محاولة للفهم الغزو الثقافي.. وهم أم حقيقة؟

 محاولة للفهم الغزو الثقافي.. وهم أم حقيقة؟

أخطر ما يمكن أن يقع فيه طبيب لمعالجة مرض أن ينصرف نظره من موضع العلة إلى سواه وأن يقرر الدواء والمعالجة قبل الوصول إلى التشخيص الصائب لطبيعة المرض وأسبابه، فتكون معالجته - حينئذ - ليست جهداً ضائعاً فحسب، بل تكون نوعاً من المرض المضاف.

قبل التعرض لدراسة واقع الثقافة العربية في أسبابه ودوافعه، تجدر الإشارة إلى ظاهرتين تبعثان في نفس المتأمل لحال أمته المهتم بهمومها قدراً كبيراً من الحيرة والإرهاق.

أولى الظاهرتين هي نظرتنا إلى الثورة العلمية والتقنية والتقدم الصناعي وثورة المعلومات بنوع من الحيادية الساذجة أو التجهيل. إننا نتحدث عن ذلك - أي عن وثبات العلم والتقنية والاتصال - وكأنها حادثة كونية، هبطت من الفضاء البعيد، وتقاسمها الناس بالتساوي بينهم، فليس لأحد منهم فضل على سواه في هذا الفيض من العلوم والمعارف الذي غمر الأرض وغيّر ظروف الإنسان. إننا نتحدث عنه دون أن يثير عقولنا انقسام الناس في ذلك إلى مبدع لهذا العطاء وقاصر عن هذا الإبداع، ومنتج له ومستثمر لنتائجه، وعاجز عن الإنتاج منتظر لما يُقذف منه إليه لكي يستهلكه بالاستيفاد، أو عاجز حتى عن هذا الاستيفاد. إننا لا نفطن أننا نمنع بهذا الاسترخاء كل استنفار لقوى الذات وطاقاتها لكي تحاسب نفسها عن تخلفها وعجزها وكونها في موضع الآخذ لا المعطي والمستهلك للإنتاج - في أحسن الحالات - لا القادر عليه.

والظاهرة الاخرى إننا نتحدث عن الثقافة من حيث كونها غالبة أو مغلوبة وكأنها مفصولة عن حالة الأمة أو المجتمع صاحب هذه الثقافة، من حيث الضعف أو القوة والقدرة أو العجز في الجوانب العلمية والاقتصادية والعسكرية ووجوه الحياة الأخرى، إننا نتجاهل أن ثقافة أي أمة ليست سوى اللسان المترجم لما هي عليه في الجوانب العلمية وما يثمره ذلك في الجوانب الأخرى، وأنه متى ضعفت هذه الجوانب فلا ينتظر للجانب الثقافي وحده أن يقوى على الظهور والانتشار.

إن كثيراً منا يجهل أو يخفي عن قصد أن ثقافة الغرب انتشرت وبهرت لما حققته من إبداع في كشف أسرار المادة وطبيعة الكون.

الثقافة الوافدة لا تُقدم نفسها ولا تتقدم من جهة دعوى تفوق العرق أو نسب التاريخ، ولكنها تكسب مواقعها في النفوس والعقول المبهورة بها العاجزة عن مجاراتها من جهة ما تبدعه وتنجزه وتضيفه إلى معارف الإنسان وحضارته، وما تفوق أي أمة أو مجتمع في جوانبه الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية إلا الثمرة المباشرة لتفوّقه العلمي.

فالقدرة العلمية هي الأم الولود لكل الجوانب المؤدية إلى القوة وبالتالي الانتشار ولا ينتظر من أمة لا تملك هذه القدرة، بل ولا تحاسب نفسها على فقدها أن يكون لثقافتها ظهور أو انتشار.

لمعرفة حقيقة الغزو الثقافي - أي ما يُدعى كذلك - لابد من النظر إليه من زوايا ثلاث:

الزاوية الأولى: هل الثقافة العربية في حالة انتشار أم انحسار؟

أسقاط الحد الادنى
تأمل حال الثقافة العربية في حاضرها المعاصر وماضيها القريب يؤدي بالمتأمل إلى الإجابة بـ لا وبـ نعم، إذ يوجد من الشواهد على الحالتين ما يدل عليها ويثبتها.

للتدليل على أن الثقافة العربية في حالة ظهور لا خفاء وموضع قوة لا ضعف - داخل حدودها - يكفي أن نطل على حالة هذه الثقافة قبل قرن مضى لدى الخاصة والعامة - واللغة وعاء هذه الثقافة ولسانها - لنرى أن ضعف الثقافة لدى العامة آنذاك أمر تكون أي إطالة في توضيحه تعني إسقاط الحد الأدنى من الاطلاع لدى الفرد العادي، إذ لم يكن للتعليم في ذلك الوقت انتشار فضلاً عن إلزام، ولا يوجد شيء من الجامعات، إذا استثنينا الأزهر أو ما يقاربه في بعض البلاد العربية، وليس لمعاهد ومراكز البحث العلمي وجود.

في هذا الجانب، نرى أن الثقافة في حالة ظهور لا خفاء وانتشار لا انحسار بالنسبة لعامة الناس. وإذا نظرنا إلى حالة الثقافة لدى الخاصة - واللغة أهم مظاهرها - فإنه يمكن أن نتبين الفرق الشاسع في هذا الجانب من حيث عمق المحتوى ورقي الأسلوب في الأوساط المشتغلة بالثقافة الحاملة لها من الوقوف على أسلوب المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي الذي كتب به تاريخه، أو لغة الصحافة في البلاد العربية - في عمومها -.

مع كل ما تقدم، فإنه يمكن أن تكون الإجابة عن السؤال السابق بـ نعم، أي أن الثقافة في حالة انحسار أو انكسار وذلك ما سيتضح في نظرتنا إلى الأمر من الزاوية الثالثة مما سيأتي الحديث عنه.

الزاوية الثانية: هل هناك غزو ثقافي؟

الغزو: مفردة تعني سلسلة متعددة الحلقات من الأفعال، تبدأ حلقاتها بالنية والقصد، ثم التخطيط والإعداد لما يقتضيه هذا الغزو من وسائل، ومن ثم المواجهة مع الجانب المغزو لاجتياح حصونه ومواقعه، هذا الغزو بكل ما يتطلبه من وسائل هو ما تردده وسائل الاعلام لدينا، وما يصر عليه بعض من يوضعون موضع الإبداع والإشعاع في أفقنا الفكري والثقافي. هذا الغزو الثقافي - في نظر هذه الفئة - نوع جديد من حروب داحس والغبراء، تشن على العرب ديناً وثقافة ولغة ومقومات حياة، ومن ذلك جاء الحديث عن هذا الغزو بلغة لا يجوز أن تكون مفرداتها إلا التحدي والإضعاف والهدم والاستلاب والاختراق والتدمير، والقهر والقسر، وما قد تسعفنا به المعاجم من قائمة المفردات التي تحمل ذلك المعنى أو تشير إليه.

هكذا توضع قضية علاقة ثقافتنا بالآخر في إطار حرب شرسة، تدور رحاها بين متحاربين ليس من المرجح أن نكون نحن الجانب المنتصر فيها، الظافر بمغانمها.

لقد استعضنا عن الموقف العقلي التحليلي لظواهر الأشياء وطبائع البشر بأن وضعنا الأمر كله في خانة استفزاز المشاعر وتعبئة النفوس.

لقد اخترنا بهذا الهاجس الذي سكن ذواتنا واسترحنا إليه أن نسد كل المنافذ ونسقط كل الخيارات، فلا يبقى لدينا سوى خيار واحد هو الدعوة للاستنفار والمصادمة، مع معرفتنا الأكيدة أنه ليس لدينا رصيد من القوة المنجدة تسعف هذه المشاعر المثارة والنفوس المشحونة بحوافز الحرب. وفي هذه الحالة فليس مما يؤمّل وينتظر أن يكون هناك مسعى لمصالحة أو يد تمتد لمصافحة مع مَن أعلنا اقتناعنا بقصده الشرير نحونا وإعلانه الحرب علينا، لقد اخترنا سياسة نسف الجسور.

أشد ما ينطوي عليه هذا التوجه من عوامل باعثة على القلق - وقد يكون على اليأس - هو الطريقة التي يتبعها أصحاب هذا التوجه من اعتمادها على التداخل لا على التحديد، وعلى التعميم لا التخصيص، وعلى ضجيج الدعوى لا على قوة البرهان لإثباتها.

مَن يقف الموقف السابق لا يزعجه أن يتساءل المتلقي - السامع أو القارئ أو المحاور - عن أي مشروع أو خطة أو اجتماع تم فيه هذا الغزو، وفي أي زمان أو مكان قرر فيه هذا الآخر الشرير تدمير الدين الإسلامي والثقافة العربية أو أي ديانة أو ثقافة أخرى، وهل قامت بذلك دول أم مجتمعات أم جماعات أم أفراد؟

هل قصد بذلك أو من ذلك أن يكون نقضاً للمادة الأولى من إعلان مبادئ التعاون الثقافي الذي أصدرته اليونسكو، ونصت على أن "لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، ومن حق كل شعب وواجبه أن ينمّي ثقافته وأن تشكّل جميع الثقافات بما فيها من تنوّع وخصب وبما فيها من تباين وتأثير متبادل جزءا من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعاً".

من المؤكد أن هذا النص لم تنفرد بإملائه حكومات الشعوب الضعيفة الوجلة على استقلال سياستها وثقافتها، بل شارك في إملائه ممثلو دول الثقافات السائدة المتحملة للإنفاق الأكبر على المنظمة المصدّرة للإعلان، وإذا كان لقائل أن يقول إن هذا الإعلان صدر منذ أكثر من ثلاثة عقود، وإنه قد جدّ ما غيّر هذه الصورة أو نقضها، وهو قول محتمل ومقبول، إلا أنه يدحضه أمران:
الأول: أنه لم يعرف أنه صدر من أي دولة أو هيئة أو منظمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان ما يدعو إلى إسقاط ذلك أو يناقضه.

الثاني: أن المؤتمر العالمي الأخير المتعلق بالسكان والذي انعقد في القاهرة عام 1994م، وكذا مؤتمر المرأة الذي عُقد في بكين عام 1996م، وهما أكبر تجمّع عالمي عرفه القرن المنصرم مهرجاناً للثقافات المختلفة والتوجهات المتباينة، ورغبة كل دولة ومجموعة أن تظهر إرادتها وتسود، لم تستطع أقوى الدول وأغناها أن تفرض رؤيتها وإرادتها على أي دولة مهما كان موقعها في سلم القوة أو الضعف، الغنى أو الفقر.

وإذا افترضنا أن يداً خفية اجتمعت خفية وخططت بليل دون أن تكشف أو تُعرف، فهل امتدت هذه اليد إلى العرب دون سواهم وإلى ثقافتهم دون كل الثقافات، وإذا كان ما خطط قصد به مخططوه أن يكون خبراً عالمياً، فهل تنبّهت الأمم الأخرى إليه، وهل قابلته بمثل ما قابلناه به جاعلة من الفزع والاستنفار - دون نفير - أقوى أسباب العلاج؟

ما تقدم لا يجوز أن يُفهم على أنه نفي لوجود حضارة وثقافة متبرّجة صنّاجة تنتشر في كل المواقع، وأن هذه الثقافة - أي حامليها - يبهجهم أن تحتل ثقافتهم أوسع مساحة من النفوس والعقول، ولكن هل وُجدت أمة في الماضي أو الحاضر تورّعت عن هذا الموقف أو كرهت أن تكون فيه، ولو كنا في المكان الأعلى من القوة والغنى والاختراع والإبداع، فهل سنتردد في تعميم رأينا ونشر ثقافتنا دون أن يدفعنا إلى ذلك دافع شرير أو طبع يتوق إلى التدمير.

الغرب اول الضحايا
الذي نعانيه ليس غزواً ثقافياً بمعنى فعل فيه القصد أو التخطيط والمواجهة لتدمير اللغة والثقافة والدين، ولكنه انتشار موجة، والموجة لا تكف نفسها عن الحركة والانتشار، ولو توقفت عن ذلك لما عادت موجة.

الغزو الثقافي - أي ما يُدعى كذلك - وما سبقه وما سيلحق به لا يعدو كونه نموذجاً يعرض نفسه، تسبقه شهرته وبريقه والرغبة فيه إلى الآفاق، ومهما انطوى عليه هذا النموذج من العلل أو الحيل، من الصحة أو المرض، الحسنات أو الآثام، فإنه لم يأت إلى البلاد التي وصل إليها محمولاً على مدفع، ولم يحمل الناس على أخذه أو تقبّله بالإكراه.

من الأمور الداعية إلى التوقف والمساءلة أن كثيراً ممن يتحدثون عن الغزو الثقافي، بما تحمله مفردة الغزو من معنى يوجهون كل اهتمامهم أو جل هذا الاهتمام إلى الغثاء من هذه الثقافة الوافدة، وهو غثاء تضوي به النفوس والأفهام، وهم يتحدثون عن ذلك بطريقة تفهم أن هذا الجانب من تلك الثقافة سلاح قصد بها منتجوه أن يكون قذائف توجه إلى حصون سواهم لتدميرها وهم في عافية من ذلك ومنجاة منه، ويتجاهلون أن الصانعين لهذا الغثاء قلة في هذه المجتمعات أتاحت لهم مساحة الحرية الواسعة التي تعطيها هذه المجتمعات للفرد للتعبير والتأثير أن يستثمروا هذه الحرية في غير وجهها الجميل، وأن مجتمعاتهم تستقبل هذا الغثاء كما نستقبل ويتأثرون به ويشقون كما نشقى ونتأثر، إن بعضاً من مثقفينا حريصون على أن نجهل أن الغرب الذي هو مصدر هذا الغثاء هو أول ضحاياه، وهو أثر لا ينحصر فيما نشرته مجلة "The Us News & World report" في عددها الصادر في شهر مايو من عام 1982م من أن هناك أكثر من 32 مليوناً من الأمريكيين ممن أنهوا مرحلة التعليم العام لا يحسنون القراءة والكتابة، وما أذاعته اللجنة التي ألفها الرئيس كارتر لدراسة الخلل في طريقة ومناهج التعليم لديهم، فانتهت إلى تقريرها المشهور "أمة في خطر"

ولا نعرف أن هناك بلداً استفحل فيه بلاء المخدرات كما استفحل في الولايات المتحدة.
الثقافة العربية بمحتواها الإسلامي لم تنحسر بسبب قذائف وجهت إليها من الخارج كما يُصر على ذلك كثير من الكتاب والمعلمين، ولكنها انحسرت بسبب ما تقدم وبأسباب أخرى نطل عليها من الثالثة من هذه الزوايا.

الزاوية الثالثة: الأسباب الحقيقية لانحسار الثقافة العربية وانكسارها

وجدنا بالنظر من الزاوية الأولى أن الثقافة العربية داخل حدودها في الوقت الحاضر في حالة انتشار لا انحسار، وفي موضع القوة لا موضع الضعف، ولأن الحقيقة ليست مستوى ذا بعدين، ولكنها جسم ذو سطوح عدة، فإننا إذا نظرنا إلى الثقافة العربية من زاوية أخرى نجدها في حالة انحسار عن الشواطئ الخارجية الموصلة إلى الخارج، كما أنها تعاني من خلل داخل حدودها إن لم يبلغ حد الانكسار، فقد يبلغه مالم يقابل ذلك بالمعالجة.

مرفأ الاستقبال
إن عجزنا عن وصولنا إلى شواطئ الآخر فضلاً عن التأثير في مياهه أو مد جداوله، على درجة من الوضوح يجعل كل تدليل عليه أو حشد الشواهد لإثباته أمراً يسقط من حسابه الحد الأدنى من الإدراك لدى المتأمل لهذه الحالة الدارس لها. وسبب ذلك يمكن أن يختصر في جملة واحدة هي أنه "ليس لدينا ما نقدمه مما يجلب إلى سوق عالم اليوم" الحضارة التي نعيشها وهي حضارة حاضر، وسباق إلى مستقبل، لحمتها وسداها العطاء العلمي وما ينتجه هذا العطاء من تقنية تحدد موقع أي أمة من حيث القوة والضعف والفقر أوالغنى والقدرة على الانتشار والانتصار، الحضارة الغربية لا تحتل مواقعها لأنها تحمل بين يديها محاورات سقراط وجمهورية أفلاطون وفلسفة أرسطو، بل ولا لأنها تحمل أناجيلها الأربعة، ولكنها احتلت هذه المواقع بما كشفت من طبيعة المادة وسنن الكون، وبما مكّنها ذلك من الوصول إلى أغراضها الخيّرة والشريرة.

فإذا كان الأمر كذلك، فإنه سيكون من طبائع الأشياء ألا يكون لذي عوز سيادة وظهور. لقد صارت الثقافة العربية والفكر العربي والمسلم مرفأ للاستيراد لا للتصدير وسوقاً للاستقبال لا للإرسال، إننا نستقبل حتى ما يتعلق بصناعة الكلام ومذاهبه، والنقد وأساليبه، فإذا كان ذلك في صناعة الكلام وهو المجال الذي عُرفنا بالتفوق فيه والإجادة له في تاريخنا الطويل - أو هكذا أقنعنا أنفسنا - فكم هي مذهلة تلك المسافة الفاصلة بيننا وبين أن نكون السابقين لوضع معادلة الحركة لمركبة فضاء أو قمر يدور حول الأرض أو غيرها من الأجرام.

  • لقد أخرجنا البحث العلمي من كل اهتماماتنا الدينية والقومية والاجتماعية والسياسية، إذ ليس قصورنا في هذا الجانب مما يؤرق أو يثير، والأدلة كثيرة ومنها:
    أن متوسط نصيب الفرد من الإنفاق على تعليمه في البلاد العربية لا يزيد على 5% من نصيب نظيره في البلاد الصناعية، إذ هو 339 دولارا في العام، بينما يبلغ 6500 دولار في البلاد الصناعية.
  • عدد العاملين في البحث العلمي - بكل مجالاته - في البلاد العربية لا يزيد على 2.7 في كل مليون من البشر، بينما يبلغ هذا العدد 767 في إسرائيل واليابان، أي أن عدد المشتغلين بالبحث العلمي لديهم يفوق ما لدينا بما يزيد على ثلاثمائة من المرات!!
  • متوسط ما يخصص من مجمل الناتج القومي للبحث العلمي والتطوير في البلاد العربية لا يزيد على 0.53%، أي لا يزيد على خمسة وثلاثين في كل عشرة آلاف، على حين يبلغ هذا العدد. 280 في اليابان والولايات المتحدة و300 في إسرائيل، والشيء الذي يفزع لا تبديه هذه المقارنة فقط، بل ما تدل عليه حقيقتان:
    الأولى: التخلف المزري في البحث العلمي في العالم العربي، وهو وضع يوجب علينا أن نكون الأكثر إنفاقاً من الآخرين في هذا الجانب محاولة لتضييق الفجوة الهائلة بيننا وبينهم في هذا الميدان.
    الثانية: أن النسبة السابقة لا تظهر بوضوح ملامح الصورة الدالة على ضآلة ما ينفق على البحث العلمي في البلاد العربية، ولكن هذا الواقع ينضح من المقارنة بين الدخل القومي
    (GNP) الهائل لدول مثل الدول الأوربية والولايات المتحدة واليابان، والدخل القومي لأغنى الدول العربية التي هي موضع الغبطة والمساءلة على مواردها، ولعله من المفيد أن يعرف القارئ أن مجموع الدخل القومي لدول الخليج مجتمعة بسكانها الستة والعشرين مليوناً لا يبلغ نصف الدخل القومي لدولة من أصغر دول أوربا وليست من أغناها، وهي هولندا ذات الستة ملايين من السكان!!
  • أدنى معدل للإنفاق على البحث العلمي تمتاز به الدول العربية فهي أقل دول العالم إنفاقاً، فمتوسط الإنفاق في دول آسيا الفقيرة - خارجة عنها الصين واليابان - هو 19،0%، بينما لا يزيد متوسطه في البلاد العربية على 53،.%.
  • مع ما تقدم من شح الإنفاق في هذا الجانب فقد دلت الإحصاءات على أن الإنفاق في الدول العربية في انحدار لا زيادة، على أنه في الدول الأخرى في حالة نمو مطرد.
  • ما تقدم مقدمات لن تنفصل عن نتيجتها الحتمية وهي مقدار مشاركة العالم الإسلامي في البحث العلمي المنشور، فقد أظهرت إحصاءات اليونسكو لعام 1993م أن نصيب جميع الدول الإسلامية من البحث العلمي المنشور لا يتجاوز 1% في جميع فروع العلم!!

فهل يجوز بعد ذلك أن نبحث عن سبب آخر نفسّر به أو نبرر ما نعانيه من تخلف وضعف ومن حال جمع على الأكثرية منا السوءتين الفقر والقهر؟!

الحلم الحقيقة
الغرب - أو الآخر - لم يحدد لأي بلد إسلامي مقدار دخله القومي، ولم يضع ميزانيات هذه البلاد، ويصنّف أبوابها ويضع فيها أولويات الصرف والاهتمام، ولكن ذلك يتم ويتحدد بقدرتنا على الإنتاج، وبرؤيتنا للتدبير والتخطيط، وما يكون في نظرنا جديراً بالاهتمام أو الإهمال.

هل هذا الوضع مستعص على العلاج؟
العلاج ممكن وميسور متى صار هذا الأمر الجليل موضع الهم والاهتمام من قبل رأس الدولة في أي بلد عربي ومسلم، وكذا الأجهزة التشريعية والتنفيذية فيه، فإذا تحقق ذلك أصبح ما بعده قريباً من التحقق وميسوراً في التنفيذ.

إن إجراءات غير متعذّرة تنقل هذا الشأن من الحلم إلى الحقيقة، ومن الأمل إلى التحقيق، وفي سبيل تحقيق ذلك لابد من اتخاذ ما يلي:

  • ربط الوصول إلى غاية معينة من التقدم في العلم والتقنية بمدة زمنية محددة، والالتزام ببلوغ ذلك ثم الانتقال من الغاية الأولى إلى ما بعدها من الغايات.
  • تخصيص المال الكافي لتنفيذ كل مرحلة، آخذين في الاعتبار عند تخصيص حجم الإنفاق أن هذا الجانب هو أولى الجوانب بالإنفاق إذ إنه الاستثمار الحقيقي الذي يحدد ملامح المستقبل.
  • جعل هذه القضية موضع الاهتمام والمتابعة لدى الفرد والمجتمع عن طريق وسائل الإعلام والنشر المختلفة بتخصيص برامج دائمة للحديث عن ذلك والتنويه به والدعوة إليه.
  • إشعار القائمين على دوائر البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث وما يماثلها بالتقدير المعنوي والاجتماعي من قبل الدولة والمجتمع.

 

راشـد المبارك