ماتيس مستشرقا التقليدية بأسلوب الحداثة

 ماتيس مستشرقا التقليدية بأسلوب الحداثة

إن ماتيس الذي تنافس في التسعينات من القرن الماضي مع بيكاسو في المعارض والمتاحف العالمية والدراسات النقدية، يستحق اليوم إعادة قراءة لإبداعه وأثر الشرق فيه

ليس من باب الصدفة أن تكون معظم أعمال الفنان هنري ماتيس ذات الموتيف الشرقي الموجودة في متحفي "الأرميتاج" وبوشكين للفنون الأجنبية "روسيا" نظرًا لعلاقة الوثيقة التي قامت بين ماتيس وجامعي اللوحات الفنية الروس سيرغي ششوكين وإيفان مارزوف، حيث زار ماتيس روسيا عدة مرات بين عامي 1908 و1911.

وقد باع العديد من أعماله التي أنجزها بعد زيارته الأولى لروسيا لجامعي اللوحات الروس المذكورين، ومن أهمها جدارية "الرقص" 1910، "الموسيقى" 1910، إضافة إلى ثلاثيته المغربية: "منظر من النافذة، طنجة، زهرة على الشرفة"، "مدخل قصبة" 1913.

وقد أثرت هذه الأعمال بالذات إلى حد كبير في فنائي الحداثة والطليعتين الروس أوائل القرن، خصوصا بتروف فودكين وجماعة الوحوشيين والمستقبليين وغيرهم. إلا أن وجود هذه الأعمال الريادية في إبداع ماتيس المنبهر بحضارات الشرق "الفن الأيقوني البيزنطي والروسي والفن الإسلامي والهندي والصيني والياباني" في متاحف روسيا أوائل هذا القرن، حرم نقاد الفن المعاصرين لماتيس من رؤيتها ودراستها بوصفها دلالة على تفرد أسلوبه الفني وخصوصيته الاستشراقية، لذلك لا غرابة أن يحتفل الغرب بإعادة اكتشاف ماتيس واستشراق ماتيس عبر معارض تنتقل في عواصمه لتؤكد فرادته في القرن العشرين في الجمع بين روح الشرق وقيمته الجمالية وروح الغرب الحداثية المعاصرة، فضلا عن قدرة ماتيس على تجديد سحره الإبداعي على مسار حياته ككل وعبر مجمل محطاتها وأنواع التقنيات والأجناس الفنية التي شكلت محور زعامته الفنية لمدرسته المتميزة في حداثة القرن العشرين.

والإعجاب بماتيس لم يقتصر على الغرب فقط، إن عددًا كبيًرا من فنانينا المعاصرين كانوا مبهورين بماتيس ومتأثرين به، وعددًا آخر اكتشف جماليات الشرق وقدرتها في التأثير على الحداثة من خلال ماتيس.

لقد احتفظت أعمال ماتيس بجاذبية أعطتها شعبية عالمية من كل المثقفين والفنانين والجمهور العادي.

ويعود هذا لقدرته على فرادة أسلوبه الذي يجمع بين الوضوح في الرؤية واحتفاظه بعفوية فرح الطفل بالحياة وتفاصيلها. فلقد عمل طيلة حياته على تطوير نفسه وأسلوبه حتى امتلك ناصية التأليف والمساحة والأحجام حتى التبسيط البليغ، وقاد أوركسترا التناغم بين الخطوط والألوان ضمن سيمفونية زخرفية، إيقاعاتها متنوعة خصبة، تتناغم فيها الحيوية والسكون، الفرح الداخلي والتأمل، التكامل بين الإنسان والطبيعة، الحسي والصوفي. إنه بإيجاز مهندس الفضاءات الداخلية في وحدة ومناخ فني تشكيلي يبلغ الكمال في فرادة رؤيته وأسلوبه.

الجذور
نستطيع تلمس فرادة الحداثة المرتبطة بالشرق وقيمته الجمالية على اختلاف مصادرها ومعالمها عند هنري ماتيس، منذ تشكل جذور بنية فكره الجمالي والفني، أي حين جاء إلى باريس خريف عام 1891، ودخل محترف "أتيليه" الفنان غوستاف مورو عام 1895 حتى عام 1898.

فقد أسست السنوات الثلاث هذه معالم شخصيته ومصادر تكوينها المختلفة غوستاف مورو الفنان الغريب بأسلوبه الرمزي وموضوعاته الميثولوجية الشرقية بمعظمها، وثقافته عن الحضارات الشرقية والتحف، الأعمال الفنية الشرقية التي كانت تملأ محترفه، وإعجابه الكبير بديلاكروا واستشراقه، أثر في توجهات ماتيس النفسية والبصرية باتجاه جمالية الفنون الشرقية.

كما أن ماتيس في هذه الفترة - لم ينقطع عن التردد على متحف اللوفر ودراسة أعمال الفنانين الكبار أمثال: رافييل بوسان، ريسدال، كاراتش، بوشيه، فراغوناز واثو وشاردان وديلاكروا، وبالتالي تنامت لديه ثقافة فنية تجميعية في اللون والضوء والقيم والاهتمام بموضوعات الداخل والطبيعة الصامتة والعاريات والمحظيات. وفي هذه الفترة درس ماتيس في مدرسة الفنون التزيينية وارتبط مع أماركيه بصداقة عميقة واهتمام مشترك بالفنون الاسلامية والشرقية، وقرأ كتاب زميله بيو Piot "الذي درس معه في محترف مورو" حول ريشة "وألوان ديلاكروا" وآرائه حول نظرية اللون والضوء وأثر رحلة المغرب في تطورها. كما اطلع على كتاب بول سييناك الشهير "من ديلاكروا حتى الانطباعية المتأخرة" الذي نشره عام 1898 في مجلة ريفيو بلانش.

وقد قيض لماتيس أن يستفيد من حصاد القرن التاسع عشر الفني سواء في تنوع المدارس والأساليب المتجاورة الرومانسية والواقعية والأكاديمية والانطباعية وما بعد - الانطباعية، أو من انفتاح فرنسا على حصاد الحضارات الفنية العالمية، حيث أخذت تظهر الدراسات والأبحاث والكتب والألبومات أواخر القرن حول حضارات الشرق الفرعونية والإسلامية وحضارات الرافدين، والفن الصيني والهندي والياباني. وقد امتلأت متاحف فرنسا وصالات العرض الخاصة بنتاج حضارات المستعمرات الآسيوية والأفريقية، كما غصت الصالونات بلوحات المستشرقين والمنمنمات والأيقونات البيزنطية والروسية فما كان قد بدأته حملات الجيش الفرنسي على مصر والجزائر والمغرب وبلدان الهلال الخصيب أوائل القرن التاسع عشر، استفاد منه المثقفون والبحاثة والفنانون أواخر القرن التاسع عشر على صعيد المعرفة الفنية الشرقية وتقبلها بل والإعجاب بها وتبنيها في صياغة قوالب الحداثة.

إزاء هذا الحصاد الفني والمعرفي لحضارات المستعمرات الآسيوية والإفريقية كان الفنان الفرنسي يجد نفسه محاطا بروح الشرق نصًا وصورة وكان لابد من هضم واستيعاب واستثمار هذا الحصاد الغني في إبعاد أزمة الحضارة عن أوربا والاستفادة منه في التمرد على القوالب التقليدية والكلاسيكية في الفنون.

وما بدأه ديلاكروا ضمن هذا الإطار في القرن التاسع عشر، حيث استفاد من حصاد استشراق القرن الثامن عشر وحملة بونابرت وحملة الجزائر 1830 لتأسيس استشراق فني، يكون فيه الموتيف الشرقي بديلا حضاريا عن الموتيف الكلاسيكي اليوناني - الروماني القديم، أكمل ماتيس تطويره في صياغة حداثة معاصرة فبات الموتيف الشرقي ناضجا وأساسيا في بطانتها المعرفية نصًا وصورة.

وبالرغم من أن ماتيس عايش مخاض ولادة القرن الجديد وحتى منتصفه، رغم كثافة التيارات التجريبية الحداثية آنذاك من تكعيبية بشتى مراحلها والصفوية والدادائية والبنائية والفطرية والتجريدية حتى السوريالية. ورغم كثرة التكتلات والجماعات الفنية التي اقترب فيها أو تلاقى معها في موقف فني، اشترك معها في معارض وتحت شعارات الحداثة والحرية واللون الصافي، فإنه اهتم بفرادته وانكب على صقل رؤيته وتنقيته اللونية وثقافته الفنية مدركا أن كسر القوالب التقليدية والتمرد عليها، لا يكون برفضها بالمطلق، بل ببث دم جديد في أواصالها يجدد جاذبيتها، بعد أن استنفدت مختلف إمكاناتها التشكيلية الغربية. فانتبه إلى معين فني عميق الأثر والجذور على سحر غرائبي ملتبس، إنه الوافد الجمالي، الشرقي.

الوحي أتاني من الشرق
كان انبهار ماتيس بالشرق بداية، خلال معرض الفن الإسلامي في جناح مارسان عام 1903، حيث استوقفه وحدة القيم الجمالية الإسلامية في مختلف الفنون:

المنمنمات، السجاد، الخزف، الأواني، الحلي، النسيج، النحاس، الخشبيات، الأثاث والآلات الموسيقية، التي كانت تعبق بمناخ الأرابيسك والزخرفة بتنوعها اللانهائي ضمن وحدة قيم جمالية وفنية واحدة يتناغم فيها الخط واللون.

وفي عام 1906 سافر إلى الجزائر محاولا تحقيق النتائج والمؤثرات ذاتها في معاينة الأماكن التي سبقه إليها ديلاكروا والعديد من فناني فرنسا الذين رافقوا الجيش الفرنسي في حملاته العسكرية على الجزائر. وعاد ماتيس من هذه الرحلة مشبعا بالضوء الذي امتلك بصره وأعطاه زخمًا جديدًا في فهم علاقة الضوء باللون فأنجز لوحة "العارية الزرقاء" ولوحة "ذكريات من بيسكرا" 1907 ومنحوتة "العارية النائمة" 1907. وقد حددت هذه الأعمال المستقبل القريب والبعيد لتطور أسلوبه المنفرد في رؤية وخلق الموديل الفني الجديد ضمن فهم جديد لفضاء اللوحة، وربط مساحة الفراغ بخطوط مجمل سطوح البناء العضوي العام، نافيا تماما المفهوم المنظوري التقليدي أي الأبعاد الثلاثة، مكتفيا بالبعدين، متنقلا كليا إلى أسلوب الأرابيسك الذي يملأ كل السطوح بزخرفة قوامها رشاقة ومرونة الخطوط وحدة وصفاء اللون، متعمقا في عالم الإدراك الحسي - البصري.

لاحقا حاول ماتيس أن يبلور خاصية أسلوبه التزييني القائم على التناغم بين اللون والخطوط، وكانت الصورة تتحول تدريجيا بين يديه إلى قطعة أربيسك، أنيقة، مغزولة بفرح اللون والحياة، الأمر الذي لازمه حتى نهاية حياته عام 1954.

ألوان الغرب
في عام 1911 سافر ماتيس إلى المغرب وأقام فيها مدة، ثم زارها مرة ثانية عان 1912. وكان لهاتين الزيارتين الوقع البارز في تطور مفهومه للون، وتجدر اهتمامه بالموتيفات الشرقية وأسلوب الأرابيسك، ونستطيع أن تربط أهمية زيارة ماتيس للمغرب باكتشافاته اللونية التي ميزت لوحاته المغاربية ونظريته اللونية عمومًا. فقد طور ماتيس ما كان قد اكتشفه ديلاكروا في المغرب "أثناء زيارته لها عام 1832" حول أهمية اللون الأخضر وتدرجاته اللامتناهية في طبيعة المغرب المشبعة بالشمس والاهتمام باللون البنفسجي في لوحة "زهرة الأكانشيا 1912". وكذلك اهتمامه بمعالم الطبيعة والبيئة المغربية. فقد ترك العديد من اللوحات والرسوم التمهيدية أو التخطيطية التي تناول فيها نماذج من النباتات والأزهار والأشجار والمناظر الطبيعية المغربية، والعمارة وأدوات الزينة والديكور والقماش والسجاد والعادات والطقوس ونمط الحياة اليومية. وباتت المفردات المغربية تزين العديد من لوحاته على سبيل المثال "إناء زهور أزرق على شرشف أزرق" 1912، متحف الفنون العالمية باسم بوشكين - موسكو "باقة ورد على الشرفة" 1912، "حديقة مغربية"، "نخلة" 1912 متحف بوشكين - موسكو.

الموتيف المغربي في أجناس فنية متنوعة
فتحت المغرب أمام ماتيس نافذة حقيقية على طبيعة ونمط حياة المجتمع الإسلامي، وكل ما يراه في معارض الفن الإسلامي المتنقلة في أوربا، عاينه بذاته. واستطاع لاحقا الإفادة من هذه المعاينة المباشرة للقيم الجمالية والفنية والاجتماعية الإسلامية في العديد من الأجناس الفنية التي طرقها في حياته الإبداعية: البورتريه - المنظر الطبيعي، الداخل، العاريات، الطبيعة الميتة، ولعل من أبرز أعمال ماتيس المستوحاة من المغرب ثلاثيته المغربية الشهيرة "منظر من النافذة في طنجة، زهرة على الشرفة، مدخل قصبة" والتي تشكل مرآة حقيقية لأسلوبه المتجدد والمتميز بين معاصريه من شتى المذاهب والتيارات الفنية أوائل القرن. فقد وضع ماتيس خلاصة روحه الفنية التواقة إلى أسلوب هندسي - بصري جديد، قوامه خلق وهم الفراغ عبر تواصل خطوط سطح اللوحة، حيث تتصل الأرض بالجدران وبالسقف في تناسق لوني واحد فتختفي فيها الخطوط العامودية والأفقية وفق علم المنظور، فاسحة المجال لتوحد الشخصية في المكان، فتبدو الأشياء وكأنها مسطحة ومسمرة في الفراغ.

وقد بدا جسد زهرة الجالسة على سجادة وكأنه آلة دافعة تعمل باتجاه خلق التوازن الحيوي. وبهذه الطريقة في بناء اللوحة ينتمي ماتيس كرسام كبير إلى تقاليد الفن التي تعتبر الجسم الإنسان قوة توازن حيوي "مايكل أنجلو، تنتوركو، بلايلو، هوكيساي وغيرهم". ويصور ماتيس شخصياته المغربية وفق قانون الجبهية الذي يحتم أن تبقى ملتصقة بالجدار في حال جمود تخدم الفكرة التزينيية فقط.

ويلاحظ أن ماتيس غالبا ما يربط حضور شخصياته في اللوحة بالألوان. إما بألوان ملابسهم، أو بألوان العناصر التزيينية التي تزين أرضية أو خلفية اللوحة. فاللون بالنسبة له تعريف بالعناصر والأشياء والمخلوقات الموجودة في الطبيعة. لأن كل مادة تحمل خصوصيتها في البناء التشكيلي بقيمتها اللونية. وحضورها اللوني المكثف، خصوصا وأن ماتيس جدد في استخدام لعبة الضوء واللون فهو لم يخضع اللون لقانون الضوء، ولا يترك مجالا في بناء اللوحة لمصدر واحد للنور، فالنور ملازم للون، طالع منه، مشع به، وكلما رق اللون وظهر فاتحا وشفافا رمز إلى مصدر الضوء على سبيل المثال، المثلث الزهري الفاتح في أعلى الزاوية اليسرى من لوحة "زهرة على الشرفة".

تعتبر لوحة "المغاربة 1916" المتحف الوطني للفن الحديث نيويورك من روائع أعمال ماتيس. يقوم بناء لوحة "المغاربة" على أجزاء ثلاثة، كل جزء يرمز إلى عنصر وجود مغربي، فالجزء الممتد من الجهة اليسرى إلى أعلى إنما يمثل نمط العمارة المغربية وفق أسلوب التجريد، بينما يمثل الجزء السفلي من الجهة اليسرى نفسها أنواع النباتات والفاكهة المغربية، ويظهر في الجهة اليمنى مجموعة مغاربة يؤدون الصلاة، جمع ماتيس عناصر الطبيعة والعمارة والإنسان في وحدة متناغمة ليقدم صورة مكثفة وتجريدية قادرة على الإيحاء بوحدة التناغم الجمالي والأخلاقي للإنسان المغربي تذكرنا بعالم من المنمنمة الإسلامية من حيث الموضوع. وقد تزاوجت في أسلوب ماتيس الوحوشية والتجريدية والخطوط الهندسية المائلة إلى التكعيبية. وخلافا للوحاته المغربية السابقة فقد سيطرت الخطوط والأشكال الهندسية التجريدية وعلى فضاء اللوحة، مستخدما الألوان الباردة والباهتة الدائرية "الأزهار الورقاء في الإنارة، قبب الجوامع، البطيخ الأصفر، رؤوس المصلين".

المحظيات والعاريات
من أكثر الموضوعات شيوعا في حياة ماتيس الإبداعية - خصوصا في العشرينيات - موضوعات الحريم والمحظيات. وقد صور ماتيس معظم موديلاته في نوع العاريات بمظهر الجواري والمحظيات الشرقيات على خلفية ديكور شرقي مترع بالأرابيسك والزخرفة "الستائر، السجاد، الأرائك، الزينة، الأزهار وغيرها". ويلاحظ أن نموذج المرأة الشرقية قد طغى على معظم موديلاته بدءًا من "العارية الزرقاء" إلى "ذكريات من بيسكرا" 1912، ومرورًا بلوحة "الجواري" 1928.

ولقد اعتبر الجمهور آنذاك موضوعات الجواري والعاريات بروح شرقية من أنجح أعمال ماتيس لكونه أكثر من تعاطيها طيلة حياته الإبداعية وللتنويعات التي أضافها عليها. وقد طور ماتيس ما كان قد بدأه "أنغر" في موضوع "المحظيات" و"الحمام التركي" وديلاكروا في العشرينيات من القرن التاسع عشر وشاسريو في الأربعينيات. حيث وضع الفنان الشرقي موديله في فضاء من الزينة الداخلية شرقي بحت تمثلا بعوالم الخدور والقصور والجواري الشرقية، ويعزي اهتمام الفنان الأوربي بصورة الجارية الشرقية بالميل إلى الحسية والمتعوية التي انتشرت في عصر الركوكو إثر زيارة الفنانين الأوربيين للبلاط العثماني في القسطنطينية، وتسجيلهم وتصويرهم لحياة الحرملك فيها. حيث باتت المحظيات وسيدات المجتمع الفرنسي آنذاك يرسمهن الفنان الفرنسي بزي الشرقيات "خاصة مدام برمبادور"،وقد ترك بوشيه وفراغونار وغيرهما العديد من اللوحات بالمناخ والديكور الشرقي تمثلاً بحياة الدور والقصور الشرقية آنذاك.

وغالبا ما كان الفنان الأوربي يملأ محترفه بمقتنيات من الأثاث والزينة الشرقية - خاصة ماتيس - ليضع موديله في عالم زخرفي - تزييني "سجاد وأنسجة وستائر وأوان وتحف" لكي يحصل على صورة مقاربة لصورة المحظية الشرقية.

ولقد طور ماتيس في محظياته ما بدأه أسلافه وفقا لروح العصر والحداثة والذوق الفني السائد في فرنسا أوائل القرن العشرين. فنراه في لوحاته هذه يهتم بخلفية الموديل وبزخرفة مترعه بالأرابيسك تحيط بها "الأرض، الستائر الجدران، وكل تفاصيل الديكور" مبتعدا عن الاهتمام بالموضوع نفسه أي المرأة، حيث تبدو معالم جسدها غائمة وكذلك ملامح وجهها إيحائية، تجريدية أكثر منها حقيقية ودقيقة. لأن ماتيس كان يرغب بإيحاء المناخ الشرقي التزييني وإبراز قدرته في الأرابيسك واللون، وهما خاصيتان قادتا كل إبداع ماتيس الاستشراقي فهو كان يعتبر "أن اللون والأرابيسك ميزا أنغز وديلاكروا وكذلك جوجان وفان جوخ". لذلك طور ولعه باللغة الجمالية والزخرفية الشرقية حتى باتت بعض لوحاته عبارة عن فضاءات مماثلة تماما للمنمنمات، والأرابيسك واللون أكثر من الاهتمام بالشخص أو الموضوع.

البورتريه بالزي الشرقي
أعاد ماتيس البريق لفن البورتريه بالزي الشرقي، فأنجز العديد من البورتريهات لسيدات فرنسيات بهذا الزي نذكر منها "السيدة بالقفطان الأحمر" 1937، مجموعة روزنبرغ نيويورك، وبورتريه "إيلينا" في عام 1937، مجموعة خاصة، بذلك يكون ماتيس قد أدخل البورتريه ذات الموتيف الشرقي حيز الحداثة، فقد كانت موضة تصوير الشخصيات الأوربية إلا أننا نلاحظ مع ماتيس أن السمات الفردية للشخصية المصورة تراجعت أمام السمات الاحتفالية - التزيينية والزخرفية، حيث طغى المظهر الشرقي في الزي والزينة العامة وتفاصيلها أي الديكور والخلفية بطريقة الأرابيسك الذي يقوده اللون. فتبدو النساء بالزي الشرقي في حالة وجوم وتأمل واسترخاء في فضاء مفعم بالأبهة وروح الأرابيسك والحيوية التعبيرية للفن الزخرفي الشرقي المنطلق من مهارة لونية تلعب دور الخط "خصوصا في الأثواب المقلمة والجدران والأرائك والسجاد وغيرهما. لقد حقق ماتيس بولعه اللوني وروح الزخرفة موقعا رياديا في فن البورتريه الاستشراقي في القرن العشرين وفي الحداثة معًا. واقترب بأسلوبه من خصوصية الفن الزخرفي الإسلامي "خصوصا في البورتريه" حيث لا يعطي الوجه وقسماته أهمية كما في العصور الفنية السابقة، بل يهتم بهندسة الفضاء العام لبناء اللوحة مبتعدًا عن البعد الثالث، مكتفيا بالتسطيح والأرابيسك وقوة اللون وجاذبيته.

موقع ماتيس
بما أن الموتيف الشرقي قد احتل موقعا أساسيا في إبداع ماتيس، فإن سؤالا يطرح نفسه حول أهمية موقع ماتيس في الاستشراق الفني في القرن العشرين، بعد أن غزا الاستشراق الفني الفرنسي بقوة وتنوع شمل كل التيارات والمدارس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

إن مجمل الموضوعات الشرقية التي استهوت ماتيس كانت امتدادا للموضوعات التقليدية التي كرسها فنانو عصر الروكوكو والعصر الرومانسي الفرنسي في فن المنظر الطبيعي، البورتريه، الطبيعة الصامتة والداخل، صور الحياة والبيئة، العاريات، وكذلك الاهتمام بخصائص القيم الجمالية في فن العمارة والطبيعة والإنسان والفنون التزيينية والطباع والطقوس والخصوصية الاجتماعية والأخلاقية. حيث إن الأجناس الفنية بقيت هي ذاتها منذ العصر القديم في فن التصوير، ولكن طريقة التعاطي معها كانت تختلف من عصر آخر ومن فنان لآخر. فماتيس لم يأت بجديد على صعيد الموضوع أو الجنس الفني، لكنه اتبع أسلوبا تجديديا أدخل الاستشراق حيز الفن الجديد والحداثة بالعودة إلى التسطيح والاستغناء عن البعد الثالث واعتماد الزخرفة الأرابيسك ووضوح اللون وكثافته، والأهم من ذلك هو بناء تكوين حديث الاستشراقية، يقوم على ذات المفاهيم المعتمدة في فن الزخرفة والأرابيسك وفن المنمنمات الإسلامية، وهو يقوم - أي البناء - على اختزال مكثف وبليغ لوحدة المناخ الجمالي العام، يحاكي الفكر الجمالي الإسلامي في التسطيح والعربسة والتجريد وتكامل اللون والنمط، وتضافر الفراغ والامتلاء.

ويكون ماتيس بذلك أبرز من استفاد من بنية الفكر الجمالي الإسلامي في الشكل والمفهوم، وبالتخلي عن علم المنظور وكسر طوق القواعد الكلاسيكية الفنية الأوربية في صياغة حداثة القرن العشرين، وبالتماثل مع الآخر بنية ومفهوما، ما شكل قفزة نوعية في الاعتراف والتبني التام لمفاهيم الفن الإسلامي، قياسًا على العصور السابقة في الاستشراق الفني.

 

زينات البيطار