الخصخصة من الاحتكار العام الى الاحتكار الخاص

الخصخصة من الاحتكار العام الى الاحتكار الخاص

ثمة سؤال يطرح نفسه بعد قراءة نتائج التحولات الاقتصادية في بعض الدول خلال العقدين الماضيين: كيف يمكن تحقيق التوازن بين دوري القطاعين العام والخاص؟

تطرح بإلحاح متزايد في السنوات الأخيرة مسألة التخصيص أو الخصخصة بوصفها الخيار الأمثل، والأكثر جدوى في نظر البعض، الذي يتيح للاقتصاد الوطني في هذا البلد أو ذاك مواجهة التحديات الكبيرة الناجمة سواء عن تبدل النظام الاقتصادي - الاجتماعي (كما هو الأمر في البلدان التي كانت تسمى اشتراكية)، أم عن الأزمة الاقتصادية والمالية (كما هو الأمر في عدد كبير من البلدان، لاسيما النامية منها)، أم دخول حقبة ما بعد (الطفرة النفطية) في العمق، وما تطرحه من موجبات إعادة هيكلة الاقتصاد ودور القطاع الخاص في هذه العملية (وهذا يمس بالدرجة الأولى البلدان المنتجة والمصدّرة للنفط)، أم عن متطلبات العولمة المتعاظمة في كل الميادين (وهو أمر يطال جميع البلدان دون استثناء بصرف النظر عن موقعها ومستوى تطوّرها الاقتصادي والاجتماعي).

إن شمولية هذه المسألة وأهميتها البالغة بالنسبة لاقتصادات البلدان التي تلجأ إليها وتسعى إلى اعتمادها، تفرض مقاربتها مقاربة علمية واعية، وتطبيقها بصورة واقعية بعيداً عن كل شطط أو تسرّع، كون نتائجها تنعكس بصورة مباشرة سلباً أو إيجاباً (تبعاً لطريقة تطبيقها) على حياة الناس ومستوى معيشتهم، وعلى مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد المعني.

1- في المفهوم
اختلفت المصطلحات المعتمدة في اللغة العربية للدلالة على هذه العملية: (من (التخصيص) إلى (التخاصية) و(التخصصية) إلى الكلمة الأكثر رواجاً رغم اعتراضات بعض اللغويين عليها وهي (الخصخصة). يقابل هذا المصطلح في اللغة الانجليزية كلمة
(Privatization)، ويطلق على عملية تحويل المؤسسات العامة، أي ملكية القطاع العام، كلياً أو جزئياً إلى القطاع الخاص. وعموماً لا توجد صيغة واحدة للخصخصة، بل هناك مجموعة صيغ يمكن تطبيقها وفقاً للظروف ولنوع المؤسسة أو المرفق المزمع تخصيصه. من هذه - تحويل ملكية القطاع العام جزئياً أو كلياً إلى القطاع الخاص (بيع مؤسسة عامة ما بالكامل أو تحويلها مؤسسة مختلطة يشارك القطاع الخاص في جزء من ملكيتها).

- تعاقد القطاع العام مع القطاع الخاص لتقديم خدمات مؤسسة عامة عن طريق نقل الإدارة أو التأجير (أو ما يسمى تلزيم مجمل أو جزء من نشاط هذه المؤسسة للقطاع الخاص مع بقاء ملكيتها للقطاع العام).

- اعتماد الصيغة الثلاثية B.O.T. (التشييد، التشغيل، النقل)، أي تكليف القطاع الخاص إنجاز مشروع ما والسماح له بتشغيله لفترة معينة حتى استرداد كلفة الانشاء مع نسبة معينة من الأرباح يتم الاتفاق عليها، ثم إعادته للقطاع العام بعد انتهاء المدة المحددة.

- اعتماد صيغة B.O.O. (التشييد، التشغيل، التملك). أي السماح للقطاع الخاص بتملك المشروع بعد فترة زمنية مع دفع مترتبات هذا التملك للدولة، إلخ.. ويمكن أن تأخذ الخصخصة، خصوصاً بصيغتها الأولى، أشكالاً ملموسة مثل: طرح علني للأسهم، بيع خاص للأسهم لمشتر استراتيجي، بيع خاص للأسهم إلى مستثمر أو مجموعة من المستثمرين، توزيع حر للأسهم على الموظفين أو الجمهور أو على مؤسسات أخرى، أو مزيج من الأشكال المذكورة. وثمة مَن يدعو إلى عدم الخصخصة حسب النماذج آنفة الذكر، بل الاكتفاء في حالات معينة ببيع حصة محددة من إنتاج المؤسسة المعنية إلى شركات خاصة تتولى تسويقها.

وهكذا، فإن مفهوم الخصخصة واسع جداً ويشمل أكثر من صيغة وشكل ملموس للتطبيق. وهو لا يقتصر على مجرد بيع ملكية الدولة للقطاع الخاص، بل يتيح تنوّع الصيغ والأشكال هذه للدولة وإبقاء أدوات فعّالة في يديها لممارسة الرقابة والتأثير والتدخل عند الضرورة لضبط نشاط المؤسسات المخصصة والحدّ من التأثيرات السلبية، الاقتصادية والاجتماعية، المحتملة لعملية الخصخصة.

2- في الدواعي أو الموجبات
تختلف دواعي اعتماد الخصخصة بين بلد وآخر، تبعاً للظروف ولمستوى التطوّر الاقتصادي ولأداء الاقتصاد (بقطاعيه العام والخاص) في البلد المعني.

ففي البلدان الاشتراكية السابقة وبعد انهيار التجربة الشيوعية كان اللجوء إلى الخصخصة بالدرجة الأولى، تعبيراً عن الرغبة في التخلص من أحد أهم أسس البناء الاشتراكي، أي الملكية العامة لكل وسائل الانتاج، والانتقال من هيمنة الدولة الكاملة على العملية الاقتصادية والتحوّل من المركزية المطلقة في الاقتصاد إلى اقتصاد السوق. وكان هذا يعني تفكيك القطاع العام من أجل خلق قطاع خاص كان غائباً عملياً في ظل النظام الاشتراكي وإعداد التربة المناسبة للانتقال إلى الرأسمالية. وقد اتسمت هذه العملية في تلك البلدان بالتسرّع وعدم مراعاة الشروط الضرورية، القانونية والاقتصادية، الكفيلة بجعل عملية إعادة توزيع الثروة عادلة اجتماعياً وذات جدوى اقتصادية. وكأنه كان المطلوب هو إنجاز هذه العملية بأسرع ما يمكن وتسهيل عملية تراكم الرأسمال الخاص وخلق الطبقة الرأسمالية الجديدة، لقطع الطريق أمام احتمال العودة عن التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان.

لذا، اتسمت هذه العملية، خصوصاً في روسيا، بتجاوزات فاضحة وخرق للقوانين، حيث وصفها أحد الاقتصاديين الروس بأنها (أكبر عملية لصوصية في التاريخ)، فقد جرى تحويل المؤسسات الكبرى التابعة للدولة في الميدان المالي وميدان التجارة الخارجية والداخلية، وكذلك في القطاعين الصناعي والخدماتي وفي مجال الإعلام، إلى شركات مساهمة استولى المتموّلون الجدد على معظم أسهمها بأبخس الأثمان، فقد بيع 324 مصنعاً بسعر وسطي يقل عن 4 ملايين دولار للمصنع الواحد. فجرى بيع شركة (أورال ماش) عملاق صناعة السيارات والشاحنات بـ3.7 مليون دولار، ومجمع تشيليابنسك للميتالورغيا بسعر مماثل، أما مصنع كوفروف للتجهيزات الذي كان يمد الجيش وقوات الأمن الداخلي وأمن الدولة بالأسلحة الفردية، فقد تم بيعه بـ2.7 مليون دولار... إلخ.

هكذا تمكنت حفنة من كبار المتموّلين الجدد في روسيا من وضع اليد على أهم قطاعات الاقتصاد الروسي، دون أن تؤدي عملية الخصخصة هناك إلى الهدف المرجو، أي تحسين الأداء الاقتصادي وتفعيل الاستثمارات وزيادة النمو، وتوفير خدمات أفضل، إلخ.

ولأن النتيجة ما نراه اليوم من تقهقر متزايد في الاقتصاد الروسي. وبديهي أن هذا النوع من الخصخصة ليس هو الذي نتحدث عنه أو نبغيه لبلداننا.

أما في البلدان الرأسمالية النامية، فإن دواعي وأهداف تحويل القطاع العام أو قسم منه إلى القطاع الخاص كلياً أو جزئياً، تمثلت في التخلص من الفساد المستشري في القطاع العام ومن خسائر المؤسسات العامة، وأعبائها، بسبب انعدام الكفاية الإنتاجية لهذه المؤسسات وعجزها عن مواكبة التقدم التكنولوجي، بحيث تحوّلت هذه المؤسسات إلى بؤر تستنزف الموارد الاقتصادية أثقلت كاهل الموازنة العامة للدولة، وكانت سبباً في تزايد المديونية العامة وتفاقم أعباء خدمة الدين. هذا الأمر استوجب لجوء الدولة إلى زيادة الأعباء الضريبية على المواطنين والاعتماد أكثر فأكثر على الاستدانة الخارجية والداخلية، مع ما ينجم عن ذلك كله من عواقب سلبية اقتصادية واجتماعية، وسياسية في نهاية المطاف.

أما في البلدان الرأسمالية المتقدمة، فكان الدافع الأساسي إلى اعتماد الخصخصة منطلقا من مقولة (إن الدولة ليست أفضل رب عمل)، وإن هذه الدولة غير مؤهلة لتملك وإدارة الشركات الإنتاجية، وإن دورها ينبغي أن يقتصر على سن التشريعـات والرقابة والإشراف على تطبيق القوانين ومنع الاحتكار.. إلخ. في حين أن القطاع الخاص، بمرونته المعهودة وسعيه إلى الربح الذي يشكّل الحافز الرئيسي لتطوير الإنتاج والاستخدام الأمثل للموارد، مؤهل أكثر لتأمين قدرة تنافسية أكبر للمشروع الاقتصادي، ولحثّه على التطوير التكنولوجي للعملية الإنتاجية، وهو أمر يتسم بأهمية استثنائية في ظروف العولمة المتزايدة، وما تفرضه من تعاظم متزايد لحرية التجارة وإزالة الحواجز الجمركية وإلغاء السياسات الحمائية التي لاتزال متبّعة في معظم البلدان.

فضلاً عن ذلك، نشأت في مجموعة من البلدان، وتحديداً في عدد من البلدان المنتجة والمصدّرة للنفط، وبفضل الفوائض المالية الكبيرة التي تكوّنت لديها خلال حقبة (الطفرة النفطية)، نشأت وتعززت (دولة الرعاية الاجتماعية) التي أخذت على عاتقها الجزء الأكبر من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هذا الأمر أوجب قيام قطاع عام كبير نسبياً شمل ميادين الإنتاج الأساسية وتقديم الخدمات المختلفة للاقتصاد وللمواطنين.

لقد كانت تلك مرحلة ضرورية، ساهمت خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً في إنهاض هذه البلدان وفي قطع شوط مهم في عملية التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

أما اليوم فقد تبدّلت الظروف لأسباب عدة، منها انتهاء (الطفرة النفطية) التي تستوجب تغييراً جذرياً في استخدام عوائده النفطية (علماً أن الارتفاع الحالي في أسعار النفط العالمية لا يغير من واقع انتهاء الطفرة المذكورة)، ومنها أيضاً التغيرات الجذرية في ظروف العولمة المتزايدة، التي تفرض - كما ذكرنا - تقليص السياسة الحمائية وصولاً إلى إلغائها وخلق الظروف لقيام قطاع خاص ديناميكي وفاعل، ومن هذه الأسباب أيضاً، أن هذا القطاع الخاص قطع شوطاً كبيراً في تكوّنه ونضجه، وصار بإمكانه ومن واجباته أن يأخذ على عاتقه حصته من المسئولية.

كل هذه الأسباب وغيرها، طرحت وتطرح على البلدان المذكورة مهمة السعي بجديّة لتخفيف الاعتماد على النفط وإعادة هيكلة الاقتصاد وإنشاء وتطوير فروع إنتاجية غير نفطية تحضيراً لمرحلة ما بعد النفط، الذي هو ثروة ناضبة في نهاية المطاف. هذه المهمات والتحدّيات تفرض الاستفادة إلى أقصى حد من قدرات وطاقات وخبرات ورءوس أموال القطاع الخاص، المؤهل لإدخال حيوية جديدة في عروق الاقتصاد الوطني.

3- في الشروط والمحاذير
وهكذا، فإن عملية الخصخصة تهدف بشكل عام إلى:

- تحسين النمو الاقتصادي وتوسيع أسواق رءوس الأموال ورفع مستوى الخدمات وزيادة حجم الاستثمار.

- المساهمة في إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني.

- خفض النزف في الموارد.

- خفض الأعباء الإدارية والمالية ومكافحة الفساد في القطاع العام.

- خفض الدين العام وتقليص حجم العجز وتفعيل الدورة الاقتصادية بالاستفادة من فاعلية القطاع الخاص ومرونته وقدرته التنافسية.

بيد أن ثمة شروطاً ومحاذير يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند اللجوء إلى الخصخصة واعتمادها كسياسة اقتصادية وكخيار استراتيجي.

أولها، المقاربة العقلانية والواقعية عند تحديد قيمة المؤسسة المطروحة للخصخصة، بحيث لا يهدر المال العام بأسعار بخسة (على غرار ما حصل في روسيا مثلاً)، واعتماد الأشكال والصيغ الملائمة للخصخصة والتي تتلاءم مع وضع المؤسسة والظروف التي تعمل في ظلها ونوعية القطاع الذي تنتمي إليه، وكذلك دورها وموقعها عموماً في بنية الاقتصاد الوطني.

فمن الضروري والمهم تلافي نقل الملكية إلى القطاع الخاص بأسعار متدنية لا تعكس القيمة الحقيقية للموجودات ولمستوى الإنتاج المستقبلي للمؤسسة المطروحة للخصخصة في حال إعادة تأهيلها. وهذا الأمر يفترض إما إعادة تأهيل المؤسسة مسبقاً، وإما تحديد قيمتها بعد إعادة التأهيل المفترضة.

وفي كل الأحوال، ينبغي أن تكون المنفعة العامة في رأس الأولويات عند اتخاذ قرار الخصخصة.

ومن أهم المحاذير عدم السماح لحفنة من المتموّلين بوضع اليد على القطاعات المفصلية في الاقتصاد الوطني، وبالتالي الحيلولة دون نشوء احتكارات تهيمن على هذه القطاعات.

فعلى الدولة سن القوانين الضرورية لذلك واعتماد الشفافية وممارسة الرقابة الفاعلة والصارمة على الأنشطة والمؤسسات التي يتم تخصيصها لمنع الاحتكار وتفعيل المنافسة، وللتأكد من حصول الدولة والمواطن على الشروط الفضلى. إن الخصخصة ينبغي ألا تؤدي إلى حلول الاحتكار الخاص مكان الاحتكار العام.

وأخيراً، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان البعد الاجتماعي لعملية الخصخصة والعواقب المحتملة اجتماعياً التي يمكن أن تنجم عنها، في ما يخص العمالة واحتمالات التسريح والبطالة وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يفترض وضع الضوابط وسن التشريعات الضرورية للحدّ قدر الإمكان من الكلفة الاجتماعية لعملية الخصخصة.

* * *

وهكذا، فإن الخصخصة، كخيار اقتصادي واجتماعي استراتيجي، ينبغي أن تطبّق بعقلانية وبكثير من الدراية والتمعّن والحذر، حتى لا تغلب السلبيات على الإيجابيات المنشودة. في هذا السياق، ربما من المفيد استعادة رأي أحد أبرز عرّابي الخصخصة وهو جوزيف ستيغيلتز نائب رئيس البنك الدولي ورئيس الخبراء الاقتصاديين فيه.

فهو إذ يؤكد على أهمية وضرورة الخصخصة وعلى تفعيل دور القطاع الخاص، يستدرك قائلاً: إن القطاع الخاص أقدر على صناعة الثروة، إلا أن الحكومات هي الأقدر على تحقيق التنمية عندما تتوافر شروطها.

كما أنه ليس أسوأ من اقتصاد الدولة الموجه والمحتكر إلا سيطرة رأس المال والقطاع الخاص واحتكارهما للاقتصاد. فرفض الناس هيمنة الدولة لا يعني أنهم لا يرفضون هيمنة القطاع الخاص، ولاسيما في قطاعات مثل الصحة والتعليم.

إن التحدي الأساسي الذي يواجه الحكومات عند اعتماد الخصخصة كخيار استراتيجي هو تحقيق التوازن بين دور القطاع العام والقطاع الخاص.

 

محمد دياب