قراءة نقدية في رواية.. " برج السعود"

بقلم: أبوالمعاطي أبوالنجا

أعترف خروجا على كل التقاليد المرعية التي تؤثر تقديم الحيثيات على الأحكام، بل والتي ترفض حتى مبدأ إطلاق الأحكام في النقد، أعترف أنني وقعت في أسر هذه الرواية، ولا أريد أن أعتبر هذا حكما ولكنه حالة، واسمحوا لي وأنا لا أزال تحت تأثير هذه الحالة أن أواصل الاعتراف بأنني تململت أثناء قراءة فصول قليلة قدمت فيها الرواية شخصيات نمطية شعرت بأنني قابلتها قبل ذلك وربما في روايات كثيرة عربية أو مسلسلات تليفزيونية، شخصيات مثل الشيخ "بلحاح" و"الرماي" و"بناصر" و"الفقيه جلولي" و"عياش" و"زامورة"!.

ولكن السحر الحقيقي الذي يخلق الهوى هو ما حدث لي وأنا أتابع شخصية "الريطي" في الفصل الأول من الرواية يقول عنه المؤلف في أول تقديم له "إنه يجري بسرعة تخفي العيوب التي تظهر بوضوح حين يمشي مشيته العادية، وتجري من خلفه نصف دائرة من الأطفال والنساء والرجال في بلدة البطنية، التي تقع فيها أحداث هذه الرواية، ولا ينقضي السحر، وأنا أتعرف من خلال أحاديث نصف الدائرة، التي تتابع حركة الريطي، أنه يقودهم إلى المنسية، وأن المنسية قطعة أرض جدباء لا يرجى منها خير، ولهذا آلت إلى الريطي باعتبارها نصيبه من إرث العائلة فمن غير هذا "الريطي" الذي يؤكد كل شيء فيه أنه نوع من عبيط القرية يمكن أن يقنع بها دون مشكلات، ولكن المشكلات الحقيقية بدأت تظهر لأهل البطنية كلهم عندما ظهر المعدن النفيس الذي أدى ظهوره إلى ظهور ما أصبح يعرف باسم "البطنية الجديدة" حيث أصبح أناس كانوا أشد فقراً من "الريطي" يعيشون في قصور تحيط بها الحدائق، إن أحدا من نصف الدائرة التي كانت تجري وراء "الريطي" لا يعرف على وجه اليقين من الذي أطلق خبر أن الحفارات التي كانت تنخر بحثا عن المعدن النفيس في أماكن أخرى قد تحولت للبحث عنه في "المنسية"، وما يعنيه ذلك من أن الريطي الذي طرده الشيخ "بلحاح" حين جاءه يطلب يد ابنة أخته الأرملة سوف يصبح بعد أن يأخذ التعويض المناسب عن أرضه المنسية رجلاً ذا شأن، وهذا الاحتمال هو الذي دفع الشيخ "بلحاح" لأن ينضم إلى الموكب المتابع للريطي دون أن يتريث كالعهد به ليتأكد من حقيقة الخبر، وهو الذي جعله يلتقط "البلغة" التي انخلعت من قدم الريطي أثناء ركضه لتكون حجته على صدق دعواه في حبه للريطي، فمن يدري، فمنذ ظهر المعدن النفيس في المنطقة، وكل شيء جائز، ويصل الموكب الذي يقوده الريطي إلى "المنسية"، وينحني الريطي على الأرض هنا وهناك لعله يسمع الأصوات المكتومة للحفارات وهي تنخر باطن الأرض، ولكن دون جدوى، وينتهي المشهد بصورة عبثية حيث لا يجد "الريطي" من سبيل لصرف الموكب، الذي تحول إلى موكب شماته وسخرية، سوى أن يكشف لهم عن كامل عورته فيتراجع الموكب متفرقا إلى البطنية.

ولعل الموكب الذي عاد إلى البطنية كان يحمل في داخله أكثر الشخصيات التي سيتتابع ظهورها بعد ذلك في بقية فصول الرواية، وبذلك فإن الفصل الأول يكون قد حمل البذور الجنينية لشخصيات الرواية وأحداثها وأجوائها وقضاياها التي يتواصل نموها في بقية الفصول، وحين يجيء الفصل الأخير في هذه الرواية فإننا سنجده يشبه الفصل الأول في شكله الخارجي "فالريطي" يقود ربما نصف دائرة أكبر من أطفال ونساء ورجال البطنية لا ليبحثوا عن المعدن النفيس في باطن الأرض بل ليستخرج لهم من باطن الأرض الثمار المرة لبذور المهانة التي وضعت في الفصل الأول وربما قبله بزمن بعيد، جثة القتيل الذي تبحث القرية والحكومة كلها عن قاتله؟!.

بناء الرواية:

وإذا كان من الصعب وربما من غير الضروري أن نتابع الإيقاع الموجي الهادىء لأحداث الرواية وشخصياتها الذي يعكس الحياة الراكدة والساكنة لأهالي البطنية، والتي لم يهز ركودها وركود أحلامها سوى ظهور المعدن النفيس، فإننا سوف نلاحظ أن بناء هذه الرواية الذي تتضح معالمه من خلال تتابع أمواج الفصول الهادئة تقوم على عالمين: عالم ظاهر واضح وعالم خفي مستور وإذا كانت أرض البطنية لها باطن يمور بالمعدن النفيس المجهول بينما ظاهرها فقير جدب فإن ناس البطنية مثل أرضها لهم ظاهر قد يختلف كثيرا عن باطنهم، وأنهم في تخبطهم وبحثهم عن الكنوز المخبوءة في باطن الأرض قد يعثرون على كنوز أغلى في باطنهم هم، وسوف نختار من هذا الحشد من شخصيات رواية "برج السعّود" بعض الشخصيات التي تملك السحر الحقيقي الذي يخلق الهوى، ونأمل أن تقودنا هذه الشخصيات القليلة إلى الشعور بالنبض الحقيقي لهذه الرواية الآسرة، وإلى اكتشاف الجمال في بنائها الساحر والبسيط!.

المعلومة:

إذا كنا قد بدأنا بما بدأت به الرواية من حديث عن "الريطي" عبيط القرية فلعله من الطبيعي أن نقدم من بعده شخصية "المعلومة" ـ وهذا ما فعلته الرواية كذلك ـ وهي مومس القرية، ومن الطبيعي أن تكون "المعلومة" هي من يتطلع إليها "الريطي" كأقصى ما يمكنه الوصول إليه في عالم المرأة، وستبقى علاقة الريطي بالمعلومة طوال أحداث الرواية وتراً من أهم أوتارها تصدر عنه نغماتها الفاعلة والمؤثرة، كما سيبقى "الريطي" و"المعلومة" دليل القارىء الذكي في هذه الرواية إلى العالم الخفي في قرية البطنية. و"المعلومة" ليست نوعا من المومس الفاضلة أو المومس المبتذلة، ولكنها شخصية إنسانية لها فرادتها، فهي تعترف بينها وبين نفسها بدورها في عالم القرية الخفي، وهي تدرك أنه لم يكن أمامها أي خيار في القيام بهذا الدور، وقيامها بهذا الدور لم يجعلها تفقد اعتبارها لنفسها، ولم يجعلها تسقط حقها في أن تقوم إلى جواره بأي عمل شريف فلم تتردد في القيام بمساعدة "عمار" الذي يسمونه طبيب القرية مع أنه ليس طبيبا مثل الأطباء الذين يعملون في مستشفى المدينة، وإن كان على علاقة وطيدة بهم، وهي تقدم إليه في عمله الذي لا تدرك طبيعته تماما خدمات يطلبها ولا يستطيع غيرها أن يقدمها له، وهي بالمقابل تحصل منه على قدر من الاعتراف والاحترام لا يستطيع غيره أن يقدمه لها، وهي تشعر نتيجة لذلك أنه أصبح لها نوع من الحق فيه يسمح لها بأن تدفع عنه فضول النساء الأخريات، وتدرك بغريزتها ـ ولا تتردد في أن تصارحه ـ بأن كل نساء البطنية يحلمن بعلاقة معه في الحلال أو في الحرام، وإن كانت هي نفسها لا تسمح لنفسها بالتفكير في مثل هذه العلاقة معه!!.

إنها تدرك أن جزءا من عمل عمار أن يسأل الناس عن معلومات تتصل بحياتهم وعملهم، وبينما هو يسجل ما يقوله أهل البطنية له على أنه الحقيقة فإنها تدرك أنهم لا يقولون له كل الحقيقة كاملة كما تعرفها، وقد كاد أن يصيبه الذهول حين أخبرته بما فعلته نساء البطنية من مقاطعة أزواجهن في الفراش تضامنا مع "بنت الرشام" حين أرادت أن تنتقم من "عليوات" الذي دفع بعض أتباعه للسخرية من "بنت الرشام" وهي سيدة رفيعة القدر وشريفة، وحين كان من نتائج هذه المقاطعة أن توجه رجال القرية إلى المعلومة كحل لمشكلتهم الجنسية، فإنها لم تتردد في طردهم جميعا تضامنا مع موقف سيدة شريفة، ثم تقول لعمار، لتؤكد له أن النقود ليست كل ما يهمها أنها تعمل دائما حسابا للخبز والملح، فهي ترعى حرائر البطنية اللواتي يكرمنها، ولا تتردد في طرد أزواجهن الذين يحومون حولها، ولكن الزوجات اللواتي يتعالين عليها، ويدعين غرورا أن أزواجهن لا يمكن أن ينظروا إلى مثلها فإنها تتحداهن أن يضعن علامة على نقود أزواجهن وسوف ترد هي لهن هذه النقود مرة أخرى حين تصل إليها!.

وإذا كانت تلك هي نظرة المعلومة إلى نفسها، فقد أحزنها كل الحزن أن يتوسط عمار عندها لكي ينقل لها رغبة الريطي في الزواج منها، وقد كانت مستعدة أن يكون ردها على هذه الرغبة أن تذهب بنفسها إلى الريطي لكي تمزق عنقه، وأنها لم تفعل ذلك إكراما لعمار فقط لأنه هو حامل هذه الرسالة!.

عمار:

ليس من أهل البطنية، لكنه من أبناء المنطقة، أتيح له من خلال مشاركة في بعض المؤتمرات بالخارج أن يلتقي بالعالم "سيمورند" الذي يدير مشروعا علميا يسعى إلى تقديم تفسير علمي لظهور أعراض وبائيه متشابهة في أوقات متفرقة، ومناطق مختلفة وبالتحديد في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذه الأعراض تتشابه مع أعراض أوبئة قديمة كانت تظهر في الماضي البعيد في المناطق نفسها، ويتصور العالم إمكان وجود فيروسات يمكنها الكمون لحقب أو أجيال إذا وجدت البيئة المناسبة لهذا الكمون، ثم تظهر حين تتوافر ظروف جديدة مناسبة لانبعاثها، وتجديد دورة حياتها، ربما بأعراض جديدة ومواصفات مختلفة، ولا يدري عمار هل كان قبوله للعمل في هذا المشروع نتيجة لاقتناعه بأفكار "سيمورند" أم بتأثير مساعدته الجميلة القادمة من الشرق الأقصى التي كان لها دور ملحوظ في تقديمه لأستاذها العجوز "سيمورند"، وفي تذليل كل الصعوبات التي كان يمكن أن تعترض قبوله لهذه المشاركة، وإذا كان عمار لا يمتلك رؤية واضحة لحقيقة دوافعه للعمل في المشروع فإن أهالي البطنية أنفسهم لم يكونوا يمتلكون أدنى فهم لما وراء الأسئلة التي يطلب منهم الإجابة عنها، ولا للهدف من العينات التي يطلبها من دمائهم أو بولهم وبرازهم، في الواقع كانوا مدفوعين للتعاون معه لما يلمسونه في شخصيته من جاذبية وطيبة، فهو من أبناء منطقتهم، وهو لا يتردد في تقديم المساعدة في أمور بسيطة جاذبية وطيبة، فهو من أبناء منطقتهم، وهو لا يتردد في تقديم المساعدة في أمور بسيطة وواضحة لهم حين يتعلق الأمر بصحتهم، إنه يقدم لهم المسكنات والمطهرات، ولذلك فهم يتعاملون معه باعتباره نوعا من طبيب القرية، ولم يكن لديه أدنى شك في جدية عمله إلى أن كشفت له "المعلومة" المسافة الهائلة بين المعلومات التي يقدمونها له وبين الحقيقة التي تعرفها، ولم يكن في الأمر أي قدر من سوء النية بل ربما كانت رغبتهم أحيانا في أن يحافظوا على صورتهم عنده كما يتمنونها، كما أنه كان من الطبيعي ألا يكون عندهم سوى هذه الابتسامة الخجلى يقدمونها له حين يطلب من مريض الضغط أن يتجنب الملح في طعامه، فكيف يوضح له ذلك المريض أن تنفيذ هذه النصيحة يعني أحيانا أن يأكل خبزا بلا غموس.

على أن أعظم درس تلقاه عمار في البطنية كلها كان على يد "بن سيدي رحيل" وهو رجل يأتي إلى القرية مرة كل عام في مواسم الحصاد، يأتي مع زوجته "للامولخير" وفرقته المتخصصة في الإنشاد والعزف والتمثيل، إنه مزيج من الولي الصالح والفنان، له قدرة مذهلة على اقتحام ضعف الناس ومخاوفهم بأن يبدأ بالكشف عن ضعفه هو ومخاوفه وخلافاته مع "للامولخير" إذ كيف يجوز لها أن تهجره في الفراش؟ أليس معنى ذلك أنها تتشبه بالرجال مما يعني قرب قيام الساعة!.

وحين ذهب "بن سيدي رحيل" إلى عمار في بيته ليزوره كما يزور جميع الناس في بيوتهم كان يقول له: لماذا لا توزع عليهم مع قوارير الدواء قوارير للضحك، إضحك يا أخي يضحك لك الناس فهم محتاجون أيضا إلى الضحك.

وإذا كانت "المعلومة" هي التي دقت أول مسمار للشك في ذهن عمار حول جدوى ومصداقية المشروع الذي يعمل فيه، فإن بن سيدي رحيل ربما هو الذي دق المسمار الأخير حين أعلن لعمار عن حيرته هو الآخر، فقد كان دائما يملك نوعا من القدرة على تهدئة مخاوف أهل البطنية، ولكنه لم يعد يجد ما يقوله لهم حين أصبحوا يسألونه عن موعد وصول الحفارات تحت أرضهم الجدباء لاستخراج المعدن النفيس! الأمر الذي قلب موازين "سيدي بن رحيل" نفسه!.

أمام كل هذه المتغيرات لم يجد عمار ما يكتبه في تقاريره للمساعدة الحسناء التي تعمل مع العالم الكبير بعد أن بثها حيرته سوى أن يبث أشواقه إليها وسوى أن يفكر وهو يجمع أوراقه وأدوات مشروعه استعدادا للرحيل عن البطنية، أن المسألة تستحق التفكير، لكن في عودة أخرى للبطنية من خلال مشروع آخر فيه شيء من معلومات "المعلومة" وبركات "بن سيدي رحيل" وخبرته هي التي خرج بها من هذه التجربة!.

ألسنا هنا من خلال هذه الشخصية أمام المفارقة ذاتها التي أبرزها توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف ويحيى حقي في قنديل أم هاشم؟ لكن بمنحى جديد وبمواجهة لمشكلات جديدة؟.

حميميد:

تلك هي الشخصية الرابعة التي اخترت أن أكتفي بتقديمها من شخصيات هذه الرواية الجميلة، وهي تنتمي في نشأتها إلى العالم الخفي في البطنية، وإن كانت تتطلع في طموحها إلى أن تتجاوز حدود البطنية كلها وإذا كان رجال البطنية الذين لم نتوقف عندهم كثيرا والذين يمثلون العالم الظاهر للبطنية، مثل الرماي والشيخ بلحاح وبناصر وعياش وزامورة وغيرهم، إذا كان هؤلاء جميعا قد استغلوا مناخ الحلم الذي يعيش فيه أهل البطنية، وهو الحلم بأن يظهر المعدن النفيس تحت أرضهم فراحوا يعتصرون آخر قطرة من دمائهم بحجة أنهم يسعون لهم لدى المسئولين لكي تأتي الحفارات للبحث عن المعدن تحت أرضهم التي أصبحت جدباء، إذا كان هؤلاء جميعا أصبحوا بلا عمل لهم سوى التفنن في بيع الأحلام الوهمية لأهل البطنية، فإن حميميد كان وحده الذي يحمل إمكان تقديم حلم حقيقي لنفسه ولبلده فهو يملك يدين سحريتين وخيالا متألقا، ولكنه بحكم نشأته التي تنتمي إلى عالم البطنية الغامض وقع في أسر نوع من الضعف لا قبل له بمواجهته فقد نشأ في البطنية لا يعرف له أبا ولا أما، احتضنته الخالة فاطنة العجوز المتوحدة، تقول للناس إنه ابن اختها الغائبة التي تنتظر عودتها.

وكان يكفي أن تكون له تلك النشأة الغامضة حتى تنسج البطنية حوله الأساطير، في المدرسة كان الأطفال لا يسمحون له بأن يشاركهم ألعابهم، ولم تجد الخالة فاطنة من طريق لعلاج شعوره بالضعة والدونية سوى أن تشتري له ألعابا خاصة لتعوضه عن اللعب مع الأطفال، كان قد أصبح كل ما لها في هذه الدنيا، فنشأ نفوراً من أهل البطنية، متعاليا عليهم مكتفيا بأن يعمل بيديه مع ألعابه.

وحين كان يذهب إلى المدينة للعمل.. كان يجد الوقت دائما ليزور مقبرة السيارات القديمة، وحين رأى في أحد المخازن هيكلا قديما لسيارة تعلقت أحلامه بهذا الهيكل وصمم أن يحقق من خلاله المعجزة التي لابد أن يقدمها لأهل البطنية لكي يعترفوا به وبعبقريته وعمل أسبوعين عند صاحب المخزن لكي يحصل على الهيكل الذي كان الرجل يفكر في طريقة للتخلص منه، ولكنه لم يجد مانعا وقد وجد معتوها يفكر في شرائه في أن يستغله في العمل لأسبوعين لكي يخلصه من هذا الشيء، وهكذا نشأت حول حميميد أسطورة الفكتوريا 39 وهو الاسم الذي أطلقه على ما يدعوه سيارته، ولم يكن بمقدور أهل البطنية أن يصدقوا أن هذا الشيء يمكن أن يصبح سيارة، ولكن لم يكن لديهم أي مانع مادام الأمر لن يكلفهم سوى الكلمات أن يتحدثوا مع حميميد بشأنه، وبشيء من الجدية على أن يدخروا سخرياتهم لحين خروجهم من المرآب الذي وضع فيه حميميد هيكل سيارته.. أما أطفال البطنية فكان لهم مع الفكتوريا 39 شأن آخر، فقد كانوا على أتم استعداد ليحلموا مع حميميد بسيارة المستقبل التي يمكن أن تقلهم على الأقل إلى البطنية الجديدة ليزهوا بها على زملائهم هناك.

إن المراحل الطويلة التي قطعها حميميد قبل أن يصل إلى مرحلة التجريب النهائي لسيارته وقبل أن يكتشف استحالة المغامرة، كانت هي نفسها المراحل اللازمة لكي يشفي حميميد من خوفه من أهل البطنية ومن تعاليه عليهم، وأن يقطع المسافة التي كانت تفصله عن شخص مثل عمار، وأن تكون قدرته على مواجهة عمار بخلل مشروعه هي المقدمة الطبيعية لكي يدرك أنه هو أيضا يمضي في طريق خاطىء، وأن يخفق قلبه بالجمال والحب لصفية ربيبة سي موح التي لم تكن سوى طفلة مثله مجهولة النسب رباها رجل أعمى كما ربته امرأة عجوز، ربما كان حميميد وحده هو الشخص القادر على أن يقدم حلما حقيقيا لأهل البطنية، لكن كان من الضروري أن يمضي طويلا على طريق الشوك والآلام وأن يدفع ثمن المعرفة.. المعرفة الحقيقية هذه المرة!.

الريطي أولا وأخيرا:

حادث القتل الذي وقع فجأة في أحد شوارع البطنية وفي ليلها الطويل، وخلف قتيلا ليس من أهل البلدة، ودفع بالشرطة للبحث عن قاتل مجهول، وانتهى البحث دون أن يجد دليلا على قاتل بعينه، دفعني إلى أن أتراهن مع نفسي على أن هذا الحادث مجرد حيلة فنية دبرها المؤلف ليتسلل من خلال تحقيقاته إلى عالم البطنية الخفي، ليكشف لنا عن المستور منه والذي لم تستطع المعلومة أن تكشفه، ولكن المؤلف جعلني أخسر رهاني مع نفسي حين كشف دور الريطي في هذا الحادث في آخر سطور الرواية، حيث قاد نصف دائرة من أهل البطنية ليس للكشف عن المعدن النفيس هذه المرة، بل للكشف عن ملابس القتيل حيث أخفاها، مما يؤكد علاقته بحادث القتل!.

ومما يتركنا وجهاً لوجه أمام هذه التساؤلات، هل الريطي هو الذي ارتكب الحادث؟ كما يوحي اعترافه الغامض؟ أم تعثر بالجثة ولكنه لم يفر هاربا ـ مثلما فعل غيره ـ إلى بيته وزوجتيه لأنه بلا بيت، فعرى القتيل من ملابسه وأخفاها ليكشف المستور في ليل البطنية الطويل، وهل كان ما فعله الريطي جزءا من انتقامه من أهل البطنية كلهم؟ أم من المعلومة، التي لم ترض به زوجا أو حتى زبونا؟ وترك لنا أن نبحث في عقل عبيط القرية عن دوافع معقولة أو مجنونة، أم إنه رسالة من المجنونة إلى العقلاء تقول لهم: إن هذا النوع من العقاب أو العدالة سوف يظل يمارسه أمثال الريطي الذين لا يعترف أحد بحقهم في المعدن النفيس أو في الكرامة؟!.

 

مبارك ربيع