لجأت فرنسا من أجل توطين ثقافتها ولغتها في مستعمراتها ـ إلى إرسال الشبان المستعمرين الواعدين إلى باريس لتلقي العلم، ولكن هذه السياسة أدت إلى عكس المأمول منها..!!
في ديسمبر عام 1958 دعا الرئيس كرامي نكروما رئيس غانا لعقد مؤتمر "كل الشعوب الإفريقية" الأول في العاصمة أكرا. واستغل نكروما الفرصة للدعوة إلى إقامة ما عرف باسم Pan-Africanism، وأثارت الفكرة والدعوة خيال كثير من الكتاب الأفارقة ـ وبخاصة في غرب القارة ـ للبحث عن الشخصية الإفريقية ومقوماتها بالرجوع إلى التاريخ والتراث الأفريقي التقليدي بكل ما يشتمل عليه من أساطير وأمثال وحكايات وأفكار إنسانية عميقة. وقد رأى هؤلاء الأدباء والمفكرون أن العودة إلى هذا التراث وإلى ثقافاتهم الوطنية هي الطريق الوحيد للتخلص من هيمنة الثقافات الغربية التي جلبها المستعمرون الأوربيون، والارتباط بالتالي بالجذور الإفريقية الثابتة الراسخة.
شيء ما
وعلى الرغم من أن إفريقيا السوداء كانت تموج دائما بالحركات السياسية التحررية التي ساعدت على ظهور عدد من الزعماء السياسيين الذين حققوا الاستقلال لأوطانهم في الستينيات على الخصوص، فإن الدعوة إلى الاستقلال في غرب إفريقيا وفي المستعمرات الفرنسية بالذات اتخذت بعدا ثقافيا إلى جانب البعد السياسي، ويتمثل هذا البعد الثقافي في الدعوة إلى التمرد على الثقافة الفرنسية التي كان الفرنسيون يفرضونها بالقوة على الشعوب المستضعفة ويريدون إحلالها ـ هي واللغة الفرنسية ـ محل الثقافات واللغات الوطنية. وكانت فرنسا تلجأ لتنفيذ ذلك إلى إرسال الشبان الأفارقة الواعدين إلى باريس لتلقي العلم هناك والاندماج بقدر الإمكان في المجتمع الفرنسي واعتناق الأفكار السياسية والفلسفية الفرنسية.
ولكن هذه السياسة أدت إلى عكس المطلوب والمأمول منها، فقد تمرد عدد من هؤلاء المبعوثين الأفارقة وكذلك الطلاب الوافدون من المنطقة الفرنسية في الكاريبي، على الحضارة الأوربية التي كانت تعتبر نفسها أرقى وأسمى من الحضارات الأخرى وتنظر باستعلاء إلى الثقافات الإفريقية (السوداء). وتبلور ذلك التمرد في ظهور الدعوة إلى العودة إلى الأصول الإفريقية، والاعتزاز بإفريقيا الوطن الأم، وبالانتماء إلى ثقافتها التقليدية. وظهرت نتيجة لذلك الحركة المعروفة باسم الزنوجة أو الزنجية negritude التي تقوم على الاعتقاد بأن الزنوج في مختلف مناطق العالم المتباعدة ـ تباعد غرب إفريقيا عن أمريكا والبرازيل وتاهيتي وما إليها ـ يجمعهم عامل واحد، يشير إليه الشاعر المارتنيكي إيميه سيزير بوجود (شىء ما) مشترك بينهم جميعا، وهو عنصر إفريقي الأصل، وأنه يجب التركيز على إبراز هذا (الشىء) والتمسك به، والذي يعبر عنه بكلمة الزنوجة.
عنصرية؟!
وقد وضع إيميه سيزير ذلك المصطلح الذي أصبح يؤلف فلسفة كاملة ليكون أساسا تقوم عليه عملية اكتشاف الذات، دون أن يعني ذلك الارتماء تماما في أحضان الماضي والانقطاع بالتالي عن العالم الحديث، بل لكي يكون نقطة للانطلاق إلي العالم الفسيح الرحب على كل المستويات، ولإبراز مكامن القوة في الشخصية الإفريقية وفرضها على العالم.
وقد هوجمت فكرة الزنوجة على زعم أنها دعوة للعنصرية، ولكن سيزير رفض التهمة لأن الزنوجة لا تنادي باستعلاء الشعوب السوداء على غيرها من الشعوب، ولا تزعم أن الثقافة الإفريقية والقيم الزنجية أرقى وأسمى من غيرها من الثقافات وأنساق القيم الموجودة في العالم كما هو الحال بالنسبة لمزاعم الجنس الأبيض، وكل ما تطلبه هو أن تجد لها المكان الذي تستحقه بين ثقافات العالم بفضل إنجازاتها وإسهاماتها العديدة على مر القرون.
وظيفة درجة ثانية
وقد شغلت فكرة الزنوجة الفكر الإفريقي ثم الفكر العالمي اعتبارا من عام 1939 حين نشر إيميه سيزير قصيدته الملحمية الشهيرة (كراسة العودة إلى أرض الوطن) في المجلة التي كان قد أنشأها وهو في باريس ـ وهي مجلة (الطالب الأسود ـ وحين أعيد نشرها عام 1947 كان عدد من الكتاب والمفكرين والفنانين الزنوج قد اعتنقوا الفكرة بالفعل، وكان من أهم من انضم إليها وارتبط اسمه بها منذ البداية الشاعر السنغالي ليوبولد سنجور الذي أصبح فيما بعد رئيسا للسنغال. وقد شاعت في ذلك الحين ـ أو بعدها بقليل ـ قصيدته الرائعة الأخرى التي يقول فيها:
ها هنا يقوم الذين لم يزعموا أنهم خلقوا على صورة الإله
وإنما ارتضوا بصورة الشيطان
الذين يعتبرون الزنوجة أشبه بوظيفة من الدرجة الثانية
ولكنهم يأملون في مستقبل أفضل وترقية مرضية
الذين يعيشون وحدهم في قبو صغير في بناية شاهقة
ولكنهم يزدهون بمسوخهم المتكبرة
الذين يقولون لأوربا: انظري فنحن أيضا نعرف التملق والمداهنة
ولكننا نعرف كيف نحترم الآخرين
إننا لا نختلف عنك في شيء
فلا تنظري إلى سواد جلدنا
فالشمس هي التي أحرقته
الثقافة السوداء
ولم تنتشر فكرة الزنوجة بين أفارقة شرق القارة مثلما انتشرت بين مثقفي غرب إفريقيا وبين زنوج الكاريبي، لأنهم هم سلالة العبيد الذين اختطفهم الأوربيون وشحنوهم أرقاء إلى العالم الجديد حيث وجدوا المهانة والاستعباد. ورغم مرور كل ذلك الزمن فلا تزال الرابطة العاطفية والحنين إلى الأصول الأولى متأججين في الصدور، وزادتهما تأججا ظهور فكرة الزنوجة والدعوة التي تدعو إليها باعتبارهم ينتمون إلى حضارة إفريقية تعتبر من أقدم حضارات العالم وثقافاته. وقد تكون الفكرة آخذة الآن في التراجع، ولكن المهم هو أنها أيقظت مشاعر زنوج العالم الجديد بأصولهم، فأصبحوا يشيرون إلى أنفسهم ليس على أنهم زنوج أمريكا أو الأمريكيون السود بل على أنهم الأفارقة الأمريكيون، وأفلحوا في أن يفرضوا تدريس الثقافة السوداء في كثير من جامعات أمريكا تحت اسم Black Studies.
وقد ولد إيميه سيزير في المارتنيك بمنطقة الكاريبي الفرنسية عام 1913، وحصل على منحة لاستكمال دراسته في باريس عام 1931 وهو في الثامنة عشرة من عمره، وهناك واصل دراسته إلى أن التحق بمدرسة المعلمين العليا "إيكول نورمال سوبيريير" التي لا يلتحق بها إلا الأذكياء النابغون والتي من خريجيها عدد كبير من ألمع المفكرين والفلاسفة في فرنسا. وقد أصدر مع بعض زملائه ـ و منهم سنجور ـ مجلة "الطالب الأسود" عام 1934، وكانت منذ نشأتها لسان حال الدعوة إلى الزنوجة، وشارك في تحريرها عدد من المفكرين الزنوج الذين اكتسبوا شهرة فائقة نتيجة لذلك من أمثال داما وسانفيل وموجيه، ثم عاد إلى المارتنيك عام 1939 حيث اشتغل بالتدريس في فور دي فرانس أكبر المدن هناك، أصدر عام 1941 مجلة "مداريات" أو المناطق المدارية ليواصل فيها الاتجاه نفسه والدعوة إلى إحياء الأدب والفن والثقافة الزنجية. وكان حماسه للزنوجة والتمرد على الثقافة الفرنسية الطاغية وعداؤه للحضارة الغربية قد دفعته إلى الانضمام وهو في فرنسا إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنه استقال منه عام 1956 لكي ينشىء في المارتنيك "الحزب التقدمي المارتنيكي" ليحمل نفس الدعوة ونفس السياسة. وفي المارتنيك ـ أيضا ـ تم اختياره عمدة لمدينة فور دي فرانس ثم نائبا بعد ذلك عن المارتنيك في الجمعية الوطنية "البرلمان" الفرنسية، وبذلك ارتبط نشاطه السياسي بحياته الثقافية، وظل يمارس هذا النشاط المزدوج حتى تقاعده عام 1983 لبلوغه الثمانين من العمر.
مانيفستو سريالي
وتعتبر قصيدته (كراسة العودة إلى أرض الوطن) (مانيفستو الزنوجة). وقد وصفها شاعر فرنسا السيريالي الكبير أندريه بريتون بأنها نموذج للشعر السريالي الزنجي. والواقع أن ذلك الطابع السريالي يصبغ كل قصائده التي كثيرا ما يستخدم فيها عبارات وأخيلة تثير حيرة القارئ في تفسيرها. وقد لجأ إلى هذا الأسلوب نفسه في مسرحيته (العاصفة) التي استوحى موضوعها من مسرحية لشكسبير بنفس الاسم، ولكن بعد إدخال كثير من التعديلات والتحويرات حتى تتلاءم مع أوضاع الزنوج المستعمرين إزاء الرجل الأبيض المستعمر، كما أن الأحداث ذاتها تحدث في المارتنيك لكي تبين في آخر الأمر أن الإنسان الأبيض يلحق بالإنسان الأسود كل أنواع الأكاذيب والافتراءات لكي يظهره في منزلة أدنى من المنزلة التي تحتلها الشعوب البيضاء، سواء في الأخلاق أو القيم أو التفكير.
زنوجة الشتات
تمثل فكرة الزنوجة المقومات الأساسية للشخصية والثقافات والقيم الافريقية في (الشتات) ـ حسب التعبير المستخدم في كثير من الكتابات ـ وبخاصة في العالم الجديد. وتبرز الفكرة بإلحاح شديد ما يسميه مفكرو الزنوجة (كبرياء التراث والثقافة الإفريقية)، كما تؤكدـ بإلحاح شديد أيضا ـ أن كل السود في العالم هم أحفاد (أعظم الشعوب التي عمرت الأرض وأكثرها اعتزازا بكبريائها). فالفكرة تمثل صراع الإنسان الأسود من أجل تحقيق حريته السياسية والروحية على السواء، وتسخر في الوقت ذاته من ادعاءات الاستعلاء التي يتخذها الإنسان الأبيض إزاء السود. وحين ذهب سيزير إلى إفريقيا لأول مرة تغنى بها في قصيدة تقول:
آه لهؤلاء الذين لم يخترعوا شيئا أبدا
الذين لم يكتشفوا شيئا أبدا
الذين لم يغزوا أرضا أبدا
لكنهم يستسلمون ويستجيبون لجوهر الأشياء
الذين يجهلون السطحيات
ولكن تأسرهم حركة الأشياء
الذين لا يهتمون بالغزو
ولكنهم يدركون لعبة العالم
إنهم أقدم أبناء العالم
إنهم الشرارة الأولى لكل نار مقدسة في العالم
إنهم لحمُ لحمِ العالم النابض بكل حركة في العالم
يسمعون الإنسان الأبيض في العالم
وقد أرهقتهم جهود العالم الفاشلة
ومفاصله المتيبسة تئن تحت النجوم القاسية
ويسمعون الصلب الأزرق وهو يخترق اللحم الغامض
وانتصاراته الخادعة التي تخفي كل هزائمه
مثلما يسمـعون الأعذار الفخمة الجوفاء عن تعثراته البائسة
واحسرتاه على جبروت غزاتنا الساذجين