قراءة نقدية: سماء إسماعيل فهد إسماعيل

قراءة نقدية: سماء إسماعيل فهد إسماعيل

تغوص هذه الرواية الجديدة في أعماق شخصيات شهدت فاجعة الغزو العراقي للكويت وحملت هموم تلك الفترة وتأثرت بها.

في فضاء بلا حدود، ومفتوح أمام ذاكرة بعيدة، مثقلة بالأوجاع والأحزان، ينجز الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل رواية جديدة تحمل عنوان (سماء نائية) الصادرة اخيرا عن دار المدى بدمشق، بعد سلسلة من الدراسات النقدية، ومجموعة من الروايات منها على سبيل المثال (كانت السماء زرقاء)، (المستنقعات الضوئية)، (الشياح)، (الطيور والأصدقاء)، و(إحداثيات زمن العزلة) وغيرها من الأعمال الإبداعية التي جعلت من إسماعيل فهد إسماعيل واحداً من الأسماء البارزة في المشهد الثقافي العربي عموماً.

والرواية الجديدة (سماء نائية) هي شهادة على فجائع الغزو العراقي للكويت، فهذا الغزو قد حمل دلالات عديدة وقاسية، تخطت الجانب المادي المحسوس المتمثل في النهب والتدمير والحرائق والانفجارات، لتشكل عقدة معنوية ـ نفسية أحدثت شرخاً فـي تاريخ العلاقات العربية ـ العربية، وأدخلت شكاً في نفسية المواطن (الكويتي) الذي بدأ يعيد النظر في حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا فلم يجد سابقة كالتي حدثت بين الدولتين، كما أنه قيم من جديد ما تعنيه مقولة (علاقات حسن الجوار) الرائجة كثيراً في اللغة الإعلامية.

ومن هنا ندرك أن مهمة إسماعيل فهد إسماعيل ليست بالسهلة، إذ يجد نفسه إزاء قضية شائكة ومعقدة، فالكتابة حول هذه الموضوعات أشبه بمن يسير في (حقل ألغام) تحتاج من الكاتب الروية والتأني والهدوء، ولعله لم يعدم السبيل لإيجاد صيغة موضوعية دون انفعال تنأى به عن المواقع الخطرة وتضعه ـ في الآن ذاته ـ في بؤرة الحدث وتداعياته، فاستطاع وفق هذه الصيغة أن يميز ـ عبر شخصية (معلم المدرسة) بطل الرواية ـ بين الشعوب المغلوبة على أمرها والقيادات القمعية.

إن الحاضر الروائي في رواية (سماء نائية) لا يتجاوز يوماً واحداً، غير أن البطل يستعيد في هذا اليوم حيث يجلس ـ بصفته معلماً ـ في قاعة مدرسية بمفرده، نقل إليها تواً، ويعاني الألم والوحدة، يستعيد تفاصيل حياته فيرجع إلى ذاكرته النابضة بالحيوية أربعة عقود إلى الوراء عبر (مونولوج) داخلي، ليتذكر محطات بارزة في حياته مرت دون بهرجة أو ضجيج.

الإيجاز الروائي
ويتذكر مساررة أحد الضباط العراقيين له وإفشاءه سر حبه للكويت وما لهذه المساررة من مدلولات ـ ولو أنها جاءت مقتضبة ـ تشكل إحدى أهم مقولات الرواية، وتعطي دليلاً على قدرة إسماعيل فهد إسماعيل على الابتعاد عن الشعارات والتقريرية المباشرة، رغم أن موضوعه يستدعي في بعض الأحيان هاتين السمتين. واللافت للانتباه أن الروائي لم يركز كثيراً على هذه المقولة، وإنما جاءت ـ كما قلنا ـ باقتضاب، ربما لإيمانه بأن (خير الكلام ما قل ودل).

وتلقي الرواية ـ من جانب آخر ـ الضوء على تجربة مقاومة الكويتيين (للمحتل)، فكان الشقيق الأصغر للبطل أحد نماذجها، فنستعيد مع الأخير شخصية الشقيق الأصغر وغرامياته ومشاكساته وتمرده وكانت العلاقة بين الشقيقين ليست على ما يرام.

يعتمد إسماعيل فهد إسماعيل في سرده وحواراته على الجمل المقتضبة، الموجزة الموحية والمختصرة لا بل يترك أحياناً الجملة مفتوحة ليكملها القارئ في صورة أقرب إلى المساهمة في كتابة الرواية.. فجاءت عباراته كالومضة الخاطفة تختفي حيناً ولكنها سرعان ما تظهر من جديد أكثر التماعاً وإشراقاً، فأتاحت له اللعب على الزمن متنقلاً من زمن إلى آخر على مدى صفحات الرواية وكأنه يقلب (ألبوم) صور فوتوغرافية كل صورة فيه تدل على زمن مختلف.

بيد أن الزمن الأشد وطأة هو تلك اللحظات التي يعيشها البطل راهناً، في عزلته في قاعة المدرسة، وهو يعاني وجعا ممضا ومزمنا نتيجة (ديسك عصبي) وهو مرض نفسي أكثر منه عضويا، أصابه إثر حياة روتينية مملة عاشها، وتفاقمت معاناته بعد أن شهد مظاهر الغزو العراقي للكويت وفجائعه وخيباته وفقده لأمه وأبيه وأخيه، وها هو يستعيدها كشريط سينمائي حافل بالموت المفاجئ، قاحل بالفرح والضحكات.

عبور الزمن
ويستخدم إسماعيل فهد إسماعيل ضمير المخاطب، في تدوين كل ذلك، فنرى بطل الرواية وكأنه يتحدث مع نفسه، وبذلك يعمق من إحساس القارئ تجاه وحدة البطل وعزلته.

إن رواية (سماء نائية) ـ وبهذا المعنى ـ ليست نصاً تقليدياً يبدأ بالمقدمة فالمتن فالخاتمة، وإنما تعتمد فنية الرواية على ما يمكن تسميته بالخطف خلفاً، عبر ذاكرة المعلم التي تختزن الكثير من الوقائع والأحداث والمواقف والحالات والتي تنتقل من زمن إلى آخر حيث استطاع إسماعيل فهد إسماعيل أن يمسك بخيوط الزمن، وأن ينتقل بسلاسة من حدث إلى آخر دون ارتباك، فأعطى صورة واضحة للإنسان الكويتي الذي لايزال يعاني آثار ما تعرض له، رغم مرور عقد من الزمن، ولئن اختار الروائي (معلم مدرسة) بطلاً لروايته فإنما جاء هذا الاختيار لمعرفته أن المعلم قريب إلى الحياة بقدر بعده عن صياغة القرار السياسي بما لا يمكنه من التأثير كثيرا في مجريات الأحداث، وهو ما أتاح له من زاوية أخرى الكتابة بموضوعية دونما تصنع أو اختلاق.

كما أن المعلم الذي يعلم الجيل الناشئ ويربيه على القيم والأخلاق والمبادئ السامية، كيف سيكون قادراً ـ وهو المهزوم داخلياً ـ على القيام بأداء هذه الرسالة؟

إن هذا التساؤل يوضح من جديد أن الخسارة المعنوية والنفسية التي أصابت شعب الكويت فاقت كثيراً الخسارات الأخرى وها هو المعلم ـ الذي لا اسم له في الرواية ـ شاهد على ما نقول.

 

إبراهيم حاج عبدي

 
 




إسماعيل فهد إسماعيل





غلاف الرواية