مجتمع الكويت المدني: انتشار .. أم انحسار؟

مجتمع الكويت المدني: انتشار .. أم انحسار؟

المجتمع المدني في أبسط تعريف له هو المؤسسات الأهلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في استقلال عن سلطة الدولة, ويكون نشاطها هو النشاط الشعبي المنظم عن طريق الأحزاب وجمعيات النفع العام والنقابات.

وتعد مؤسسات المجتمع المدني الرديف والقوة الموازية للمؤسسات الرسمية الحكومية التي تحفظ توازن المجتمع وتحافظ على قيمه وفكره وفعله الإيجابي باتجاه التقدم والنهضة.

ومن المهم ونحن نتكلم عن المجتمع المدني في الكويت, أن نؤكد أنه برغم الحضور النسبي لبعض التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية السائدة, وبرغم تمثيل تلك الاتجاهات والمدارس في تنظيمات غير حكومية, وبعضها شبه حكومية علنية وغير علنية, فإنها محدودة الأثر برغم الزخم الجماهيري, الذي بدت عليه بعضها في بعض فترات تاريخنا المعاصر, مثل سيادة التيار القومي في الخمسينيات والستينيات, وسيادة التيار الديني السياسي في الثمانينيات والتسعينيات, حيث بقي تأثير الدولة هو السائد والمهيمن.

الدستور والمجتمع المدني

نصت المادة 43 من الدستور الكويتي لعام 1996 على أن:

(حرية تكوين الجمعيات والنقابات على أسس وطنية وبوسائل سلمية مكفولة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون, ولايجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي جمعية أو نقابة).

وواضح من نص المادة ومن المذكرة التفسيرية للدستور أنه ليس هناك نص على حرية تكوين الأحزاب لكن في الوقت نفسه ليس هناك نص يحرمها أو يمنع قيامها.

وقد وضعت هذه المادة موضع التنفيذ العملي بعد صدور الدستور والعمل به, فبدأت تتكون المؤسسات من جمعيات نفع عام ونقابات تباعاً, وقد شملت مختلف المجالات الثقافية والمهنية, وأصبح لدى الكويت اليوم مايسمى بالمجتمع المدني أو مجتمع المؤسسات, بيد أن هذه المؤسسات من الناحية الفعلية قامت بدور محدود في الحراك الاجتماعي وفي البناء, برغم عددها الكبير نسبياً في المجتمع الكويتي الصغير.

ولكن برغم تكوين المجتمع المدني عن طريق المؤسسات الحكومية والأهلية والدور الذي تقوم به, فإن المجتمع يعيش مشكلات أساسية لابد من معرفتها ومواجهتها.

ماهي المشكلة؟

يذهب بعض الباحثين إلى أن المجتمع الكويتي, يميل إلى التشرذم والتفكك بلا جامع موحد لقيمه وأهدافه وشئونه وتعدده, فهو متعدد الولاءات ومنقسم على نفسه وعلى مستقبله ويعيش مأزق التنمية, والمعارضة فيه لاتزال ضعيفة وغير قادرة على ممارسة دورها المفترض أن تقوم به. ولعل ترجمة وتوضيح ماذهب إليه هؤلاء يمكن تلخيصه بأن هذا المجتمع وبسبب عوامل داخلية وخارجية خلال العقود الثلاثة الماضية شهد ـ ولايزال ـ انقساماً من نوع خاص مثل البدو والحضر, والجماعات الدينية, والجماعات الليبرالية, والتوتر بين الدولة والمجتمع أحياناً, وأزمة في التنمية سببها الهدر, وعدم الاستفادة من الكفاءات, وترهل الإدارة الحكومية. ولا تسير المشكلة برغم نمو المجتمع المدني الكمي في طريق الحل, لأن أسبابها عميقة تعود إلى التكوين الديموغرافي للسكان, وظروف الكويت الإقليمية, وطبيعة الممارسة الديمقراطية والتغير في القيم وبخاصة بعد الغزو العراقي للكويت.

إن خطر تشرذم بعض قطاعات المجتمع قد تعدى أثره, من الخلافات الأيديولوجية أو الشخصية إلى خطر التشرذم القبلي أو الطائفي, أوضح أشكاله تكمن في المزاوجة بين الانتماء للتيار الأصـولي الدينـي, والانتـماء القبلي الطـائفـي وهو زواج مصلحة لأن الانتماءين متناقضان بشكل جذري, فالانتماء إلى الإسلام هو انتماء أممي إنساني معارض للعصبية وضد التعصب.

فالكويت البلد الخليجي الذي يمر منذ عام 1961 بتجربة ديمقراطية جادة يحاول بناء المجتمع المدني ويفترض في إطار هذا المنهج ألا تكون مشكلاته معقدة وخطيرة إلى هذا الحد, هذا البلد يعتبر نموذجاً أو عدسة مكبرة لكثير من الملامح المشتركة بين دول الخليج العربية لا بل بعض دول المشرق العربي, ومن هذه الملامح طغيان القبلية على التركيبة السكانية وطغيان تيار الإسلام السياسي وتزاوج الأصولية الدينية مع القبلية, وظاهرة المجتمع الاستهلاكي, وهنا نجد أن ظاهرة القبلية طغت على ثقافة المدينة واستطاعت جذب المدينة لتأثيراتها وهنا لابد من استعراض مؤسسات المجتمع المدني, والتي اتخذت مجالاً للتأثير الاجتماعي والسياسي في الكويت.

جمعيات النفع العام والدستور

وفقا للمادة 43 من الدستور تأسست في الكويت جمعيات للنفع العام توزعت في مجالات عديدة مهنية وثقافية.

وهذه الجمعيات هي مؤسسات اجتماعية وثقافية هدفها المصلحة العامة, وتمثل جماعات معظمها من الطبقة الوسطى, ومن تخصصات مهنية. متنوعة ومتباينة, وتختلف درجة ثقل وأهمية هذه الجمعيات حسب مجالها ونشاط أعضائها وثقل بعضهم الاجتماعي والاقتصادي. وتتوزع على مجالات متعددة فمنها: جمعيات خيرية, ثقافية واجتماعية ونواد رياضية. وتحصل هذه الجمعيات على دعم مادي من الدولة وتنتخب مجالس إداراتها, وتخضع لقانون وزارة الشئون الاجتماعية والعمل, ولها حرية النشاط في حدود اختصاصاتها وقانون جمعيات النفع العام.

بعض هذه الروابط والجمعيات لها نشاط ملحوظ, ويساهم في التنمية والنهضة في المجتمع, وبعضها واجهات اجتماعية, وبعضها الآخر خرج عن اختصاصه, وأصبح واجهة لنشاطات سياسية أو سياسية دينية, كما أن البعض منها ليس له أي نشاط وأشبه بالمديونية التقليدية التي تضم الأصدقاء.

ويمكن القول هنا إن بعض الجمعيات الخيرية قد سيست وخرجت عن أهدافها وجيرت لنشاطات حزبية. وأغلب الجمعيات والروابط الثقافية والاجتماعية نخبوية ونشاطها موسمي, وتأثيرها محدود باستثناء العدد القليل منها. والنوادي الرياضية أصيبت بداء المصالح الشخصية والفئوية برغم ميزانياتها المتضخمة, وهناك في الكويت جمعيات تحت التأسيس لم يصرح بها رسمياً حتى الآن برغم أنها لاتتعارض مع نص المادة 43 من الدستور وقانون جمعيات النفع العام مثل: جمعية حقوق الإنسان, وجمعية هيئة التدريس في الجامعة, والاتحاد الوطني لطلبة الكويت وغيرها.

الحركة العمالية

كفل دستور الكويت حرية تكوين النقابات (المادة 43), وصدر قانون رقم 38 لسنة 1964, الخاص بذلك, وبدأ تكوين النقابات في القطاع الحكومي في الوزارات في الفترة مابين 1964 ـ 1967م. وكذلك تكونت النقابات العمالية في القطاع النفطي, وتشكل اتحاد لعمال القطاع الحكومي واتحاد آخر لعمال البترول وتكون من الاتحادين الاتحاد العام لعمال الكويت في 25/ 12/ 1967.

وكانت نشأة هذه النقابات والاتحادات في الستينيات في أجواء عربية ودولية تشجع على قيام مثل هذه المؤسسات, وفي ظل هيمنة التيار القومي الذي أصبح له وجود فعلي فيها, وكان للحركة الوطنية في الكويت دور في دعم الحركة العمالية في تلك المرحلة. ولذلك حققت الحركة العمالية العديد من المكاسب النقابية والمعيشية للعمال بوسائل سلمية, وأثبتت حضوراً جيداً على المستوى العربي والدولي, ولكن دورها بدأ يتضاءل في الفترة الأخيرة, كما دخلتها جماعات الإسلام السياسي وسيطرت على العديد منها. وقد تم تسييس أغلبها سواء في فترة سيطرة التيار القومي أو في فترة سيطرة التيار الديني السياسي. وعلينا أن نشيد بجو الحرية الذي توافر في الكويت لمثل هذا العمل النقابي وهو بلاشك ظاهرة حضارية. أما المظهر البورجوازي للحركة العمالية الكويتية فهو إفراز لطبيعة المجتمع, وعلينا أن نقارن أوضاع العمال في الكويت بأوضاع القطاعات المجتمعية الأخرى في هذا المجتمع وليس في المجتمعات الأخرى فالفارق كبير.

الجمعيات النسائية

شمل قانون جمعيات النفع العام تكوين الجمعيات النسائية, والتي تعتبر أحد مؤشرات الوعي الاجتماعي في الكويت. وقد قامت جمعيتان نسائيتان في الستينيات هما: جمعية النهضة النسائية, والجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية, ونادي الفتاة تأسس في منتصف السبعينيات, ثم تأسست جمعيتان نسائيتان في الثمانينيات هما جمعية (بيادر السلام) وجمعية (الرعاية الإسلامية), وتتبعان الجماعات الدينية وتحصلان بالإضافة إلى الدعم الرسمي على تبرعات المؤسسات الدينية مثل بيت الزكاة وبيت التمويل وغيرهما.

وتتميز عضوات الجمعيات النسائية بأنهن من الشابات النشيطات والملتزمات ومعروف أن الجماعات الدينية قد نجحت في التأثير وسط النساء أكثر من الرجال في الكويت كما أعلن أخيراً عن إنشاء اتحاد نساء الكويت. وبعض المؤسسات النسائية أقرب للواجهة الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر.

وفي مجتمعات الخليج العربي تضطلع المؤسسات الثقافية من أندية وجمعيات اجتماعية ونسائية وروابط واتحادات ومسارح ومراكز ومجالس وهيئات بدور أساسي في مناقشة التنمية والتغيير من خلال اتجاهات فكرية متعددة إسلامية وقومية وليبرالية.

وقد سمحت الدولة في الكويت بالنشاط الثقافي, كما أنشأت بعض المؤسسات التي تعنى بهذا النشاط مثل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وبصورة عامة كان يراد للثقافة أن تسير في إطار ضوابط تريدها الدولة ولكن الملاحظ أن النخبة المثقفة لم تستغل المؤسسات الثقافية بشكل جيد وتقوم بتفعيلها لتكون رائدة في نقد الظواهر السلبية في المجتمع, والصحافة في مقدمتها ثم المسرح والمجالات الأخرى.

وتمتد ظاهرة التنظيمات والتجمعات السياسية في الكويت إلى بداية الخمسينيات من هذا القرن, ففي الخمسينيات والستينيات انحصرت هذه التنظيمات في حركة القوميين العرب, وحزب الإخوان المسلمين وتنظيم صغير لحزب البعث العربي الاشتراكي, وكانت فترة الخمسينيات والستينيات أخصب فترات التاريخ السياسي للمجتمع الكويتي باعتبار ما تمثله الكويت من امتداد للروح القومية العربية واستمرت تلك المرحلة حتى هزيمة العرب في حرب 1967م, بعدها جاءت مرحلة انهزم فيها التيار القومي, وفتح المجال أمام التيار الديني السياسي لينمو وينتشر ويصبح القوة الأساسية في الكويت في الثمانينيات والتسعينيات.

الاحتلال العراقي

عندما وقع الاحتلال العراقي على الكويت في أغسطس 1990, لجأ إلى تدمير المجتمع المدني, فاستهدف مؤسساته وحولها إلى معسكرات ومراكز للمخابرات, وألغى تماماً المجتمع المدني, كان يهدف بذلك إلى مساواة الوضع في الكويت بالوضع في العراق حيث لادور لأية مؤسسات أهلية رديفة كالمؤسسات الرسمية والحزبية الحكومية. ثم هناك أمر مهم, وهو أن الاحتلال قد أحدث تغيراً في القيم في هذا المجتمع الذي لم يألف العنف والتطرف قبل الاحتلال وآثاراً أخرى مستمرة حتى الآن وستستمر فترة زمنية طويلة.

ونخلص هنا إلى مناقشة عدد من القضايا يمكن طرحها للحوار:

أولاً: لقد تبلورت عدة اتجاهات مثلتها مؤسسات المجتمع المدني في الكويت خلال الفترة من الاستقلال إلى الاحتلال وهي: الاتجاه الحكومي الرسمي, ثم الاتجاه الليبرالي الوطني والقومي, ثم الاتجاه الديني السياسي.

ثانياً: إن دراسة ظاهرة المجتمع المدني في الكويت تثير تساؤلاً حول ما إذا كان تبني الدولة ودعمها لمؤسسات المجتمع المدني قد أضعف المجتمع المدني الذي يفترض أن يقوم على العمل الشعبي التطوعي الحزبي والنقابي وغيره, أم حدث عكس ذلك؟

ثالثاً: تثار هنا كذلك ظاهرة تأثير القبلية على المدينة في العقدين الأخيرين, فقد كانت المدينة المركز ومجال الاستقطاب للقبائل وقد حدث تغير في هذا الأمر, بعد أن أصبحت القبائل هي التي تؤثر على المدينة بسلوكها وممارساتها وبخاصة بعد تزاوج القبلية على التيار الديني السياسي وقد انعكست الظواهر القبلية على المدينة مثل الانتخابات الفرعية وظاهرة لبس النقاب.. إلخ.

رابعاً: وفي هذا السياق فإنه تم التركيز على التيار الديني السياسي وتأثيره على المجتمع المدني وتأكيده على الجانب المظهري في ممارسة الشعائر في الوقت الذي يهتم أساساً بالجانب السياسي واستغلال مؤسـسات المجتـمع المدني للكسب السياسي, إضافة إلى استغلال أموال المؤسسات الخيرية واللجوء إلى الإرهـاب الفكري أحياناً.

خامساً: أما بالنسبة للأحزاب والتجمعات السياسية والحركة الوطنية, ففي الوقت الذي نرى إيجابيات في عمل الحركة الوطنية تتمثل في خلق الوعي السياسي والمساهمة في التنمية وفي وجود الديمقراطية وتعزيزها فإن هناك سلبيات عاشتها, حيث كان طرحها يغلب عليه الرومانسية والعاطفية وطرح الأهداف الكبيرة, والاهتمام بمشكلات خارج المجتمع المحلي أكثر من الاهتمام بمشكلات المجتمع, غير المتعلقة بمشكلات المجتمع المحلي, وكانت الحركة الوطنية مشتتة وغير قادرة على العمل الجبهوي المنظم, كما كان يغلب على نشاطها العمل الموسمي السياسي.

إن هذا المقال أخيراً اعتمد على وجهة نظر الباحث في عدد من قضايا المجتمع المدني في الكويت غطت الفترة من الاستقلال إلى الاحتلال يطرحها للحوار خدمة للوطن وتعزيزاً للمجتمع المدني الديمقراطي.

 

عبدالمالك التميمي