القصة الفائزة بالمركز الأول.. أولاد العنزة

القصة الفائزة بالمركز الأول.. أولاد العنزة

(1)

كنا نناديها عمتي!..

وكنت أدرك أنها ليست "عمة" بالمعنى المألوف، لا للاختلافات الكثيرة التي كنت ألحظها، بل لأن معرفتي كانت يقينية، فجدي لم ينجب الصبيان.. وهؤلاء، قبل أن يكبروا، هاجروا إلى تشيلي، ما عدا أبي.

أبي كان يعتقد أن الهجرة شكل من أشكال الموت.. وحين تصله رسائل من إخوته، كان ينظر إليها كرسائل آتية من مقبرة.. ويفضها بكثير من الرهبة، وإذ يقرؤها بخوف، تتلبس وجهه صفرة الآس.. فإذا ما أعاد القراءة جهاراً على جدتي، قرأها بصوت مرتعش، ونبرة ذات صدى نحاسي ليست في صوته أصلاً.

(2)

دخلت عمتي، وعرجت على الغرفة التي فيها أمي..

كان بابنا، ككل الأبواب، يظل مشرعاً على مدار الصحو.. واندفعت أنا إلى الركن الذي تمسكت به جدتي في السنوات الخمس الأخيرة لوجودها على الأرض.. وصرخت، ربما بفرح:

ـ ستي.. ستي.. جاءت أم محمود..

ـ أي أم محمود يا ولد؟..

ـ أم محمود.. جارتنا..

مدت جدتي يدها إلى عبها، كأنما لتخرج سكرة منه، وأشارت لي كي أدنو منها، وهي تبتسم.

اقتربت، لا طمعا بالسكرة، بل بجاذبية الأريحية المفاجئة عند الجدة.. وبدا أنها تريدني أكثر قرباً كيما تستطيع امتصاص وجنتي، فيما يسمى قبلة.. لكنها التقطت أذني، ولوتها إلى أن دمعت عيناي:

ـ هذه عمتك يا ولد.. وليست جارتنا..

وظلت أذني في يد العجوز إلى أن جاءت عمتي وحررتني منها.

(3)

كانت عمتي تشبهنا.. نحيلة وطويلة، وأكثر ميلاً إلى السواد، منها إلى السمرة، ككل نساء عائلتنا.. وحين أرسل عمي "رشوان" صورة لابنته بمناسبة زواجها، بدت ابنة عمي روز وكأنها نسخة أمريكية محسنة في الثياب وتصفيفة الشعر عن عمتي أم محمود.. حتى إن أمي صاحت وهي تدفع الصورة إلى يد أم محمود:

ـ بحظّي.. بأولادي.. هذه البنت تشبهك..

وحين وصلت الصورة بين يدي، كآخر واحد سمح له برؤيتها، لم أصدق شيئا مما قالته أمي.. ومع ذلك حاولت حمل تقاطيع وجه ابنة عمي، وتطلعت إلى وجه عمتي الذي شدخته الشمس، فوجدتها تبكي!.

(4)

ومع ذلك.. فعمتي أم محمود ليست عمتي.. وشدة الأذن المؤلمة، والتي سأعتقد طوال حياتي أن لي أذناً أطول من الأخرى، جعلتني ألتزم بالتسمية المفروضة.

ولا يتبادر إلى ذهن أحد أني لم أكن أحب عمتي المفترضة، بدليل حين كنت أمرض، وأرفض شرب الدواء المر، والمصنع من أعشاب برية لها أسماء منفرة، كانوا ينادون عمتي أم محمود لتسقيني إياه، فأشربه من يدها دون اعتراض.

إنما كان ثمة لغز يجب حله..

ولكم أن تخمنوا أقرب الحلول إلى الواقع، وهو أن عمتي أم محمود.. هي عمة بالرضاعة!.. وهذه الفكرة لم تخطر على بالي أبداً، إذ لم أكن أعرف أن هناك أخوة بالرضاعة.

(5)

أرسلتني أمي إلى بيت أم الوفا، آخر بيت في القرية.. وأم الوفا كنت أناديها، رغم المسافات بين بيتنا وبيتها: خالتي.. وهي ليست خالتي طبعاً.. ومهمتي أن أستعير منها ميزان الحرارة.

وكنت أخاف من أم الوفا.. وفي الوقت ذاته أنجذب إليها.. فذات يوم حين بدأت أمي بالصراخ نتيجة ألم في بطنها، أرسلوني كي أستدعيها.. فركضت بأقصى ما عندي من طاقة للركض كي أنادي أم الوفا، لكنها بدلاً من أن تركض خلفي لنعود معاً إلى أمي الموجوعة، مدت أصابعها الناحلة السوداء وتابعت مداعبة الهر عنبر، وقد استكان الهر للمداعبة، ولبقعة الشمس التي كأنما أتاحتها الغيوم خصيصاً له.. وقد خمنت أن أم الوفا كانت غير قادرة على الحضور إلا بعد أفول الشمس كي لا تغضب هرها المدلل.. وإلا ما الذي يؤخرها عن الحضور رغم صراخ أمي الذي لابد قد وصل إليها؟

وبدا أبي وكأنه غير مكترث بأمر أوجاع أمي، لأنه حمل مجرفته ومضى، واكتفي بأن يقول لجدتي: دورنا بالسقاية.

وأما أنا فقد طردتني أم الوفا من الغرفة التي كانت تتوجع فيها أمي.. فخرجت لألعب مع أولاد عمتي أم محمود لعبة الطميمة، هذه اللعبة المتلازمة مع الساعة الممتدة ما بين الغروب والليل.

حين عدت، كانت أمي تحمل شيئا يشبه هر أم الوفا.. ولكن دون شعر.

وكان هذا الشيء الملفوف بأقمطة بيضاء يصرخ.. وقالوا لي إن أم الوفا صنعته من أجل أن يتوجع بدل أمي.. وأم الوفا هي التي صنعتني قبل سنوات بالطريقة ذاتها.

أخافها.. وأنجذب إليها.. فما دامت قادرة على صنع الأطفال، فهي قادرة على مسخهم إلى ضفادع.. ولابد أنها تحبني، وإلا لما مسدت لي شعري، ولما أبقتني طفلاً يحكي بدل أن أكون ضفدعاً.

(6)

أرسلتني أمي إلى بيت أم الوفا..

وهذه المرة من أجل استعارة ميزان الحرارة.

وأخي الذي صنعته أم الوفا.. وأصبح طفلاً يتقن الترنيم بحرفي الكاف والغين.. وقول كغي.. كغي. ويبتسم لي.. ارتفعت حرارته.

وفيما كانت أم الوفا ترمي لهرها المدلل عنبر مكورات لابد إنها كانت شهية بالنسبة للهر، بدليل أنه كان يلتقطها قبل أن تصل إلى الأرض.. سألتني:

ـ كيف حال عمتك؟..

وببلاهة، سألتها:

ـ أية عمة؟..

ـ هيء.. هيء.. كم عمة لك يا ولد؟

ـ ولا عمة!..

ـ وأم محمود أليست عمتك يا ولد؟..

ـ ليست عمتي.. جدي لم ينجب إلا الصبيان..

ـ أم محمود عمتك.. أبوك وهي أولاد العنزة!.

(7)

قرصتني كلمة العنزة!..

وعدت أحمل ميزان الحرارة مخبأ في أنبوبته الكرتونية.. أسرع تارة، وتارة أتمهل.. وأقف لأتأمل جدارا طينيا مبيضا بالحوّارة.. كأنما لأقرأ فوقه أجوبة لأسئلة.

وماذا لو امتلأ الحائط بالكلمات، وعجزت عن قراءتها؟

كل مرة يشير لي المعلم وهو يلوح بعصاه المصنوعة من الرمان: اقرأ.. فأقرأ.. وينفض الغبار عن حذائه بعصا الرمان ويسألني: من يعلمك القراءة في البيت؟

ـ ستي

يضرب أسفل حذائه بعصا الرمان ويهزأ: ستك؟!!.. أم خليل؟!!.

ـ نعم ستي..

ـ ستك لا تفرق بين الألف والعصا..

وجدتي كانت تفرق بين الألف والعصا.. وكانت تقول عن جدي إنه بلغ الستين وظل ظهره مستقيما مثل الألف.. هذا دليل.. كان نحيلاً وطويلاً.. ولم ينحن حتى أنهم حين وضعوه في النعش اضطروا لثني ركبتيه نحو الأعلى، فظل الغطاء الخشبي مرفوعا على شكل مائل، فاضطروا لحزمه بحبل خشية أن يسقط.

وحين كنت أركض في باحة المدرسة هرباً من "اللاقوط"، وجدت نفسي أقف ملاصقا للمعلم عبده، وكنت سأتابع الركض لولا أن عصاه الخيزران لا مست كتفي.. وهذا معناه أني صرت أسير العصا.

ـ قل لي كيف تعلمك جدتك القراءة وهي لا تعرف من الحروف إلا الألف.

ـ أنا أقرأ وهي تهز رأسها نحو الأسفل.. وحين أغلط تبقي ذقنها متدلية نحو صدرها حتى أصحح.

عندئذ سحب المعلم عصاه وراح يضرب كفه بها.. وربما بدا مغيظا له أن جدتي تتقن تعليم القراءة أكثر منه.

كان الميزان في جيبي.. وكان صعباً أن أمر بمزراب المنهل المتدفق دون إحساس بالعطش.

شربت من الماء الثلجي.. ووضعت رأسي تحت المزراب.. انسال الماء تحت ثيابي.. أخرجت الميزان من أنبوبته الكرتونية.. "إذا كان الميزان يقيس الحرارة، فلابد أنه يقيس البرودة".. فكرت، ووضعته تحت ماء المزراب.. تجلدت يدي، وظل مؤشر الميزان على حاله.

أعطيت الميزان لأمي، ونقلت لها سلام أم الوفا.. ووصيتها بأن تعيد الميزان بأسرع ما يمكن لأنه موضوع للحسنة.. ثم دخلت على جدتي هادئاً ومتزناً كأي ولد مهذب.. وحاولت أن ألتمس يدها لأقبلها، فتمنعت، شارحة لي نظريتها الفلسفية القديمة في أن تقبيل الأيادي، ضحك على الذقون.. فأسبلت رأسي، وبدوت حزيناً، أو مغرقاً في احترام العزلة التي فرضتها الأيام على الجدة.. لكن الموقف لم ينطل عليها.. إذ سألتني بصوت عميق ومؤثر: ماذا سرقت يا ولد؟

ـ لم أسرق شيئاً..

ـ هات.. شممني يدك..

أعطيتها يدي، فتظاهرت أنها تشمها، ثم اكتشفت، لا من رائحة يدي، بل لأنها لم تجد ما تتهمني به، أني لم أسرق شيئا.

بعد لحظات من التأمل والأفكار المختلفة بيننا.. سألتها، مستعيرا صوتها حين اتهمتني بالسرقة:

ـ ستي.. ما حكاية أولاد العنزة؟..

ـ من قال لك يا ولد؟!.

ـ أم الوفا.. أم الوفا قالت إن أولادك وأم محـ .. أقصد عمتي أم محمود إخوة لأنهم أولاد العنزة..

بدت جدتي متوترة من الداخل.. وحاولت إخفاء توترها بابتسامة لا معنى لها.. ثم كررت، كأنما لنفسها:

ـ أولاد العنزة.. أولاد العنزة.. كلنا نحن، بني آدم، أولاد عنزة.. هابيل، حين قدم قربانه للرب قدم له عنزة.. ومع ذلك قبلها الرب.

نطحتني فكرة أن هابيل قدم عنزة للرب.. وبدا أن قرنين يرفسان في بطني، منعاني من السكوت طويلاً.

ـ أبونا باسيليوس يقول إن هابيل قدم عجلاً.. حتى العجلة ما كان ليقبلها الرب.. وتقولين عنزة!.

ـ هل كان أبونا باسيليوس موجوداً مع هابيل؟..

ولم أستطع أن أجزم آنذاك إن كان موجوداً أم لا.. ولحية أبونا باسيليوس البيضاء الطويلة ليست دليلاً.. لكني ندمت على اعتراضي ذاك، وأحسست أن الجدة جرتني إليه كما تبتعد عن حكاية أولاد العنزة.

والآن أصبح من الصعب علي العودة إلى السؤال.. ولعلي ركنته جانباً في غمرة فسحات الصيف.. لكني لم أنسه.

(8)

عدت إلى المدرسة.. مع أن الصيف لم ينته.. وخلافاً للعادة لم أتشاجر مع ابن عمتي محمود.. لقد حدث شيء غريب.. في السنة الماضية، وحتى قبلها، كنت أجلس وإياه على مقعد واحد في الصف، هو المقعد الأمامي.. وهذه السنة جاء المعلم عبده، فتركني في المقعد الأمامي، ووضع محمود على مقعد في آخر الصف.. ثم اكتشفت كأنما فجأة أن محمود صار يفوقني طولاً.. لقد خرجنا بطولين متساويين إلى عطلة الصيف.. ولم أكن أعرف سر هذه الزيادة في طوله يوم عدنا إلى المدرسة.. ولابد أن ذلك حصل حين خطا بقدمه فوق العتبة الحجرية التي لباب المدرسة.. وقد كنت متأكداً أنه كان يلبس بنطالاً بطول مناسب له في الصباح.. وها أنا، حين كان المعلم عبده يرتب أماكن جلوسنا في الحصة الأولى، أرى بنطال محمود غير مناسب لطوله.. وهذا ما دعاني لأن أفكر قلقاً حتى نهاية اليوم المدرسي.. إذ كنت أخاف أن محمود لن ينزل إلى لعبة "المستراح" في الحارة بهذا البنطال المتقلص.

وحين كنا نمشي باتجاه البيت سألته:

ـ محمود.. هل ستأتي للعب؟..

ـ سآتي.. لكن أنت يبدو أنك ستكون مشغولاً بالطرد الذي أرسله عمك من تشيلي.

ولم أكن مهتماً بالطرود المرسلة من التشيلي.. رميت حقيبتي على عجل في زاوية الغرفة وركضت وحين كنت أهم بتخطي عتبة الغرفة كانت أصابع أمي تمسك لي معصمي.

جرتني إلى غرفة الجدة.. وكان أمام الجدة كومة من الملابس التي يغلب عليها الطابع النسائي.. وكانت عمتي أم محمود مقعية خلف جدتي.

مدت الجدة عكازها وتناولت كنزة صوفية من الكومة، ثم رفعتها نحوي.. وكادت تلصقها بوجهي:

ـ خذ هذه لك.. تدفئك أيام الثلج.

كانت الكنزة سوداء تتخللها خيوط صفراء ونهدية، لها أشكال جهنمية عجيبة.

ولعلها العدوى ذاتها انتقلت من أبي إليّ.. أبي الذي كان يرى في الرسائل أوراقا آتية من المقبرة.. رأيت في كومة الثياب، وفي الكنزة ذات الألوان العجيبة، شكلاً قادماً من العالم الآخر.

وانفلت خارج الغرفة إلى ساحة اللعب.

(9)

نسيت على مدى دفء الصيف والخريف حكاية أولاد العنزة.. وحين هطلت أولى ثليجات الشتاء، ركضت إلى جدتي، أتأمل نار موقدها، وأحاول أن أبدو ولداً عاقلاً يستحق ثلاث حبات من الجوز.

أخرجت الجدة صحنا معدنيا مليئا بالدبس قاتم اللون، وجعلته بيني وبينها.

ـ الحس.. فهذا يدفئك.

ـ لا أشعر بالبرد.

لكنها دفعت بأصابع نحيلة الصحن نحوي.. وبدت غير مهتمة بإغرائي..ولكي أغيظها غرست أصبعي عميقاً، وجعلت فمي فوق الصحن، ورحت ألحس بنهم هو أقرب إلى تعذيب الجدة منه إلى الرغبة في التهام شيء جارح الحلاوة.. ولعل شهيتي أغرتها بالمشاركة، حتى قضينا معاً على محتويات الصحن.

ويبدو أن حلاوة الدبس الجارحة ـ دون حبات ثمار الجوز ـ أغرتني بتصنع النعاس.. لكن تناومي عند قدمي الجدة كان مفضوحا إلى درجة أنها حاولت استذكار بعض الصلوات باللغة الروسية، وراحت ترددها.. وهي الصلوات ذاتها التي ادعت أن مبعوث القيصر نيقولا رومانوف، المدعو إيفان روستنتوف علمها إياها.

وأذكر، عند الثلجة الأولى، السنة الماضية وفي جلسة يتوسطها صحن من الدبس ايضا، رن ناقوس الكنيسة فقالت لي جدتي:

ـ أتعرف يا ولد أن القيصر وقع في غرامي؟

ـ القيصر؟.. القيصر؟!.

ـ نعم القيصر.. بذاته..

ـ كيف؟..

ـ يبدو أن الملعون إيفان روستنتوف بعد أن علمني الصلوات الروسية وصفني أمام القيصر نيقولا رومانوف.. فوقع هذا الرومانوف في حبي.. وأهدى قريتنا هذا الناقوس!.

قلت، وأنا أقترب من الموقد المتوهج بالشيح: يا جدتي.. ليس لديك أي دليل!.. اعتدلت الجدة.. وسحبت بكرم غير عادي شيحة كبيرة للغاية، ودستها في الموقد، فاشتعلت النار: والناقوس الذي يرن؟.. أأنت أطرش يا ولد؟.. إنه يردد اسمي.. مير.. يا.. ميريا.. م م م .. دان .. دون!.. اسمي.. مريم الدندون!.

حاولت مناكدتها: ومن أين جاء هذا الإيفان؟

هزت رأسها بخيبة أمل كبيرة: إذن.. ماذا يعلمونكم في دروس التاريخ؟!.. ألا يقولون لكم إن روسيا أرسلت بعثات إلى قريتنا لتعليمنا الروسية؟!.

فاجأها سؤالي.. لم يكن لديها جواب جاهز، لأنها تلكأت قليلاً قبل أن تجيب: لا أدري.. ربما لكي ندعو في صلواتنا للقيصر.

ولعل اكتشافها للجواب أشاع فيها حالة من الرضا.. فمدت يدها إلى خلف مسندها، وأخرجت حبتي جوز، ورمتهما في حضني.

عندئذ اغتنمت فرصة هذا الجو الحميم بيننا، وسألتها: جدتي.. لم تحكي لي عن العنزة التي نحن أولادها.

قالت جدتي إنها سمعت بشيء يسمونه الطائرة.. وهي حصان يطير بجناحين من الحديد.. لكن السمع غير رؤية العين.. وقريتنا ـ تابعت جدتي ـ لم تعرف شيئا يطير في الجو غير العصافير والغربان والسنونو والوطاويط وطيور أبي سعد المهاجرة في الخريف.. لكن الذي أتى إلى سماء القرية هذه المرة أحصنة حديدية تطير حقاً.. وقال جدك إنها طائرات الفرنساوي، جاءت لتكشف مواقع الثوار.. ونحن لم يكن عندنا ثوار.. لكن الخوف هو الخوف.. وقد قال العارفون إن الطائرات جاءت لتستطلع، وبعدها ستقصف.

كانت الجدة تمثل بيديها المعروقتين حركة الطائرات، وبصوتها العميق هديرها المرعب.. وحين اطمأنت إلى أني فهمت ما تعنيه الطائرات، تابعت: حمل الخائفون أمتعتهم على الحمير والبغال، وقالوا نهرب إلى البرية.. فإذا كانت طائرات الفرنساوي ستقصف.. فلتقصف بيوتاً فارغة.

ـ ثم جاءت الطائرات وقصفت البيوت!.. قلت..

هزت رأسها استخفافا باستنتاجي: لا.. طائرات الاستكشاف التي جاءت عند الظهيرة حسبت تجمع الناس في البرية تجمعاً للثوار.. فقصفتهم عند العصر.. وكانت بيوت القرية تهتز كلما انفجرت قنبلة.

كورت جدتي قبضتيها، وهزتهما، فارتجف جسدها، وحاولت إخراج أصوات من فمها تشبه أصوات الانفجارات.. ثم سكتت، وبدت في جسدها المنكمش، وأهدابها المرفرفة، تسترجع خوف الذكريات.

ضممت ركبتي بذراعي إلى صدري، ورحت أتأمل الجمرات المرمدة في الموقد.. ثم سمعت صوت جدتي:

ـ أنا وجدك لم نخرج إلى البرية.. كنت قد ولدت أباك يوم ذاك.. وبقيت أم هديبان.. جارتنا.. وزوجها، لأنها كانت قد ولدت ابنتها زينب قبل يومين.. زينب التي هي عمتك الآن.

ـ والعنزة؟؟

ـ آتية لك بالكلام.. قالت، وقد تحول فمها إلى مغارة تطلق الصدى، ثم تابعت: تلبسنا الرعب من هول ما كنا نسمع.. كأنما البراكين تفجرت من حولنا.. وظننا أن الموت آت إلينا لا محالة، وأن قبورنا كانت حيث نجلس.. واستنجدنا بالله، عسى أن ينجينا.. فاستجاب.. ورحلت الطائرات فجأة مثلما أتت.. ولكن حليبي كان قد جف في ثديي.. وحين راح جدك ليطمئن على أم هديبان وابنتها المولودة: التي لم يكن اسمها زينب بعد، عاد ليقول إن حليب المرأة قد جف هو الآخر.

سكتت الجدة.. كأنما تركتني استكمل الحكاية وحدي.. وطال سكوتها، حتى خشيت أنها نسيت ما كانت قد روته حتى اللحظة.

لكزت ركبتها المثنية أمامي: جدتي!.. والعنزة؟.

قالت متأففة دون رغبة حقيقية في الحديث: انتهت الحكاية.. أبوك وزينب صارا يرضعان من حليب عنزتنا الصهباء "نجمة".. هذه هي.. أصبحا أخوين بالرضاعة.

ـ تقصدين أن العنزة صارت أما لهما؟!

فردت أصابعها الحطبية، ولوحت بها أمام وجهي متذمرة: أف منك، ومن أسئلتك.

ثم وضعت رأسها على حافة المسند ونامت دون أن تضطجع.

(1_1)

توقف ابن عمتي محمود عند طول معين، بدليل أن نهاية ساقي بنطاله ظلتا بعيدتين عن حذائه مسافة أربعة أو خمسة أصابع، وقد أعطى لنفسه، بسبب هذا الطول، الحق في أن ينصف نفسه زعيماً لفريق اللعب في الحارة، حالما بدأ موسم اللعب بعيد انسحاب الثلج من أزقة القرية نحو سفوح الجبل الغربي.. وكان هذا يثير فيّ بعض الغيرة، خاصة وأن الطابة طابتي، وهي إحدى واردات طرود عمي من تشيلي.. ولعلي ذكرت هذه الحقيقة في واحدة من حماقاتي الطفلية أثناء اللعب.. وها نحن نتقاذف الطابة.. لكن حماسة محمود بدأت تفتر رويداً رويداً.. ثم حمل محفظته وصدارته المدرسية المركونتين إلى مصطبة في الحارة، ومضى..

لحقت به صائحاً: محمود..

التفت دون رد..

ـ لماذا تركت اللعبة؟..

هز كتفيه بفتور: لا رغبة لي في اللعب

أمسكته من صدره: أنت تود أن تكون زعيم اللعبة.. أو أنك لن تلعب..

بدا كأنما يقلب شفتيه غير عابىء بكلامي، وحاول أن يتراجع خطوة نحو الخلف.. لكني من جهتي شددته من قميصه.. ولحظتها تمزق القميص، وانكشف عن كنزة سوداء، تتخللها خيوط صفراء وحمراء ونهدية.. ولها أشكال جهنمية عجيبة!.

ارتخت يدي، وهبطت بطيئة دون إرادة مني.. ولمحت في عيني محمود بريق عتاب مر، وجارح، دام لحظة سريعة، انفتل بعدها ومضى مبتعداً.. تاركاً خلفه ظلاً طويلاً من الكبرياء.

ولعله لن يبكي..

القصة الفائزة بالمركز الثاني
المزلقان
بقلم: سعدي أمين حسين "مصر"

سحب قائمة، كثيفة، فوق الجبل الغربي، خلفها القمر يكاد يختنق. والليل من بدايته جهم، ينذر بليلة من ليالي طوبة القاسية.

والليلة، فحولته عارمة.

"بغلا تصير يابرسي يا ابن رمضان النوبي لو مضت الليلة هكذا - مثل الاربعين ليلة الماضية- بلا حرمة تلم "فرائصك المرتعدة، وتحرك ماءك الراكد".

قالها لنفسه وهو يفرك راحتيه بقوة، ويجفف أنفه المفرطح، ويسوي شاربه المتدلي على جانبي فمه كحدوة. لم الكوفية حول رأسه، وشد حول جسمه المتين البنيان المعطف الميري الأسود، ثم فع الياقة الصوفية حتى أذنيه.

كشك المزلقان - بعد خمس عشرة سنة خدمة في المرور أول مرة يحس به ضيقا. زنزانة ذات كوتين مربعتين، واحدة بحرية تطل على المزلقان، وعمود الإشارة، والقطار القادم من بحري، والأخرى قبلية، تطل على البلوك القديم، وعلى محطة القيام "الأقصر" أبي الحجاج.

كل ليلة - بعد كل هذه السنين- ينحشر في جوف هذه الزنزانة مهملا حتى منتصف الليل! حتى أسبوعين مضيا، كانت تأتيه شلة الليل "أو قوم عاد وثمود، كما يطلقها عليهم، أخوه النوبي رمضان النوبي أمير الجماعة بنجع أبي الجود، والمتزوج من أربع حريم لا يناديهن إلا بإماء الله، آخرهن أمة الله تم ابنة الشيخ بغدادي الذي مات في المعتقل قبيل مصرع السادات".

والليلة ليست ككل ليلة.

الليلة- بعد أن انقطعت عنه شلة الليل - سيجىء سامبو سائق البيجو ومعه غزالتان، أو ثلاث، خواجيات ذوات شعر أصفر كنجمات السينما.

قال له: إنهن إسرائيليات، وإنهن العملة الرائجة في هذه الأيام.

والنوبي رمضان النوبي لو شم خبرا عن هذه الليلة لأهدر دمه بالفعل، دون تردد، ولن يشفع له أنه هو البرسي رمضان النوبي، أخوه الأكبر من أمه وأبيه، وأنه بسببه انتزع من تحت اللحاف في الثانية بعد منتصف الليل وسيق معصوب العينين، من سجن إلى سجن واحدا وعشرين يوما، يجلد نهارا، ويطرح على البلاط المثلج ليلا حتى تقرح جسمه، ونخرت عظامه. ولم يدلهم على مكانه. ويحمد الله أنه لم يمت تحت أيديهم كما مات الشيخ بغدادي.

والنوبي رمضان النوبي - دون هذه الليلة أو غيرها. لا يدعوه إلا بأبي جهل. وكم هدده رافعا السلاح الآلي في وجهه بدل المرة عشرا، وكل مرة كان يزعق بصوته الجهور:

- أنت كافر وتعمل مع الكفرة. ولن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة يا أبا جهل.

آخر مرة - لن ينساها أبدا- كانت من أربعين يوما بالتمام. وقتها كان مضطجعا على السرير وذراعه حول حجاجية امرأته، وكان منسجما غاية الانسجام عيناه لا تطرفان، وليلى علوي على الشاشة، في لقطات من المسرحية، بطة سمينة تتمايل، وتهتز "الجميلة.. والوحشين الجميلة.. والوحشي.. الجميلة.. والـ.. ".

فجأة، انخلع باب البيت بقوة. قلبه ارتج فزعا. رأى النوبي وأربعة شبان في جلابيبهـم البيضاء يقتحمون عليه الحجرة، ويقفون على رأسه مصوبين نحوه الأسلحة النارية. أدرك أنه مقتول لا محالة. لهج بالشهادتين مرتين. أربعا. مائة. لا يدري.

بحركة من الرشاش أمر النوبي امرأته أن تستتر، فاستداروا جميعا بمن فيهم هو حتى استترت وتكومت تحت ملاء سوداء خلف صوان الملابس. وبحركة أخرى من الرشاش، أشار إلى التلفزيون آمرا واحدا منهم أن يهشم "الشيطان" فتقدم واحد منهم "يعرفه تماما، هووعباسسالضوي،،الذييهجرروظيفته بالسجل المدني وراح يبيع المسك والعنبر في الشوارع" تقدم عباس وراح بهشم التليفزيون بكعب الرشاش صائحا في حماس بالغ : الله أكبر..سرى الحماس سريعا في بقية الشبان وصاحوا : الله أكبر. وقف النوبي في وسط الحجرة المصباح مباشرة يتنفض بعصبية ويصرخ في وجهه. "أنت رأس الفساد في هذا البيت . طاغوت من طواغيت الجاهلية الحديثة.

سيل من الكلمات الغضبى صبها فوق رأسه. بعدها اتجه نحو المرأة، غرز فوهة الرشاش في صدغها صارخا: " لو أبصرت وجهك القبيح بلا نقاب بعد اليوم لأمرت برحمك حتى الموت يا متبرجة : يا امرأة الكافر" ثم حول الرشاش وسدده نحوه: "وهذا الكافر لا يحل لك من وقتنا هذا . لا يحل لك من وقتنا هذا".

من الكوة البحربة يرى الكوبري الجديد - الذي اقيم فوق المزلقان - شبحا هائلا يسد عليه السماء، تحته عمود الإشارة، والجرس النحاسي القديم، أخرى، لم يعد يبعث بزنينه المنتظم عند قدوم القطار . بعده بخطوتين، المزلقان المسدود، فوانيسه القديمة عيون شريرة متقدة مازالت تبرق كعيون الجن، تسخر منه، تذكره طوال الليل بأنه منذ شهرين كان هناك مزلقان يرتفع فيفتح الطريق، وينزل فيقفل الطريق. وكان هناك "اشارجي" كالجبل ، يدعى حضرة الصول البرسي رمضان النوبي: اربعة أشرطة، وصفارة ، ودفتر مخالفات ادفع جنيها كاملا للخواجة متري صاحب مطبعة دعبس ليصنع له حافظة من الجلد تليق به" . ايضا على مرمى حجر من الكشك، هناك السيمافور العالي راسخ، وقوي ، يذكره دائما بحضرة الصول مرزوق، معلمه القدير في كل ما تعلم من أسرار المرور، ومكر الأشارجية.

زفر زفيرا مهموما، دفقة بخار كثيفة تفرقت في الضوء القليل المتسلل إلى الكشك.

فحضرة الصول البرسي رمضان النوبي. الطور المتين، وخمسة عشرة عاما خدمة، وتسعون جنيها في الشهر بالعلاوة الجديدة والبدلات وغلاء المعيشة لا تملاء البطن خبز أو ماء، أصبح هراء في حمراء يود لو أعلنها عالية في وجه حثالة السائقين، واللصوص أصحاب سيارات المرسيدس "الزلمكات" في وجه العالم كله: أنه بعد ما أقيم هذا الكوبري اللعين فوق المزلقان أصبح لا شيء..لا شيء.

أشعل السبرتاية، وألقم الكنكة نصف ورقة من شاي التموين، وقرطاسا من السكر، وأعد الكوب "الخمسينة" ليصب فيه الشاي.

آخر مخالفة، لن ينساها أبداً، حررها يوم افتتاح الكوبري: 91119 ملاكي قنا/ مرسيدس/ فضي ميتالك/ 5/ 9/ كسر إشارة المزلقان/ الساعة 13.15.

الخنزير اخترق المزلقان أثناء نزول الذراع، ومرق مسرعا - دون اعتبار- للبني آدم الطويل العريض الذي خرج له من الكشك. من الجيب الداخلي للمعطف أخرج مجموعة سجائر "فرط"، هي حصيلة اليوم كله: 3 مارلبورو+ 2 كنت- 6 إسرائيلية+ ا كليوباترا المجموع 12 سيجارة.

هىء.. هىء.. هىء.. لقد طلبها بنفسه واحدة فو احدة.. كالمتسول.. اتفووه.. " بصقها بعيدا خارج الكشك. اشعل سيجارة الكليوباترا، وشد منها نفسا عميقا ملأ به رئتيه. لحظة، تم أطلقه في زفرة طويلة، كثيفة، حامية. ضغطت يده زر المزلقان دون قصد. الزر لا يعمل، ضحك، ومال عليه يزيل عنه الأتربة. من شهرين، من مكانه هذا، كان يغلق المزلقان فتقف المركبات صفا طويلا تفح وتزمجر متعجلة، فتمتط الرقاب خارج النوافذ، وتبرز الأيدي من النقل والأجرة والملاكي حتى الحنطور بأرباع أو أنصاف الجنيهات تلقى بها على جانبي المزلقان، فيضغط هوعلى هذا الزر الصغير ضغطة مزهوة، هاتفا كطفل. افتح يا سمسم.

وفي الحال يسكت رنن الجرس النحاسي، وترتفع ذراع المزلقان، ويصفر صفارته الطويلة الملحنة فيمر الجميع ملحوحين له، هاتفين: الله ينور عليك يا حجرة الصول. أطال الله عمرك لنا يا حضرة الصول. بعدها أصبح الكشك مرتعا لشلة الليل، سامبو "سائق البيجو"، وحنفي الدهل "سائق الترلة"، وحجاج القوصي " سائق المازدا "، وسداري القبطني " سائق التيوتا" يلتقون عنده للتهريج والتنكيت وشرب الشاي الذي يقوم هو بصنعه لهم. وما يعزيه أنه يشاطرهم عشاءهم: كباب وكبدة جملي وطرب وفروج مشوي، وسجائر، ولاسيما سجائر هذا الفرخ سامبو يغمزه بها قائلا:عفر يا حضرة الصول.

ليلة الجمعة الماضية، ضبطه وهو يفتح بنطلونه، ويفرج ساقيه، ويوشك ان يفرغ نجاسته على ظهرالكشك لولا أن لمحه فجأة فارتبك، وتوارى تحت الكوبري. عندما رجع إليه نهره بشدة، ولم يكف عنه حتى تأسف أسفا شديدا.

"والله يا حضرة الصول بعيني هاتين رأيت الخواجة الإسرائيلي في الدير البحري وأمين الشرطة الذي رأى لم يفعل مثلما فعلت معي، بل أدار له ظهره وابتسم".

ألقى بها في وجهه ساخرا. شعر لحظتها برذاذ يلفحه، وأنه مقهور. ومضطر لأن يلاينة حتى لا يفقده، فهو الوحيد الذي تبقى له من الشلة كلها، فحنفي الدهل سافر للعمل بالسعودية، وحجاج القوصي سافر إلى الإمارات، أما الخواجة سداري فلم يره منذ أسبوعين. وسامبو نفسه لم يعد يأتيه بانتظام.

أصبح لا يرى وجهه إلا إذا خلت الأقصر من الأعراس والأفراح.

وفي الآونة الأخيرة، إذا جاءه يجىء متبرما ساخطا لاعنا أخاه النوبي واتباعه الذين دأبوا على مهاجمة الأفراح، وتحطيم الكراسي والدكك والمصابيح والطبالين والزمارين بالعصي والجنازيرـ حتى هو - النحيف كعود البوص - لم يفلت من أيديهم .

يضحك البرسي شامتا فيه، ويتذكر يوم اقتحموا عليه البيت، ووقفوا على رأسه بأسلحتهم النارية: "هل علمت أن الخواجة باع "التيوتا" ورحل بأهله إلى نقادة بعد الهجوم بالسلاح على كنيسة مار مرقس يوم الأحد الماضي". انقبض صدره للحظة، وسأله: "أتعني سداري؟ ".

"نعم سداري. ترك البلد لكما، أنت والأمير، قال لي آخر ما قال: صدقني يا جاري، أن الأيام الجميلة ولت بلا رجعة، والبلدة الآمنة لم تعد آمنة. فلماذا أبقى؟ وحتى لا أنسى فهو يبلغك السلام الخصوصي.. ".. صدى صوت، وأطراف كلمات، ووخز أليم يشكه في داخله. سداري متى، كان الوحيد من الشلة كلها الذي تعامل معه كصديق حقا، وليس كسائق وأشارجي على مدخل المدينة: الليل حالك . قرص فئران في جدار الكشك، ونقيق ضفادع، ونباح كلاب يجيء من شرق المزلقان والريح باردة لها عويل طويل ووخر شديد كوخز الإبر. "أقطع ذراعي اليمين لو تأخرت عن العاشرة " قالها له المراوغ ابن المراوغ هذا الصباح عندما قابله امام طاحون عزيز قزمان.

من العقب أشعل المارلبورو الثالثة. تعجب أنه توغل في قلب الليل دون أن يشعر، وأن حركة المرور فوق الكوبري كادت تموت.

يغرق جو الكشك في رائحه الشاي المغلي، والبخار، والدفء سحب كثيفة من دخان السجائر يطلقها بقوة نحو الكمر المسلح الذي يعترض مدخل الكشك إلى حد يجبره - كلما دخل أو خرج - على الانحناء .. ودلونسف هذا اللعين من قواعده نسفا.

طبعا لم يسكت لسامبو لحظة أن فتح معه الموضوع، بل ثار، وهب في وجهه بعدها سرح، فكر وحك صلعته تحت الكوفية كاد يواصل سبابه لولا أن قاطعه.

يا حضرة الصول "كبر عقلك . كنز وانفتح أمامنا وها انت في وجهنا كما سدها أخوك الأمير.. هل نسيت يا حضرة الصول : افتح يا سمسم؟ افتح يا عرب"

كان يضحك، وينتفض ، ويئر كحطبة قطن مشتعلة، ولا يتمالك نفسه من السعال، ولا يصمت تذكر لحظتها كيف أن مخه طار كالصاروخ، وأنه حك صلعته تحت الكوفية كعادته لكما واجهته مشكلة.

لا يتبقى إلا أن تأمرني أن أعد لكم الماء الساخن دفع به إلى جدار الطاحون، وكور قبضته في وجهه وأصر على عشرين دولارا أمريكانيا حتة حدة.

هىء هىء هىء

"أن تصنع كوبا من الشاي فهذه مهارة. أما أن تعرف كيف ترشف الشاي، وكيف تمتصه بصوت عال فهذا هو المزاج بعينه ".

يقولها دائما لمن يجالسه وقت شرب الشاي وعيناه سارحتان، وظهره مستند إلي جدار الكشك الرطب. فأول رشفه صوتها يقلقل من بالقبور.

الثانية تجعل المخ يطير، فيلف المدن والعزب والنجوع.

الثالثة والأخيرة للبدن، سر من أسرار. "اقطع ذراعي اليمين لو تأخرت عن العاشرة".

قالها السحلاب الدحلاب

أمعن النظر في ساعته متكدرا، نافد الصبر. وجدها الواحدة. بل الواحدة والربع.. فجأة سيارة شقت السكون البارد شوق الكوبري. لم تتوقف، مرقت كالريح العاصف. لحظة، اعقبتها سيارة أخرى: "ولعها ولعها.. شعللها شعللها".

بصفة كبيرة أطاح بها من الكوة البحرية.

حبك الكوفية حول رقبته، وأحكم الياقة الصوفية وفتحة الصدر. نقل بصره بين الكوتين في يأس

"غدا حسابك معي عسيريا ملعون".

نهض متثاقلا، سمع طقطقة عظامه تنخلع الواحدة تلو الواحدة تمطع، ثم أنحنى خافضا رأسه قدر ما يستطيع، وخرج من تحت الكمر المسلح ، وانحنى مرة أخرى ليمر من تحت المزلقان المسدود، ويعبر السكة الحديد.

كان البرد يزداد ضراوة، والسماء تزداد قتامة، والقمر- هناك- مخنوقا لا يزال.

انحدر مندفعا صوب الشارع الضيق المترب المظلم المؤدي إلى بيته.

بالأمس حرنت معه بنت النورى، وهددته بالسكين، وفشل في أدن ينالها.. لكن الليلة: "بغلا تصير يا برسي يا ابن رمضان الخوبي لو مضت الليلة هكذا مثل الأربعين ليلة الماضية.

راح يرددها عدة مرات.

القصة الفائزة بالمركز الثالث
أثناء شرب الشاي
بقلم: عمر أبوالقاسم شليق "ليبيا"

حادثة الشرفة المقابلة

تلقاه، مع انفتاح الباب، صمت ثقيل جاف. كان ابنه، الذي تجاوز السنة، يندفع ناحية الباب لاثغاً: "بابا.. بابا" فور سماعه حركة المفتاح في القفل. في الأيام الأخيرة صارت أمه سرعان ما تهب خلفه وتحمله، رغم الصراخ والرفس وضربه رأسه على صدرها، لاجئة به إلى حجرة النوم.

أغلق الباب. خلع حذاءه قرب العتبة، ودخل مخوضاً في خشونة الصمت وخضخضة الهواجس. لعل زوجته عند إحدى الجارات، أو لعلها تركت البيت فارة بالطفل. لابد أنها تركت رسالة في مكان ما تخبره فيها بقرارها ومخططها. لم يكن متعجلاً العثور عليها. وضع الكيس ومفتاح السيارة ومفتاح الشقة فوق المنضدة الموجودة في الردهة. بالكيس خبز، إضافة إلى زبادي وجبن وعدد من البالونات لابنه. دائما تأخذ زوجته المفتاحين وتضعهما في درج معين من أدراج خزانة المطبخ، وتضع الأشياء الأخرى حيث يجب أن تكون، وكثيراً ما تفعل ذلك مع وابل مركز من اللوم والتوبيخ على عدم عنايته.

ذهب إلى الحمام ليغسل يديه ووجهه وقدميه.

انتقل إلى غرفة النوم ليبدل ملابسه. لاحظ اختفاء ملابس زوجته وكل أشيائها.

دخل المطبخ. فتح الثلاجة الخاوية، وتناول زجاجة الماء "يبدأ في تناول الماء باردا قبل حلول موسم الحر" ملأ كوباً وتجرعه على مهل. شرع في إعداد كوب من الشاي. منذ سنوات أخذ يتغلغل في وجدانه شعور بأن الحياة قد فقدت طعمها ورونقها. فلا طعم للشاي والقهوة والتبغ، ولا للطعام والشراب والفاكهة، لا رونق لحلاقة الوجه والاستحمام والجماع والنوم، لا بهجة في مداعبة الزوجة وملاعبة الطفل وممازحة صديق، لا متعة في السكر أو التنزه أو الجلوس في مقهى، لا انسجام في الاختلاط بالناس ولا سكينة في الركون إلى الوحدة. لا راحة في التحدث ولا طمأنينة في الاحتماء بالصمت والشرود. لا رونق لأي شيء. أي شيء. اطلاقاً. لقد صار إنسانا بلا متع أو لذائذ وبلا أحلام أو رغبات، يمارس أشياءه بحكم الضرورة والعادة. ربما إثباتا للوجود أو ربما، بدافع أمل واحد وحيد بقي لديه، وهو أن يهزم تبلد الأحاسيس يوما ويسترد بعض المتع. في البداية ظن أن وراء المشكلة خللاً عضويا ما. لكن المعاينات والفحوصات الطبية نفت ذلك، فاعتبر الحالة اختلالاً وجدانياً. بعض الأصدقاء صرحوا بأن لديهم نفس الحالة تقريبا. صار الآن يحس بأن جاذبية الحياة، برمتها، نزلت إلى نقطة الصفر. جهز كوب الشاي. قرر أن يجلس ليحتسيه في الشرفة، وينظر فيما ينبغي عليه عمله.

وهو يتجه إلى الشرفة، لاحظ ورقة صغيرة مطوية فوق منضدة الردهة، تنحشر إحدى زواياها تحت إبريق الماء الزجاجي. سحبها وأخذها معه.

جلس على الكرسي البلاستيك. رشف من كوب الشاي رشفة قصيرة، ثم وضعه فوق المنضدة البلاستيكية.

أشعل سيجارة. امتص نفساً عميقاً. احتبسه في رئتيه قليلاً، ثم حرره متمهلاً. فتح رسالة زوجته:

"أخيراً قمت بما كان يجب أن أقوم به منذ زمن. الحياة معك ما عادت ممكنة. لقد فررت بابني. لا أريد له أن يطير كالعصافير. أريده أن ينمو في دفء أحضاني، ويكبر تحت رعايتي. لا أريد منك شيئاً. أنا قادرة على إعالته. أرجو أن يسوى الأمر دونما ضجيج".

أعاد قراءة الرسالة. فكر بأن زوجته كانت دائماً، عند الحاجة، دقيقة ومركزة وواضحة في كلامها. نظر إلى الشرفة المقابلة بالبناية المواجهة.

كان أحياناً يجلس، مع زوجته، في الشرفة، يتناولان شايا أو قهوة، معهما ابنهما حين لا يكون نائماً. في الشهور الأخيرة كثيرا ما كان يشاهدان رب الأسرة الساكنة في الشقة المقابلة يخرج إلى الشرفة بهيئة شعثاء متوترة.. يقف قليلاً متشبثاً بالسياج، متطلعاً حوله، ثم يصيح صيحات عالية متتالية:

ـ ما عادت الحياة تطاق. ما عادت تطاق.

يضرب سياج الشرفة براحتيه عدة ضربات متلاحقة متسارعة.. يصفع جانبي رأسه بضع صفعات صائحاً بصوت أقل حدة مخلوط بالبكاء:

ـ لا تطاق. أبداً، لا تطاق.

في إحدى العشيات، وبينما كانا يجلسان في الشرفة حول كوبين من الشاي يحسبان حجم الديون المتراكمة عليهما دون أن يجدا الفرصة لسداد ولو جزء منها، ويحاولان توزيع المبلغ الضئيل المتبقي لديهما على الأيام القادمة قبل الموعد المتوقع للإفراج عن راتب أحدهما، ظهر رجل الشقة المقابلة في الشرفة حاملاً ابنه، الذي لا يبدو أنه تعدى السنتين، بين ذراعيه، صائحاً بأعلى صوته:

ـ أصبحت الحياة لا تطاق.

كان الطفل يبكي ضارباً الهواء بيديه ورجليه. استمر الرجل يصيح:

ـ ماذا أفعل؟.. لماذا لا يطير أطفال البني آدم مثل صغار العصافير؟ هكذا..

وطوح بالطفل الصارخ في الفراغ من ارتفاع الطابق الرابع. أطلق الطفل زعقة ضارية، كما لو كانت زعقة الحياة إذ تجد نفسها، على حين غرة، في قبضة الموت، فتزعق من شدة إحباطها وعجزها وخذلانها. انبترت الزعقة عند ارتطام الطفل بالأرض. انطلقت صرخات وشهقات من جهات مختلفة، وتداخلت في المستطيل الذي تطل عليه مجموعة البنايات. شهقت زوجته ووثبت ناهضة، فتعثرت وخرت مغشياً عليها.

ظلت أكثر من يومين مضطربة، تبكي بوجه مسود وعينين منتفختين، متسائلة بين الحين والآخر:

ـ هل ما شاهدناه وقع فعلاً؟ ..هل هذا معقول؟.

ـ مع الأسف، لقد وقع فعلاً.

ـ هل هذا معقول؟

ـ ليس كل ما يحدث معقولاً.

تصيح في نومها وتهب مرتجفة:

ـ هل هذا معقول؟.. هل وقع فعلاً؟.

عندما تماثلت إلى الهدوء، بعد أيام، وبينما كانا مستلقيين في غرفة المعيشة، تنظر هي إلى شاشة التلفزيون المكتوم الصوت، ويتصفح هو مجلة دون أن يجد القدرة على قراءة شيء منها، قال دون أن يحول عينيه عن المجلة:

ـ تساؤل وجيه!.

أحس بحركة التفاتها نحوه. قال:

ـ إنه ليس تساؤلاً عبثياً كما يبدو في الظاهر.

قالت بخفوت:

ـ ما هو؟.

يبدو أنها ظنته يعلق على تساؤل وارد بالمجلة.

ـ ذلك الذي صرخ به الرجل الذي قذف بابنه.

صاحت:

ـ ماذا؟

ـ أعني من ناحية..

لكنها انتفضت فجأة. حملت الطفل الذي كان يغفو إلى جانبها ولجأت به إلى غرفة النوم، مغلقة عليهما الباب بالمفتاح.

من يومها لم تعد تترك الطفل معه أبداً. إذا أرادت أن تدخل الحمام أو المطبخ أو غرفة الاستقبال تحمله معها وتغلق الباب بالمفتاح، أو تقفل عليه غرفة النوم، إذا كانت هي ستغادرها لبرهة قصيرة. لم تعد تذهب إلى العمل أو تغادر البيت مطلقاً. حاول كثيراً أن يخرجها من حالتها، ولكنها كانت تتمسك بأنه ينوي قتل ابنها. أثناء الليل كثيراً ما كان ينتبه على صراخها.

أعاد قراءة الرسالة: ".. الحياة معك ما عادت ممكنة.." قال: "ما عادت الحياة ممكنة".. نهض: "ما عادت ممكنة".

تطلع حوله. كان صمت فترة الظهيرة وسكونها سائدين. امتص بقايا السيجارة ثم داس عقبها بعنف وبطء. رشف رشفة من الشاي. اتجه إلى الحمام.

عاد. جلس على الكرسي. تناول رشفة شاي. استشعر الوخز الطفيف في رسغه الأيسر. فكر بأن الانتحار اكتشاف، أو اختراع، إنساني عظيم، لم تنصفه البشرية. تساءل: "ترى في أية ظروف، وكيف، انتحر أول منتحر في التاريخ". ارتشف آخر رشفة شاي متبقية. تطلع إلى السماء الربيعية الصافية. فكر أنه لم تعد هناك ضرورة إلى أن يتأمل ما حوله. شعر ببعض الارتخاء. نظر إلى غدير الدم الصغير المتجمع على أرضية الشرفة. أغمض عينيه. فكر بأن زوجته وأقاربه سيفاجأون كثيراً. تساءل عما يمكن أن يعتقده البعض حول سبب انتحاره. شعر بمزيد من الارتخاء ورغبة في النوم، فحاول أن يتخذ، في كرسيه، وضعاً أكثر ملاءمة. لم يكن يتوقع أن الموت يمكن أن يكون هيناً وسلسلاً، بل وأنيساً، إلى هذا الحد. الناس تظلم الموت كثيراً. ها إن كل شيء ينتهي دون ضجيج، كما عبرت زوجته في رسالتها. رن جرس الشقة. قال دون أن يفتح عينيه: "ترى من القادم.." قال: "سبقت الشفرة الرنين".

ضحك في نفسه. قال: "إنه تعبير طريف ولاشك. لكن لن يصل إلى أحد". تردد الرنين عدة مرات، ثم انقطع. أخذته شبه غفوة.. أخذ فضاء الساحة التي أمامه يكتظ بأطفال متصايحين يطيرون في تشكيلات متبدلة.

كان ابنه من بينهم. حط ابنه على حاجز الشرفة لاثغاً: "بابا.. بابا". واستمر يبتسم ويصدر صيحات ابتهاج مهتزاً ومتمائلاً كما لو كان يرقص، ومثلما كان يفعل كثيراً. فتح ذراعيه وحاول أن يقول: "تعال". فلم يخرج صوت. نهض نحوه شارعاً أحضانه، فطار ابنه محوماً في فضاء الساحة متغرغراً بالضحك. لاحظ أن زوجته كانت تطير إلى جانب ابنه. قفز في الفراغ طائراً خلفهما. أحس بنفسه يطير في خفة ويسر، في البداية، ثم تعاسر تنفسه وتثاقل جسده وأحس بنفسه يهوي ببطء ـ مندفعاً برأسه ـ في غور دامس.

تأويل

بعد أن انتهى الكاتب من كتابة قصته وغربلتها وتدقيقها والتدقيق فيها، وتوزيع الضوء والظل، والحرارة والبرودة، والتوتر والارتخاء، والطراوة والصلابة على أجزائها، حتى استوت بالكيان الذي تبدت به أعلاه، وأيقن أن مدى قدرته الفنية ينتهي دون إمكان إضافة مزيد من التجويد، عرضها، كما جرت العادة، على زوجته.

جلس يراقبها وهي منكبة على القراءة راصداً تجهم ملامحها كلما أوغلت في القصة.

بعد أن فرغت من القراءة، ألقت بالأوراق أمامها، على منضدة الردهة.

صمتت قليلاً.

التفتت نحوه.

هجس بغضبها المكظوم الوشيك الانفجار.

ـ قصة جيدة!.

كانت تتكىء بأحد مرفقيها على المنضدة شابكة أصابعها على بطنها. نظرت في عينيه مباشرة:

ـ تتكلم عن نفسك. واضح. وعنا. سأمك من الحياة.. منضدة الردهة.. منضدة الشرفة.. خزانة المطبخ.. اهمالك.. غضبي.. ابننا.. ديوننا.. ثلاجتنا الخاوية.. الرواتب المتأخرة، إلى آخره.

صمتت مسددة نظرها إلى عينيه. ظل جالساً في كرسيه دون أن يرد.

ـ لقد استوعبت الرسالة من قصتك هذه. إنك تريد مني أن أذهب وأتركك. ليكن، مادامت هذه رغبتك. ثم هبت ناهضة، مسقطة الكرسي الخشبي الذي كانت جالسة عليه.

استمر جالساً مكانه يسمع جلبتها وزخات سخطها، وهي تجمع أشياءها. حملت ابنها الذي سرت إليه عدوى التوتر فانخرط في نوبة بكاء وصراخ، وجرجرت الحقيبة. وهي تمر به قالت دون أن تلتفت إليه:

ـ انتحر إذا شئت، فلم تعد تعنيني. كانت غلطة من البداية.

ومضت.

لبث مكانه مذهولاً وهو يسمع ـ عبر باب الشقة المفتوح ـ صراخ الطفل ووقع خطواتها الثقيلة على سلم العمارة، إلى أن تلاشيا.

نهض. أوصد باب الشقة. ذهب إلى المطبخ. تناول كوباً من الماء البارد "يبدأ في تناول الماء بارداً قبل حلول موسم الحر". أخذ يعد كوباً من الشاي. قال: "أمعقول أن يئول الأمر إلى هذه النهاية؟". رد على نفسه: "ليس كل ما يحدث معقولاً".. داهمه شعور بأن جاذبية الحياة، برمتها، قد تدنت إلى الصفر.

 

وليد معماري