سؤال المستقبل و.. مستقبل الثقافة

سؤال المستقبل و.. مستقبل الثقافة

أحسب أن تأمل سؤال المستقبلة في الثقافة هو أول ما ينبغي البدء به قبل أي تأمل فعلي لمستقبل الثقافة، ذلك لأن ما يمكن.. أن تصل إليه الثقافة في المستقبل متوقف بالضرورة على وعيها بقضية المستقبل ذاتها من حيث هي وعي بإمكانات الحضور الفاعل. ولذلك فإن الفارق حاسم بين تأمل سؤال المستقبل في الثقافة وتأمل الثقافة من منظور المستقبل. التأمل الأول هو الابتداء المنطقي والشرط الاستهلالي الذي تتحدد بنتائجه آفاق التأمل الثاني، ومن ثم قدرته على استكشاف الإمكانات الإيجابية والسلبية لإنجازات الثقافة في مستقبلها. ويعني ذلك أن حضور سؤال المستقبل نفسه أو عدم حضوره علامة تكشف في ذاتها عن مكونات الثقافة في أبعادها العلائقية، وتشير إلى المطامح والهواجس التي تشد هذه الثقافة إلى المستقبل الواعد أو تبعدها عنه.

وبرغم أنه من الضروري أن نحترس في التعامل مع الثقافات، ولا نتعامل مع أية ثقافة بوصفها كتلة مصمتة خالية من التنوع أو التباين أو الصراع، فالثقافة كالواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي تجسده بالقدر الذي يصوغها" كيان لا ينطوي على التجانس، ويعكس بقدر ما يوازي أو يجسد الحركة غير المتجانسة لعناصر الواقع الفاعلة والمنفعلة في زمنها التاريخي الذي يمكن أن يكون زمنا للتحول والتغير أو زمنا للثبات والجمود. وسواء كانت الثقافة منتسبة إلى هذا الزمن أو ذاك فإن نسيجها العلائقي يظل منطويا على عناصر متباينة، تؤكد التنوع الذي يدل على اختلاف الاتجاهات، ولكن الكيان غير المتجانس للثقافة لا يمنع من الحديث عن توجهها العام، أو الإشارة إلى الصفات الاجمالية لمنظورها الكلي في رؤيتها للعالم، وذلك من حيث علاقة العناصر التكوينية بعنصر مهيمن من عناصرها، عنصر يكتسب قدرة خاصة حاسمة على ان يفرض سماته، وملامحه، ويدفع ببقية العناصر في هذا الاتجاه أو ذاك نتيجة عوامل تاريخية متعينة، تستجيب إليها الثقافة على مستوى الحضور العلائقي للعناصر التكوينية.

حيوية التحول

هكذا نتحدث عن الصفة المميزة لهذه الثقافة او تلك من الثقافات الإنسانية، فنقرن ثقافة بالتغير مقابل غيرها الذي نقرنه بالثبات، ونصل الصفة العامة للتغير بشروط تاريخية متعينة، تستجيب إليها الثقافة بحيوية التحول وثراء التنوع ورغبة الابتداع. في موازاة مرونة التقبل وتسامح الحوار وتوتر السؤال. وفي الوقت نفسه، نصل الصفة العامة للثبات بشروط تاريخية مناقضة، تستجيب إليها الثقافة بهيمنة الصوت الواحد وخنوع الاتباع، في موازاة التعصب وقمع المغايرة. وبقدر ما يمكن أن تتحقق الثنائية المتعارضة بين الثقافات على المستوى الأفقي للمعاصرة في علاقات الامم المتقدمة والمتخلفة. في هذا الزمن التاريخي أو ذاك، فانها تتحقق على المستوى الرأسى للتعاقب التاريخي في الثقافة الواحدة، وذلك حين تتقلب هذه الثقافة بين أحوال الثبات والتغير بفعل عوامل تاريخية متغيرة، وذلك على نحو كشف عنه بجلاء علي أحمد سعيد "أدونيس" في قراءته الرائدة لجدل "الثابت والمتحول" أو "الاتباع والإبداع" في تاريخ الثقافة العربية. وهي قراءة تظل ملهمة لقراءات أخرى غيرها، خصوصا في تأكيدها الطابع الجدلي الآني للعلاقة بين عناصر الثبات وعناصرها التحول للثقافة في كل لحظة من لحظات تعاقبها، وذلك بالمعنى الذي يكشف عن حضور نقيض العنصر الغالب في كل لحظة من لحظات هيمنته، ويرد الصفات العامة للمرحلة على العنصر التكويني المهيمن الذي يؤدي إلى غلبة علاقات الثبات أو علاقات التحول.

الحاضر من منظور المستقبل

وعندما نتأمل سؤال المستقبل في الثقافة، من منظور هذه العلاقات، فان حضور السؤال نفسه أو غيابه يغدو لا تنطوي دلالته على الشروط الفاعلة في علاقات انتاج الثقافة وعمليات استقبالها، وذلك من الزاوية التي تبين عن شيوع مفاهيم بعينها عن الزمن والتاريخ من ناحية، وعن الإنسان وقدرته الفاعلة أو غير الفاعلة هي الوجود من ناحية ثانية. وهناك فارق بين الثقافة التي تشغل بمعاني التقدم والتطور، غير منفصلة عن القدرة الخلافة للفعل الإنساني المتحرر في الوجود، وتؤسس لاشاعة هذه المعاني في علاقات استشراف المستقبل الواعد بوصفها المعاني المهيمنة على غيرها من المعاني اللازمة او الموازية أو حتى المعارضة، والثقافة التي تشتغل بمعاني الاحياء والتناسخ والمحاكاة والتقليد، غير المنفصلة عن معاني الجبر التي تجمع ما بين الأزمان المقدورة والإنسان المحروم من الحضور الفاعل في الوجود.

الأولى هي الثقافة التي تصنع حاضرها من منظور مستقبلها، ولا تفهم هذا الحاضر إلا بوصفه حركة مستمرة من التحول الخلاق الذي لا يكف عن صعود سلم التطور الذي لا نهاية له، فلا تنشغل هذه الثقافة من ماضيها إلا بما يدفع إلى مستقبلها، وتقيس كل ما في حاضرها بإسهامه في حركة التحول صوب المستقبل الذي لاحد لوعوده، ولا ترى في المستقبل نفسه سوى إمكانات من الإبداع الذاتي الذي لا ينسخ غيره، لأنه يؤسس زمنه الطالع بالانقطاع الذي يستبدل بالمشابهة المغايرة وبالاتباع الابتداع، والثانية هي الثقافة التي تتصور مستقبلها بوصفه استعادة لعصر ذهبي، كما لو كان غدها إحياء لأمسها الذاهب أو صورة متأولة من صوره المتخيلة، فهي ثقافة تنبني على فهم دائري للزمن، يتكرر على نحو تتحول به حركة التاريخ إلى ما يشبه حركة دولاب لا يتوقف عن الدوران حوله محور ثابت، يغدو معه المستقبل ماضيا، والماضي مستقبلا بالقدر نفسه. ولا جديد على سبيل الحقيقة مع هذه الحركة، فكل شيء فيها يكرر نفسه كما يتكرر بها في الزمن الدائري الذي يتشابه فيه الأول والأخير، في فعل الحركة الأزلية التي يغدو بها التاريخ الإنساني الوجه الآخر من التاريخ الطبيعي في تقلبه المتكرر ما بين الصعود والهبوط.

والعلاقة بين الثقافة الثانية وإلغاء الفاعلية عن الإنسان في التاريخ علاقة عضوية. وسواء كنا نتحدث عن مفاهيم الزمن الدائري أو الزمن المنحدر في مثل هذه الثقافة فالنتيجة واحدة هي حركة الدائرة التي لا تعني سوى الجبر الذي ينتقل من العلة إلى المعلول الذي يلزم علته كما تلزمه وجودا وعدما، فالزمن المقدور يسقط نفسه في كل أحواله على الإنسان الذي تنحدر حركته، جبرا، على مستوى السلب في التاريخ المتعاقب. وإذا كانت كل دورة للزمن لا تفارق جبرية تكرارها، في المعنى المقدور للوجود، فإن جبرية الكائن الدائر معها صورة أخرى من الجبرية نفسها، وذلك على نحو يغدو معه كل تباعد عن النقطة التي يمثلها الأصل الأول استمرارا في الانحدار المقدور على الكون والكائن في آن. ويعني ذلك أن سؤال المستقبل في هذا النوع من الثقافة ليس سوى سؤال الماضي الذي يغدو به المستقبل فعلا من أفعال الاستعادة أو البحث أو المحاكاة أو التقليد أو الاتباع، فحضور سؤال المستقبل في مثل هذه الثقافة حضور كالغياب، لانه حضور منفي، مقموع، مجبور، محكوم عليه بتكرار نقيضه الذي ينفي عنه الفاعلية والمعنى الخلاق للحضور. ونقيض هذه الثقافة هو الثقافة التي تعرف معنى العهد الآتي الذي يغري بالمضي وراء المزيد من الوعود التي تغوي إلى ما لا نهاية، وذلك في سياق صاعد من الزمن الذي لا يعرف الهبوط في مجمل حركته بل الإضافة الكمية التي تتحول إلى مغايرة كيفية، والتراكم الذي ينقل المعرفة من وضع أدنى إلى وضع أعلى في سلم التقدم الذي لا نهاية له. ويعني ذلك إلغاء أدلوجة العلم المتناقض كالزمن المنحدر واستبدال نقيضها بها، على نحو يؤكد معنى المعرفة المتزايدة بالزمن الصاعد نحو كماله الذي لا حد له، وفي الوقت نفسه، تأكيد مفهوم الإنسان الفاعل في التاريخ وبالتاريخ، على نحو يصل بين مفهومي الزمن والإنسان في تبادل الفاعلية، وفي تبادل صفة التقدم التي لا تنفصل عن صفة تتميم النوع الإنساني الذي يبدأ فيه اللاحق من حيث انتهى، ولا يكتمل للاحق معنى إنجازه إلا بمغايرته التي تميزه عن السابق.

أصناف الوعي

وعندئذ، لا بد أن نميز بين نمطين من الوعي الثقافي العام، ينتج كل منهما عن نوع الثقافة الغالبة بالقدر الذي يسهم في إعادة إنتاجها وإشاعتها وترسيخها. الأول وعي ماضوي تقليدي، والثاني وعي مستقبلي استشرافي. الأول وعي أصولي، نقلي، استرجاعي، يحاول أن يشد الحياة إلى الوراء، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن الواقع وليس عنصرا تكوينيا من عناصره الحيوية. وذلك وعي يتمثل في نزعات جامدة تقاوم التطور على المستوى الفردي والجمعي، وترفض التقدم، وتحول دون النظر النقدي إلى عناصر الماضي التي يمكن أن تتحول إلى عناصر للمستقبل، وما يؤدي إليه انتشار هذه النزعات هو تغليب سؤال الماضي على سؤال المستقبل، وتهديد محاولات البحث عن وعود المستقبل. وفي الوقت نفسه، حصر حركة الفكر الفردي والجمعي في اتجاه فعل الاستعادة الذي لا يعرف سوى الحركة. إلى الوراء والمظهر العملي لهذا الوعي هو النفور من الرؤى التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، أو تضع المستقبل نفسه موضع المساءلة، وذلك مقابل الاحتفاء بالوفرة الوافرة من الممارسات المهووسة بسؤال الماضي، أو تقليد بعض، عصوره التي تتحول إلى ما يشبه المركز المطلق للحضور أو الأصل المحتذى للاتباع. والنتيجة هي قياس كل شيء علي الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغير في ريبة، وإلى التجدد بعين الاتهام، ومن ثم عدم التمييز بين عصور الماضي نفسها، وعدم الوعي بالاختلاف الجذري بين الماضي الذي يصلح أساسا للانطلاق صوب المستقبل، والماضي الذي انتهى عهده ولم يعد صالحاً لا للحاضر أو المستقبل.

وأداة هذا الوعي الماضوي في المعرفة هي النقل الذي يعني إلغاء العقل، والركون إلى التصديق الذي يشيع منطق الرضا بما هو كائن، والنفور من توتر السؤال الذي يضع الأفكار الإنسانية والمسلمات الاجتماعية موضع المساءلة. وعلامته المائزة هي أدلجة معرفة المستقبل. بما يجعل منها عودا على بدء، أو نفياً لمعاني الابتكار أو التطور والتقدم. فما يمكن أن نعرفة في المستقبل ليس سوى تكرار لما سبق أن عرفه غيرنا في الماضي، وكما يترتب على هذا النوع من الوعي غلبة مفردات الماضي في ملفوظات الخطاب الاجتماعي وممارساته، وهيمنة هذه الملفوظات بما يستبعد نقائضها ويقصيها عن المجالات التداولية للغة الثقافة، فإن دهشة هذا الوعي المقترنة بعجزه عن مواجهة كوارث الواقع أو متغيراته الداخلية والخارجية هي النتيجة الحتمية لما ينتجه هذا الوعي من خطاب معرفي وحيد الاتجاه، لا يتداول إلا ما ينفي قدرات التنبؤ والتوقع والاستشراف والاستباق والتشوف، فيستأصل إمكانات التفكير الفعلي في احتمالات المستقبل الآتي بما يحقق النذير أو الوعد الكامنين في شروط الحاضر المتحول. أما الوعي المستقبلي فهو نقيض الوعي السابق على المستوى الفردي والجمعي، لأنه وعي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل الواعد، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة، ولذلك فهو وعي محدث بالضرورة، وبدعته بدعة هدى وليست بدعة ضلالة، وتجريبيته هي الوجه الآخر من نسبية اجتهاده، فهو وعي لا يعرف الحلول الجاهزة أو الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية التي تشل الحركة، أو الدوائر المغلقة للفكر. وسؤال المستقبل في هذا الوعي علامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من أفق التقدم إلى آفاق أخرى أكثر تقدما.

أدوات الوعي

وأداة هذا الوعي في المعرفة هي العقل الذي يدرك أهمية العلم في التقدم الإنساني، ويشيع رغبة الكشف التي تظل مرهفة كالسؤال، ومعنى النسبية التي تظل مرفوعة كالشعار، أما العلامة المائزة لخطابه فهي بروز ملفوظات المستقبل في المجالات التداولية للغة الثقافة، وهيمنة هذه الملفوظات بما يدفع إلى الصدارة دوال التوقع والاستباق والاستشراف والتشوف، ومن ثم تأكيد الفعل المتصل أو المستمر لصياغة وإعادة صياغة سيناريوهات الأحداث المحتملة والنتائج الممكنة في المستقبل، وذلك على نحو ينفي عن الوعي صفة الدهشة العاجزة والمراقبة السلبية والرضا الخانع بالمقدور الذي لا يتوقعه. والفارق بين الثقافة المنفتحة والثقافة المنغلقة هو فارق بين ممكنات الوعي الأول والثاني في علاقتهما بمعاني التقدم والتخلف في الثقافة، أعني أن الثقافة المتقدمة هي ثقافة الوعى الذي لا يفصل بين الانشغال بأسئلة المستقبل والاعتراف بحق الاختلاف والتسامح بوصفهما المظهر العملي للتنوع الذي تغتني به الثقافة. ومن هذا المنظور، فإن تقبل "الآخر" هو اللازمة المنطقية لاستيعاب "المغايرة" بوصفها عنصرا فاعلا في المبدأ الحواري الذي يصل بين مكونات الثقافة المنفتحة، فتقبل "المغاير" على مستوى الحضور الداخلي هو الأصل في تقبل "الآخر" على مستوى الحضور الخارجي في الأفق الحواري الذي لا تنغلق به الثقافة على نفسها. وقد تعلمنا من التاريخ أن الثقافات المنشغلة بسؤال المستقبل والمشتغلة به هي الثقافات المتطلعة إلى التحول، المنفتحة على المغايرة، المتقبلة للاختلاف، المتفاعلة مع الآخر، وأنه بالقدر الذي تعي به الثقافة المنفتحة سؤال المستقبل، من حيث هو عنصر حضور فاعل في تكوينها، تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي، وبقدر غياب سؤال المستقبل عن الثقافة، وانشغالها عنه بنقائضه، تتصاعد درجة الاتباع في هذه الثقافة، وتتقوقع في مدار مغلق، يحول بينها والتطلع إلى ممكنات الغد الآتي بكل الوان الوعد. ولذلك فإن تخلف الثقافة هو الوجه الآخر لانغلاق وعيها الذي يستبدل بحق الاختلاف صرامة الاجتماع، وبالمغايرة حتمية المشابهة، وبالتسامح التعصب، وبسؤال المستقبل أسئلة الماضي الذي يتطلع إلى صورته في كل غد ممكن.

 

 

جابر عصفور