ترسيخ الديمقراطية.. مهمة جديدة للفكر الإسلامي
ترسيخ الديمقراطية.. مهمة جديدة للفكر الإسلامي
يمتد الجدل حول طبيعة النظام السياسي في الإسلام ومقوماته إلى أكثر من قرن، إلا أنه أصبح في السنوات الأخيرة من أشد القضايا إلحاحاً وأهمية. فأنظمة الحكم العربية والإسلامية أخذت تشهد منذ العشرينيات وفي عدد كبير من الدول تغييرات مست أساليبها في إدارة الحياة العامة وجوانب من مؤسسات الدولة وتشريعاتها الأساسية. ولم تكن التغييرات نابعة من قناعة ذاتية وإيمان مبدئي بالديمقراطية والحرية، بقدر ما كانت استجابة ضرورية لضغوطات وتحولات دولية، وكذلك عملاً على احتواء الأزمات الداخلية التي لم يعد بالإمكان مواجهتها بالطرق التقليدية. غير أن هذه الحركية وتراجع فكرة ونمط الدولة الحامية تتزامن ولا تزال مع تطور وتنامي الحضور السياسي للحركات الإسلامية إلى درجة التهديد بقلب موازين القوى في أكثر من بلد، بل والنجاح في تفكيك الحكم سواء عن طريق الثورة الشعبية أو الانقلاب أو الثورة المسلحة. وهذا المعطى المهم بكل تعقيداته وتداعياته زاد في تغذية الصراع الفكري والأيديولوجي والسياسي حول مختلف القضايا والمسائل المرتبطة بالديمقراطية وتنظيم المجتمع ضمن دائرة الفكر الإسلامي. هذا الفكر الذي يشهد بدوره حركة دءوبة تحت ضغط الصراع والتجاذب، يلاحق الممارسة السياسية ويحاول توجيهها وتأطيرها وتأصيلها. ومن بين الأسئلة المنبثقة عن معاينة وتتبع الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة، يدور سؤال حول مدى تحقق المصالحة الفكرية بين الخطاب الإسلامي السائد وبين المنظومة الديمقراطية. يمكن القول إن الفكر الإسلامي المعاصر قد تزايد اهتمامه بقضايا تنظيم شئون الدولة والمشاركة السياسية في العشرين سنة الماضية أكثر من أي وقت مضى. وقد اتضح على إثر قيام دولة في إيران تستند إلى مرجعية إسلامية. لقد تضاعف الحديث منذ ذلك التاريخ عن ماهية "الدولة الإسلامية"؟ وهل هي ثيوقراطية أم مدنية؟ وهل هي قائمة على التعددية أم أحادية وشمولية؟ داعمة للحريات والحقوق الفردية والجماعية أم واضعة حدودا وضوابط لها؟ ما هي العلاقة بين السلطات الثلاث، وإلى أي حد تتسع صلاحيات الأمة في اختيار حكامها وممثليها؟. وبما أن الربع الأخير من هذا القرن قد شهد انتصاراً عريضا للديمقراطيات الليبرالية بعد أن فشلت الأنظمة الاشتراكية ومختلف تجارب الحكم القائمة على الحزب الواحد، وكذلك كشفت مختلف الصراعات التي دارت بين هذه الأنظمة وخصومها عن انتهاكات فظيعة للحقوق الأساسية للمواطنين، مما زاد في إضفاء قيمة عليا ومقدسة على الحريات، ودفع بالجميع إلى تأكيد مخاطر الاستبداد على الحرث والنسل والعمران والاستقرار. وبناء عليه أصبح النموذج الديمقراطي في الحكم مقياسا تعرض عليه شرعية الأنظمة وصلاح الأيديولوجيات. تعديلات وتنقيحات من هنا، تواصلت في السنوات الأخيرة تلك الجهود التي انطلقت منذ القرن الماضي لإدخال جملة من "التعديلات والتنقيحات" على الفكر السياسي الإسلامي حتى يتلاءم مع الحاجات الجديدة التي فرضتها المتغيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية. وفي هذا السياق عاد التأكيد على المسائل التالية: تقدم.. وتردد وتزامنت هذه التأكيدات مع انخراط عديد الحركات الإسلامية في تجارب تعددية وبرلمانية بشكل مباشر أو غير مباشر، مثلما حصل في مصر وتونس والجزائر والكويت واليمن والأردن وتركيا وباكستان. لكن مع الأهمية النسبية للتعديلات ذات المنحى الديمقراطي التي أدخلت على الخطاب السياسي الإسلامي، وكذلك الدلالة الرمزية لقبول عدد من الحركات مبدأ المشاركة في انتخابات تشريعية أو بلدية، وهي تجارب لم تخضع بعد للدراسة والتقييم، لا يزال الفكر السياسي الإسلامي في عمومه مترددا في حسم العديد من القضايا الأساسية سواء المتعلقة بطبيعة الدولة أو بجوانب من الحريات العامة والحقوق الأساسية. وهو ما جعل الخطاب نفسه يكتنفه الغموض ويتعرض للكثير من النقد والتساؤل. ومما زاد في إثارة الجدل حول مصداقية الخطاب، تلك التصريحات المتباينة التي أطلقها ولا يزال رموزه في شأن الموقف من الديمقراطية كنظام للحكم، وكذلك الكيفية التي أدار بها الإسلاميون الشئون العامة في كل من إيران والسودان وأخيرا أفغانستان. هنا التقييمات تختلف، لكن الواضح أن التجارب الثلاث تختلف في بنيتها وآلياتها عن النظم الديمقراطية، وتتعارض في بعض خياراتها مع المقاييس التي يتضمنها عديد من المواثيق الدولية في مادة حقوق الإنسان. قضايا تنتظر الحسم من القضايا الأساسية التي لا تزال معلقة، وإن تعددت المحاولات لتجاوزها نظريا وعمليا نضرب بعض الأمثلة. الفريق الثاني: اتجه نحو التخفيف من التعارض بين مصطلحي الشورى والديمقراطية.واعتبرهما يشتركان في العديد من المبادىء والأصول. لكن إذا كان البعض من هؤلاء قد أصبح يستعمل اللفظتين وكأنهما مترادفتان، هناك ضمن نفس الفريق من يقبل بالديمقراطية كمجموعة من الأشكال والصيغ التنظيمية والهيكلية مع ملئها وتسييجها بضوابط وثوابت الشريعة الإسلامية، فكان الحديث عن "الديمقراطية الإسلامية" وعن "الشورى ـ قراطية". إن استمرار النقاش حول المصطلحات يعود فيما يبدو إلى: أ ـ أن كل مصطلح ولد في بيئة تاريخية ومعرفية وسياسية مختلفة، وإن كان هذا القرن قد شهد اختلاطا وتداخلا بين الثقافات والخصوصيات فأضفى بذلك كثيرا من النسبية على الأفكار والمصطلحات. ب ـ لا يزال مصطلح الشورى لم يتحرر كليا من الإطار المعرفي الكلاسيكي برغم أن الشورى حتى في أبسط تعريفاتها لم تمارس في التاريخ السياسي الإسلامي إلا في حالات نادرة. وفي المقابل اكتسب مصطلح الديمقراطية دلالات واسعة أصبحت تشمل مختلف جوانب المجتمع والدولة. فهي ليست مجرد شكل وإنما أيضا مضمون ورؤية للفرد والقيم والعلاقات السياسية والاجتماعية. ج ـ نزوع الفكر الإسلامي إلى التوحيد بين العقائدي والسياسي، مما يجعل البعض يثير العديد من التحفظات والمخاوف عندما يراد إدخال جرعة من الليبرالية السياسية في المنظومة الإسلامية. سلطة مرجعية واحدة نضال متعدد الجبهات إن الأمثلة الثلاثة التي استعرضناها، كان الغرض منها إبراز حالة التردد التي تتسم بها مسيرة الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وكذلك إثارة بعض الجوانب النظرية التي لا مفر من اقتحامها والاستجابة لها نظرا لارتباطها العضوي والاستراتيجي بالحرية في مفهومها الحديث. والسؤال الذي نطرحه هنا هو كيف يمكن أن يساهم الفكر الإسلامي في انضاج الحركة الديمقراطية المتعثرة هنا، والمتقدمة هناك، والمكبوتة في عدد واسع من البلاد العربية والإسلامية؟ السؤال مفتوح ومطروح على الجميع، خاصة الذين ينتجون هذا الفكر ويتحركون ضمن فضاءاته. وللمساهمة في توسيع الرؤية وانضاج النقاش نلفت النـظر إلى الجوانب التالية: يبدأ التحول بإعادة الاعتبار للفرد كقيمة مستقلة نسبيا وذات شأن في التحول الاجتماعي والسياسي. ويتعزز التحول بترسيخ قيم التسامح والتعايش والإيمان بالآخر والحق في الاختلاف إلى درجة التباين في المعتقد والسلوك والمصالح والتنظيم والتصور السياسي والمجتمعي. وتتحقق استمرارية التحول باستناده على آليات ومؤسسات قوية وتنظيم جديد لفعاليات المجتمع المدني، وإعطاء الأجهزة الرقابية من برلمان وصحافة حركة وشبكة ممتدة للجمعيات المستقلة والعاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أو التنظيمات المهنية والنقابية والثقافية والاجتماعية، فقوة المجتمع المدني وفعاليته كفيلتان بفرض دولة القانون والمؤسسات. وهكذا يصبح النضال من أجل ديمقراطية فعلية وشاملة، هو نضالا أخلاقيا وثقافيا وسياسيا في نفس الوقت. هو جهد فردي وجماعي من أجل ثقافة جديدة تصهر الديني والاجتماعي والقانوني والسياسي والتراثي والفكر الوافد وحكمة الشعوب وتجاربها ضمن نسق تراعى فيه الخصوصية دون التنكر للقيم الكونية. وهذا هو الفضاء الكفيل بإنتاج فكر إسلامي ديمقراطي.
|
|