احتمالها، وهكذا خلق الله الإنسان والشمس. إلا أن الفرد الأسود، أو المختلط بأي نسبة، كان عبداً بحكم كونه كذلك بصرف النظر عن أوضاعه، ومن أشد القصص إيلاماً تلك التي تحكي عن كندي أسود جاءه شاب أمريكي أبيض يخطب ابنته وهي جميلة ومتعلمة، ثم أخذها معه إلى داخل الولايات المتحدة، ولم يكن قد تحرّر العبيد هناك، وفي الحال، قام (العريس) ببيع العروس في سوق النخاسة، ولما لجأ الأب إلى حكومته أفهموه أن بريطانيا لن تعلن الحرب على أمريكا من أجله، وحذّروه محاولة عبور الحدود وشراء ابنته والعودة بها لأن المجتمع الأمريكي لن يرى فيه - هو نفسه - سوى عبد يُباع في السوق أيضاً، بحكم لونه، حتى ولو كان مواطناً أجنبياً.

التمييز العنصري والعرقي
"إن الآباء المؤسسين للمجتمع الأمريكي، الذين أصدروا وثيقة الاستقلال وأعلنوا الديمقراطية والحرية وحقوق البشر في الحياة الكريمة، قد أعطونا حقوقنا، فقط لقد جاءت على هيئة صك لا غطاء له في المـصرف، نعم، شيك دون رصيد". مارتن لوثر كنج (1929-1968)

ذكرنا ولاية آلاباما فيما سبق، وقد كانت مسرحاً لأحداث الفيلم الأمريكي (في حرارة الليل) الذي قام ببطولته النجم الأسود (سيدني بواتييه) والذي أعقبته حلقات تلفزيونية بالعنوان نفسه تصوّر مدى تخلف تلك الولاية وتمسكها بداء التفرقة، وشاهدت الفيلم المسمى (ابن عمي فيني) الذي يدور حول هذا التخلف دون الإشارة لمسألة التعصب. في تلك المدينة نفسها، (مونتجومري) التي انعقد فيها مؤتمر الولايات الانفصالية سنة 1860م، كانت امرأة أمريكية زنجية (كانوا يسمّونهم (نجرو) ثم (السود) والشائع الآن "أمريكيون إفريقيون") تدعى روزا باركس، تشتغل حائكة ملابس في متجر كبير، قد صعدت إلى حافلة عمومية لنقل الركاب، وكان القانون السائد في ذلك الوقت - سنة 1955م- يحتّم على الزنوج أن يجلسوا في المقاعد الخلفية، فإذا جاء شخص أبيض ولم يجد مكاناً للجلوس، فإن له الحق في أن يأمر واحداً من السود بأن يقف ليجلس هو. وهذا هو ما حدث لتلك المرأة، ولكنها رفضت أن تتخلى عن مكانها، قبض عليها وقدمت للمحاكمة وحكم عليها بالغرامة. وكانت هذه هي الشرارة التي انطلقت منها حركة العصيان المدني التي قادها الزعيم الراحل مارتن لوثركنج، والتي بدأت بمقاطعة سيارات نقل الركاب. بعد ذلك بتسع سنوات فقط، صدر قانون الحقوق المدنية الذي كان جون كنيدي قد قام بإعداده وصدر في الشهور الأولى من حكم سلفه ليندون جونسون، والذي يجعل التفرقة العنصرية جريمة يعاقب عليها القانون، وبدأ القادة الأمريكيون من الليبراليين يحاربون هذه الظاهرة القبيحة التي هي وليدة الداءين الآخرين، المتحالفين، الحرب والعبودية، وفي أواسط الثمانينيات وأثناء حكم رونالد ريجان، الذي هو معجون من خميرة التعصب، أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قانوناً بمقاطعة النظام العنصري الحاكم في جنوب إفريقيا، حيث كان الناس يصنّفون كالدواجن. وطبقاً للدستور الأمريكي، استخدم ريجان حق (الفيتو) وأعاد القانون إلى مجلس الشيوخ ليعاد التصويت عليه، ولكنه حصل على أكثر من ثلثي الأصوات وبذلك صدر برغم أنفه، ووقف إدوارد كنيدي يصيح: فلتسمع بريتوريا صوتنا من هنا وتعرف أنه لم يعد هناك مكان للمتعصبين وذوي العقول المتحجّرة. بقية القصة معروفة: انفض النظام الذي كان معروفاً باسم (أبارتيت)، يعني (المباعدة)، وقد كان في ذلك الوقت أيضاً أن أصبح يوم مولد مارتن لوثر كنج عيداً قومياً في الولايات المتحدة، وفي سنة 1996م- مع مزيد من يقظة الضمير - تلقت تلك السيدة، روزا باركس.

"ميدالية الحرية الرئاسية" ثم بعد ثلاث سنوات "الميدالية الذهبية للكونجرس"، يأتي هذا التكريم من المؤسسة الحاكمة نظير وقوفها موقف المعارض منها منذ أربعين سنة مضت.

خلاصة القول
لقد قطعت البشرية شوطاً طويلاً نحو هويتها، وانتفت أقبح شرورها وأفظع ضلالاتها بفعل تقدم المعرفة وتطور الفلسفة وتحقيق قدر من الحرية والرخاء. ولكنها تظل في سباق مع الزمن، وإذا استمر التزايد السكاني بهذه المعدلات، فسوف يعود بنا الجوع إلى شريعة الحيوان ومنطق القوة الجسمية.

حدث في منتصف القرن العشرين أن هبطت طائرة ركاب اضطرارياً فوق جبال الأنديس في أمريكا الجنوبية، ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشال ركابها إلا بعد أن أدى بهم الجوع إلى أن يأكلوا لحم مَن يموتون منهم، سوف يحدث هذا على مستوى الكوكب إذا لم نوقف التزايد، وما ينشأ عنه من الجوع والتلوث.

ولكي يتحقق ولو شيء من ذلك، يجب تحسين نظم الحكم وتحديث أساليب إدارة الأمم، (الصراع بين الكبار)، يفسد في أيام ما يتحقق في قرون.

 

محمد الحديدي