السجاد الفارسـي: وقائع الدهر منسوجة بخيوط ملونة

السجاد الفارسـي: وقائع الدهر منسوجة بخيوط ملونة

تصوير: طالب الحسيني

كانت جيوش الفتح الإسلامي تنطلق في بلاد فارس مثل سهم ماض لا يقدر أحد على إيقافه! تحطمت عروش الأكاسرة! وفر الأساورة! وسقطت المدائن ووقف القائد المنتصر سعد بن أبي وقاص وحيدا في إيوان كسرى الخالي! يتأمل آثار الذين انهزموا ودانت دولتهم وبادت سطوتهم. وللمرة الأولى شهد الإيوان رجلاً يصلي ثماني ركعات متصلات لا يفصل بينها! ثم نهض وفتح خزائن كسرى! كانت النفائس التي فيها تفوق الوصف ويعجز الرجل الذي عاش طوال عمره في الشظف أن يتصورها! وكان كل ما فعله أنه جمعها وقسمها إلى أسهم بين جنوده! ثم قسم بيوت المدائن وقصورها بين قادته! ثم جمع الخمس ليرسله إلـى الخلـيفة عمر بن الخطاب ووضع فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر من ثياب كسرى وحليه وسيوفه.

وصلت الغنائم إلى المدينة وهي تحمل صورة غريبة وباهرة عن ذلك العالم الراقد خلف الصحراء! عالم الحضارات القديمة الذي طالما حلموا به ولكنهم لم يتصوروا مدى فخامته! ولكن عمر لم يتأثر كثيرا! كان زاهدا لدرجة الكفاف! فرق كل الغنائم على مستحقيها! ولكن بقيت واحدة منها مستعصية على التقسيم! سجادة طولها ستون ذراعا في مثلها! جاءت مباشرة من قاعة العرش الرئيسية التي كانت تحتلها في إيوان كسرى! متداخلة الألوان لحد فاق الدهشة! كأن كل بلاد فارس مصورة خلال نسيجها! الأرض مبسوطة فيها تتداخل فيها خيوط من الذهب والصوف الأخضر وتشقها أنهار من الفضة! وتحيط بها سماوات صافية الزرقة فيها نتف من السحب وأسراب من الطيور وكواكب تتأهب للبزوغ! أما حافتها فقد نسجت فيها فصول الدنيا الأربعة! زهور من عبق الربيع! وجداول تتدفق فرحا بالصيف وشذرات خريفية من ورق مذهب! وثلوج ناصعة كالروح من برد الشتاء.

تأمل عمر السجادة في حيرة! تحسس النسيج الناعم! لم يتصور أن يوجد إنسان يمكن له ان يطأ بقدميه هذا العالم المتداخل حتى ولو كان كسرى نفسه! لم يدر ماذا يفعل به! ولم يحلم يوما بامتلاك هذا الشيء! وقال له من حوله! احتفظ به يا أمير المؤمنين! فليس لنا أمير إلا أنت! وليس هناك بيت أحق بهذا البساط إلا بيتك! وظلوا يلحون عليه حتى نهض ووقف على السجادة! أحس أنها تفصله عن الرمل الذي تعود دوما أن يقف عليه! الرمل الذي أحيانا ما يكون ساخنا! وأحيانا ما يكون باردا! ولكن لهذه السجادة ملمساً واحداً لا يتغير. نسيج من عالم خاص! يحيطه ويعزله! للحظة أحس عمر أن بيته فقير وثيابه خشنة وطعامه قليل! شعر أنه قد قتر على نفسه وعلى الآخرين وان انتظاره الطويل للفردوس السماوي ما كان يجب أن يحرمه إلى هذه الدرجة من الفراديس التي يمكن أن توجد على الأرض! أحس أنه متعب من سنوات المعاناة الطويلة! وأنه بعد أن أصبح أميرا وراعيا ومسئولا! يحق له أن يلتقط أنفاسه قليلا! نظر إلى الوجوه التي حوله وهي تبارك وتهلل! وكان بينها وجه مختلف تماما! يبرز أمامه كأنه قادم من ظلمة الضمير الخفية! كان هذا وجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتقدم نحوه وهو يقول :( يا أمير المؤمنين! ليس لك في الدنيا إلا ما أعطيت أو لبست أو أبليت أو أكلت أو أفنيت! وإنك أن تبقه اليوم على هذا لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس به ) وأحس عمر بالخجل من لحظة الضعف العابرة! وقال موافقا :(صدقتني ونصحتني)! وأمر الناس فأخذوا السجادة من أمامه وقسموها إلى قطع صغيرة فرقها بين الجميع! وعادت قدما عمر تقفان مرة أخرى على الرمل الساخن والبارد.

وداعا (حبيبيان)

ولكن يبقى للسجاد الفارسي سحره وفتنته! وقد رأيت جزءا من هذا السحر على يد واحد من أشهر صناع السجاد في العالم! كان هذا أثناء زيارتي الأولى لإيران! عندما حملتني السيارة فوق طريق طويل من أصفهان إلى بلدة نائين التي لابد وأن اسمها قد اشتق من موقعها النائي! فهي راقدة وسط جبال تتمزق فوق قممها السحب السوداء! كانت الطبيعة من حولنا متجهمة! ويبدو أن صانعي السجاد يقيمون عالما سحريا من الألوان والنباتات والزهور تعويضا عن قسوة الطبيعة التي تحيط بهما! كان حبيبيان مازال على قيد الحياة! يجلس مثل حكيم عجوز قال كل ما في داخله باللون والخيط! وأفرغ كل ما في داخله شحنات من الفن والجمال ومهر بإمضائه المئات من الأبسطة التي تحتل معظم متاحف العالم! أخذ حبيبيان يفرد أمامنا آخر السجاجيد التي أصر على الاحتفاظ بها وقال لي هامسا : كنت أريد أن يكون هذا الفرش معي حين أموت! أمنية صعبة أن تغمض عينيك على آخر معالم عالمك الذي نسجته أنت بأناملك! تأملت الألوان وهي تتوالى أمام عيني! تداخلت خيوط الصوف الداكنة مع خيوط الابريسم البيضاء! كأن كائنات الطبيعة الحية تتحرك فوق الأرضية البيضاء التي يهواها حبيبيان كثيرا! كان يريد العالم صفحة بيضاء يعيد تشكيله على هواه! تأكد لدي هذا الإحساس بعد أن زرت واحدة أخرى من أشهر أماكن صنـع الـسجـاد هـي مـدينة ( كرمان) التي تحيط بها صحراء الملح من كل جانب ومع ذلك حفل سجادها بجنان من الزهر والنبات. إنه نوع من التعويض عن فقر الطبيعة المحيطة! إخراج كل ما في النفس من غابات وجنان دفينة.

يتحدث حبيبيان إلينا ويده لا تكف عن لمس السجاد وتحسس خيوطه في حنان بالغ! يفصح دون أن يدري عن مدى تلك الرابطة التي تربط السجاد بصانعيه. أقول له : ألست حزينا لأنك بعت كل هذا العدد من السجاد الذي صنعته؟ يجيب : كلما بعت سجادة أكاد أبكي ولكن كان يجب أن أعيش ! وهذه هي مشكلتنا جميعا! فصانع السجاد هو أقل واحد يكسب منه! فلا شيء يوازي أيام العمل الطويلة منكفئا على النول! ولا شيء يعوض غياب البصر يوما بعد يوم ولا تلك الجروح المتوالية والصغيرة التي تشوه أيدي الصبايا! إنه جمال باهظ الثمن. يقص على حبيبيان ذكرياته مع شاه إيران! أو بالأحرى رجال الشاه! فقد تعود الشاه كلما قام عظيم بزيارة إيران أن يكلف حبيبيان قبلها بصنع سجادة فاخرة لتقدم هدية له! ولكن أعوان الشاه معتمدين على بطشهم وتسلطهم لا يدفعون له شيئا! أو ربما دفعوا له الثمن القليل! وظل هو صابراً وخانعاً طوال تلك السنوات إلى أن حانت لحظة التمرد! وكان ذلك عندما قرر الرئيس الأمريكي (كارتر) أن يقوم بزيارة إيران! وهي الزيارة التي قال فيها إن إيران هي جنة الأمان في الشرق الأوسط ولم يدر أنه كان يقف حينها فوق بركان متأهب للفوران. صدرت الأوامر لحبيبيان أن يقوم بصنع سجادة فاخرة لتقديمها إلى الرئيس الأمريكي الذي كان يعرف بدوره مدى قيمة السجادة التي تحمل توقيع حبيبيان! ولكن الأخير رفض! حاول رجال الشاه إرهابه وتهديده ولكنه ظل صلبا! كان قد أعد لهم قائمة طويلة بكل المبالغ التي سلبوها منه وأصر على أن يأخذ نقوده كاملة قبل أن يضع خيطا واحدا في سجادة الرئيس الأمريكي! واضطر رجال الشاه صاغرين لدفع كل النقود وأخذها حبيبيان وبنى بها مستشفى مجانياً مازال موجودا ليعالج كل أهالي نائين.

الجمال الخالص

أشكال حبيبيان تنتمي لنوع من الجمال المجرد! جمال يسمو عن عدد العقد وتراتبها وتكرار وحداتها! ولكنه أشبه بمحاولته لنظم كل الأشياء المبعثرة وإعطائها نوعاً من التنسيق الخفي يمتزج فيه الشكل بخلاصة الروح ! فقيمة الفن التي احتار الفلاسفة في معرفة كنهها هي ذلك الأثر الذي يحدثه العمل الفني في نفس المتلقي! فالموناليزا ليست فقط رمزا لذلك الجمال الخالد الذي تجسد ذات لحظة من الزمن ولكنها تحدث نوعا من الرابطة الروحية تثيرها في نفس مَن يتأملها! كأنها تقيم نوعا من العلاقة السرية بين المتلقي والعمل الفني! والسجادة إذا لم نعتبرها فنا خالصا فهي بالتأكيد مزيج من كل الفنون! من الرسم والنحت والعمارة! تراها وتحس بملمسها! كما أن صناعها هم خليط من الرسامين والصباغين والنساجين! يتجمع عملهم في النهاية ليكون عملا ثلاثي الأبعاد! ويبدو هذا بشكل خاص في السجاجيد التي تصور الأشخاص! إن كل عناصر الفن التي تجعله شكلا جذابا! مثل اللون والتوازن في الشكل والنعومة في الملمس والانسيابية في الحركة والقرب من الطبيعة والمهارة الفائقة والقابلية للابتكار في الصناعة اليدوية! كلها تظهر نفسها قي السجادة! ومما لا شك فيه أن أكبر الأسباب التي جعلت فن السجاد يظل باقيا عبر كل العصور هو ارتباطه بالعديد من الحاجات الروحية! فقد كان دائما خارجا عن المألوف في الحياة العادية. إن حبيبيان يقول لي في النهاية ناصحا : (إن ما يحدد قيمة أي سجادة هو التصميم! اللون! والخامات! والمشكلة أن العامل الأخير هو أهم هذه العوامل لأنه يعتمد في الأساس على الاستثمار المادي وهو أمر من الصعب توافره أحيانا لنا كأفراد! المشكلة أنك تحس بالوحدة فلا يمكن أن تفكر في الفن وأنت مشغول بفرز الصوف طوال الوقت! لو كان الوقت قد توافر لي لملأت متاحف العالم بلوحات من السجاد).

خلاصة التاريخ الإيراني

كل شعب كتب تاريخه بطريقته الخاصة! فالبعض نقشه على جدران من الصخر! والبعض كتبه على ألواح من الطين! وحفره البعض على الخشب! وفي متحف السجاد أتيح لي أن أعرف كيف كتبت إيران تاريخها! لقد نسجته بملايين من الخيوط الملونة فوق أنوال خشبية بأنامل مرهفة كانت في أغلبها لعذارى وبنات لم يبلغن الحلم ! تاريخ بكر ومرهف ومليء بالشجن! عشرات النماذج من السجاد تضمها جدران المتحف وتحتوي على خلاصة التجربة الإنسانية فوق هذه الأرض! لوحات بانورامية دقيقة تكشف عن تلك النفس المفعمة بالحب والحزن والتوق إلى الامتزاج بكل عناصر الطبيعة التي تحيط بها ! إيران بجبالها ووديانها مبسوطة أمامنا عبر ملايين الخيوط! رعاة الجبال وشذاذو الآفاق! ملوك في لحظات النشوة والصيد! عشاق يشربون من كئوس لا تروي ولا تنفد! لحظات من الحب اقتنصها النساجون وجمدوها على الخيوط! دراويش في لحظات من الوجد! أبطال الفردوسي! خرجوا من صفحات الشهنامة واكتسبوا نفحة من عبق الخيط واللون! أبيات من أشعار سعدي وحافظ! رباعيات عمر الخيام! حكمة وطيش وعشق وألم! فصول السنة الأربعة! بيوت وقصور وقرى متواضعة! جوار وحرائر! أحوال الطقس وتقلب الفصول! كل شيء! وجد له مكانا على خيوط السجاد.

ورغم كل ذلك فإن أهم قطع السجاد الفارسي ليست موجودة في هذا المتحف! بل إن القطع التي تؤكد تاريخ إيران وتمكنها من ناصية هذا الفن موجودة في متاحف أخرى بعيدة! في بطرسبرج وفيينا ولندن ونيويورك! فالعديد من قطع السجاد القديمة والنادرة قد أخذت من داخل إيران في فترات زمنية مختلفة! وحتى وقت قريب كان هناك اعتقاد أن هذا الفن ليس له ذلك العمر الطويل الذي يوازي التاريخ الحضاري الضارب في القدم لإيران وإنما وفد إليها من آسيا الوسطى عندما حكمت القبائل السلجوقية ذات الأصل التركي كل هذه المنطقة! أي أنه في أحسن وأقدم الأحوال يعود للقرن الرابع الهجري! ويبدو أن الإيرانيين أنفسهم قد خضعوا على مضض لهذا الافتراض مدة طويلة خاصة أنه لم يكن لديهم من السجاد ما يؤكد عكس ذلك! ورغم أن العديد من الباحثين مثل (موري أيلاند) حاول أن يعقد نوعا من المقارنة بين نقوش السجاد والنقوش الأخرى الموجودة في الآثار السيسانية التي تدل على الحضارة الفارسية القديمة إلا أن الحاجة إلى دليل مادي يؤيد كل هذه الافتراضات ظلت معدومة.

في عام 1949 كان الأثري الروسي سيرجي رودنكو ينحدر فوق أحد منحدرات ألتايا وسط جبال سيبريا الثلجية عندما اكتشف أحد القبور القديمة داخل مغارة نائية! وفي داخلها عثر على قطعة من السجاد القديم كانت مطمورة في الثلج منذ أحقاب طويلة وهذا هو ما حافظ على تماسكها! لقد تم تحديد عمرها بأنه يعود إلى 2500 عام! وكان هذا هو أهم اكتشاف في تاريخ السجاد! فهي تنتمي إلى عصور التاريخ السحيقة وبالتحديد إلى الحضارة الإخمينية التي كانت تسود بلاد فارس! وقد أطلق عليها (البازريك) نسبة إلى القبر الذي اكتشفت فيه! وتم حفظها في متحف الأرميتاج في مدينة بطرسبرج! وهي مكونة من نسيج فاخر مقارنة بعصرنا الحالي! وقد أكدت هذه السجادة الافتراضات النظرية التي كانت تقول إن عمر فن السجاد لا يقل عن ثلاثة آلاف عام! وعقد الباحثون مقارنة بين النقوش الموجودة على السجادة والنقوش الموجودة على تخت جمشيد وهو واحد من أهم الآثار الاخمينية الموجودة في مدينة برسبوليس التي كانت عاصمة فارس القديمة.

ورغم أن السجادة قد فقدت بعضا من نسيجها ألا أن خصائصها الفنية ظلت موجودة! ففي الوسط توجد مربعات من النقوش التي تحتوي على النباتات الفارسية التي طالما زينت أبهاء القصور! يحيط بها مربع من الفرسان راكبي الخيول وكلهم ينظرون إلى الجانب الأيسر! وهذه أيضا سمة أساسية في الرسم الفارسي القديم! ورغم أن هذه السجادة هي الدليل الوحيد الذي تناهى إلينا من هذه العصور الموغلة في القدم فإن آثار هذا السجاد موجودة بشكل أو بآخر في ملاحم الشعراء القدامى! فقد ذكر الشاعر الإغريقي (هوميروس) أن الفرس كانوا يهاجمون بعربات مغطاة بالسجاد القرمزي! حتى إذا سال دم محاربيهم لم يلحظ أحد ذلك! وذكر المؤرخ زينوفون أنه شاهد سجادة فارسية كانت تباع في الأسواق بما يوازي 38 رطلا من الفضة.

ثم يحدث الانقطاع في تاريخ السجاد الإيراني بعد ذلك لفترة تاريخية طويلة كأنه لم يوجد قط! فمن بعد البازريك لا تظهر إلا سجادة أخرى هي أردبيل التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي! ومن قبل كان يعتقد أنها أقدم سجادة معروفة حتى تم اكتشاف (البازريك)! وتعد (أردبيل) علامة حية على بداية العصر الذهبي الذي ازدهرت صناعته مع بزوغ نجم الدولة الصفوية! فهذه السجادة التي وجدت في قبر الشيخ صفاء الدين ! موجودة الآن في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن! وهناك العديد من سجاجيد هذه الفترة متناثرة في بقية متاحف العالم! وتعتبر فترة العصر الذهبي هي فترة الملوك الصفويين الأوائل! وكانوا مهووسين بالبناء! وأنشئت في عهدهم العديد من القصور والمساجد ومراكز العلم واحتاجت جميعها إلى سجاد يزين أرضياتها! كما أن انفتاح إيران على العالم الخارجي ووفود العديد من الأمراء والتجار عليها قد جعلا عملية إهداء السجاد إلى ملوك أوربا عملا دائما! ويعد اكتشاف أوربا لمواطن الجمال في هذا السجاد أشبه باكتشافها لطريق البهار! وقد كان فنان هذه المرحلة هو الصانع (رضا عباسي) الذي انتشرت السجاجيد التي تحمل توقيعه في أسواق فينسيا وجنوه! كما انتشرت التصاميم الفارسية المميزة مثل المحرابي والجنمازي والجولداني والتي كانت تعد أفضل التصاميم.

أشهر شركة في العالم

في شارع ولي عصر الذي يعد الشارع الرئيسي في العاصمة تهران! بل ويعد واحدا من أطول وأجمل الشوارع في إيران كان موعدنا مع المسئولين عن شركة فرش إيران! لقد كانت هي البوابة التي دخلنا منها إلى عالم السجاد الرسمي والمنظم! لنرى عن قرب واحدة من أكبر وأشهر شركات السجاد اليدوي في العالم.

كانت البداية هي ذلك الاجتماع الرسمي الذي ضم رئيس الشركة والعديد من أعضاء مجلس إدارتها! والاجتماعات في إيران ذات طابع مميز! فهي تمتاز بالألفة والحميمية! ولا يمكن أن تدخل مكاناً مهما بلغت درجة الرسمية فيه إلا وتقدم أطباق الفاكهة الطازجة والحلوى الإيرانية والمشروبات المتعددة! وفور أن تنتشر الأطباق والمعالق يسري سحر الطعام ويصنع جوا من الألفة بين الجميع! وفي كل الأحوال يتحول الاجتماع إلى فرصة للتآلف الإنساني ويسود فيه طابع آسر لا يمكن أن تجده في أماكن أخرى! وربما يريد الإيراني بهذا القرب السخي أن يعبر المسافة التي يمكن أن تفصل بينك وبينه بأي سبب من الأسباب! لقد جربت العديد من الاجتماعات الرسمية في أماكن أخرى في العالم وكان أقصى أمنية لي أن تنتهي فور بدايتها ولكن الأمر مختلف هنا! فالحواجز تزول! بما فيها حاجز اللغة! وتسري في الأجواء دائما لغة خفية يفهمها الجميع.

كان في انتظارنا السيد (قندها) المدير العام لشركة السجاد الإيراني الذي قال: (نحن نهتم بواحدة من أقدم الصناعات التي عرفها البشر! إن عمرها الآن حوالي 2500 سنة وفقا للأبحاث التي قام بها المستشرق (سييل إدوارد) ونشرها في كتابه عن السجاد الفارسي! ورغم أن شركتنا أنشئت في عام 1935 كأحد فروع شركة الهند الشرقية فإنها سرعان ما انتقلت إلى السيادة الوطنية وأصبحت أضخم شركة في العالم تهتم بهذا النوع من السجاد! لقد حافظنا على نفس النمط الإنتاجي الجديد! أي أن الصناع مازالوا يقومون بالنسج داخل بيوتهم! وقد قمنا بالعديد من التجارب لجمعهم في مكان واحد واكتشفنا أن هذه هي الطريقة المثلى! فالسجاد كان هو دوما النشاط الثاني للإنسان الإيراني! فالفلاح بعد أن يعود من حقله! والفتاة بعد أن تعود من مدرستها! وربة البيت بعد أن تنهي أعمالها يجلسون جميعا إلى الأنوال! ووفق الإحصائيات فإن هناك حوالي 2.2 مليون أسرة تمارس هذه المهنة في كل أرجاء إيران في الوقت الحالي! وإذا حسبنا أن متوسط الأسرة يتكون من أربعة أفراد فيكون العدد الفعلي للذين يشاركون في هذه الصناعة من 8 إلى10 ملايين.

والسجاد الفارسي يستهلك في معظمه خارج إيران! فيتم تصدير حوالي 80% من إنتاجه! وشركة سجاد إيران تمتلك وحدها 43 فرعا في كل العواصم الغربية! وقد ساهمت بجهد واضح في رفع مستوى صناعة هذا السجاد عن طريق اختيار المواد الأولية المناسبة وتشتمل على الصوف والخيوط القطنية والحرير! وكذلك التقليل إلى أقصى حد ممكن من الاعتماد على المواد الكيميائية في الصباغة والاستعانة بالمواد النباتية! كما أن هناك نوعاً من التجديد المستمر للرسوم والتصاميم! ويعمل لحساب شركة سجاد إيران حوالي 214 ألف حائك وهي تنتج وحدها من 60 إلى 70 ألف متر سنويا! وتقوم الشركة أيضا بصناعة السجاد حسب الطلب ووفق أي مقاس يطلب منها! وقد أتيح لي خلال زيارتي لمدينة (كرج) التي تبعد حوالي 30 كيلومترا من تهران أن أشاهد أجزاء من أضخم سجادة في التاريخ تقوم الشركة بصناعتها حاليا! ويبلغ حجمها 5 آلاف متر كاملة وهي تعد لفرش مسجد السلطان قابوس الجديد الذي يتم تشييده الآن في مسقط! وقد تم تقسيم السجادة إلى 32 قطعة! أكبر قطعة فيها هي التي سوف تغطي وسط المسجد وتبلغ مساحتها 1200 متر مربع! وبدأت الأعمال التحضيرية لنسج هذه السجادة العملاقة منذ عام 1998 في منطقة نيسابور بخراسان! وهي منطقة يتميز السجاد الذي تنتجه بغلبة الطابع الديني عليه نظرا لوجود مقام الإمام الرضا في مشهد! ويقوم على حياكتها حوالي 550 شخصا! وقد تم الانتهاء من معظم مراحلها ولم تبق إلا مراحل الصقل والتشذيب وتبلغ تكلفة هذه السجادة 6 ملايين دولار.

وليست هذه هي السجادة العملاقة الوحيدة! ولكنها الأكبر حجما بالتأكيد! فهناك طلب من السعودية لصناعة واحدة أخرى حجمها 2500 متر تكون على شكل دائرة! وأخرى بنفس الحجم تقريبا مطلوبة للكويت ويتم تصنعيهما في منطقة (كرمان).

إنها رحلة طويلة على المرء أن يقطعها حتى يتتبع كل مراحل السجاد التي تنتشر في كل المدن الإيرانية! وقد كان من المدهش أن تكتشف أن تلك الأبسطة الني تطؤها الأقدام تستلزم كل هذا الجهد المضني! ولو كانت كل الأعمال تقاس بالجهد المبذول فيها لوجب علينا أن نعلق كل قطع السجاد على الجدران وأن تكتفي الأعين بمطالعتها لا أن تدوسها الأقدام حتى ولو كانت عارية. ففي منطقة (كرج) شاهدنا المرحلة الأولى التي يمر بها صنع أي سجادة! حيث تتجمع عشرات الأطنان من صوف الأغنام في أكوام كبيرة تنبعث منها روائح الدم والعطن! وتجلس إليها مجموعة من النسوة يقمن على فرز أنواع الصوف في صبر وأناة! ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الغسل الجيد بواسطة الماء والصابون حتى يتحول الصوف إلى كتل متوهجة وشهباء! يتم غزله إلى خيوط رفيعة! ثم تأتي مرحلة الصباغة! والمواد التي تستخدم في الصبغ قادمة بدورها من مفردات الطبيعة الإيرانية! فيدخل فيها قشر الجوز والرمان وأوراق العنب! والعديد من النباتات الجبلية التي تنتج حبوبا ملونة! بل إن هناك بعضا من الحشرات الملونة التي تدخل في هذا الخليط! وفي كشان وهي البلد الأشهر في صناعة السجاد شاهدت مرحلة أخرى! وهي مرحلة وضع التصميم المناسب لكل سجادة وتطوير التصاميم القديمة! كان هناك عشرات من الفنانين الذي يعكفون الأيام الطويلة على رسم هذه المنمنمات المختلفة! يخرجون فيها كل مشاهد الطبيعة التي اختزنوها في ذاكرتهم والتي حلموا بها! ولم يعد الأمر يخضع لمجرد الموهبة الفطرية ولكن كلية السجاد التي أنشئت في كاشان منذ عام 1996 - وهي تمنح شهادة البكالوريوس في صناعة السجاد - أصبحت تخرج أجيالا من المتخصصين في كل فروع هذه الصناعة! وهي تمكن المتخرج فيها من تمييز أنواع السجاد ومعرفة الأنواع الجيدة من الرديئة! كما أنه يدرس تاريخ السجاد واقتصادياته! ثم يتخصص في فرع من الفروع مثل الحياكة! أو الصباغة! أو الترميم! أو تجميل السجاد بعد انتهائه! وقد شجع نجاح هذه الكلية على افتتاح فروع أخرى لها في أشهر المناطق التي تصنع السجاد مثل تبريز وأصفهان وبلوشستان وكرمان. وتميل ألوان السجاد الكاشاني إلى الألوان الداكنة وأشهرها الأحمر العتيق الذي يصنع من مركبات اللبن بعد خلطها بأنواع معينة من النباتات! كما أن نساجي كاشان يستخدمون أنواعا معينة من العقد تختلف عن المناطق الأخرى! ويقومون بقص السجادة أولا فأولا في كل مرحلة من مراحلها! والمدهش أن الفنانين في كاشان كانوا يحاولون دائما الخروج عن المألوف وعمل تصميمات جديدة! ولكن الإقبال على الأشكال الجديدة كان دائما ضعيفا! فالزبائن قد تعودوا على أشكال ثابتة للسجاد الكاشاني ولا يريدون تغييرها! ولا يمكن اعتبار كاشان منطقة خصبة! فصحراء الملح تحيط بها من كل جهة! ولكن المدينة هي هبة لعين ماء لا تكف عن التدفق في كل أرجائها! وقد أقيم حول هذه العين واحدة من أجمل الحدائق في العالم هي (غين فين), ويقال إن الشاه إسماعيل الصفوي قد غضب على كبير مهندسيه أمير كبير! فأمر بقتله! وكان الأخير واحدا من أبرز المعماريين الذين شهدتهم إيران ومازالت بصماته موجودة على العديد من الأبنية الأثرية في أصفهان! ولكن كما كان يحدث دائما لا مرد لغضب الشاه! وقتل وتم اغتيال أمير كبير وأحس الشاه بالندم بعد ذلك! فأمر بإقامة قبر له وحوله هذه الحديقة الغناء التي كانت تعبيرا عن ندم لا يفيد. وهناك حوالي 500 أسرة تعمل في نسج السجاد في المدينة! كذلك هناك 500 أسرة أخرى تعمل في الضواحي التي تحيط بها! ومن خلال هذه الأسر الألف اكتسبت المدينة سمعتها! وعندما ذهبت إلى واحد من هذه البيوت كان رب الأسرة ساخطا لأن الناس لم تعد تقدر الفن الجيد ولا تكافئه! وكان منكفئا هو وزوجته وبناته في قبو المنزل على نسج سجادة رائعة الجمال! وكان يعلق على الجدار شهادة تقديرية حصلت عليها زوجته بوصفها أفضل نساجة في المدينة! وكانت الشهادة بطبيعة الحال منسوجة من الخيوط! ورغم الاعتراض فقد قدموا لنا عصير الليمون البارد وسمحوا لنا بتصوير أنامل بناتهم الرقيقة وهي تواصل النسج رغم ما فيها من جروح. أما في أصفهان مدينة الجمال الذي لا يضاهى! والسحر الذي لا يتصوره بشر! المدينة التي أعشقها كلما أراها وكأنها رؤيتي الأولى لها! فهي ليست نصف العالم كما يطلق عليها! ولكنها عالم قائم بذاته. في هذه المدينة الفريدة يأخذ السجاد تألقه من طبيعتها المفتوحة ومن تموجات نهر (زاينده رود) الساحر الذي يشقها! والجسور التي تهبط من أي مكان منها لتلمس مياهه الباردة. إن السجاد هنا يتخلص من الألوان الكاشانية المعتمة! وتتداخل فيه خيوط الحرير البيضاء ممتزجة مع صوف الخراف صغيرة السن حتى تكتسب السجادة نعومتها التي تشبه ملمس العذارى. وتصاميم السجاد مقتبسة من أشكال القيشاني الذي يغطي جدران المساجد! وهي تشتق في معظمها من شكل أزهار العباسي التي توجد على ضفاف النهر! ولعل الذي يشاهد مسجد (لطف الله) وهو أجمل مسجد في العالم على الإطلاق! والذي يغطي القيشاني كل جزء منه! يدرك منبع هذا الجمال الذي يتجلى في كثير من الأشكال! كما أن السجاد يأخذ شكله من ساحة الألعاب التي تحتل قلب المدينة القديم حيث كان الشاه يقوم وهو وحاشيته بلعب كرة الصولجان وهم يركبون الخيول! ويقوم بنسج السجاد في أصفهان النساء والبنات فقط ولا يشارك فيها الرجال! ولا ينتهي الأمر بعد نسج السجادة وقصها! ولكنها تحتاج بعد ذلك إلى مرحلة طويلة من العناية! ففي مصنع (حكيم داووي) في أصفهان شاهدنا المراحل الأخيرة من هذا التشطيب! ! ويتم فيها حرق سطح السجادة أولا! ويتم الحرق بمهارة! بحيث يأخذ الخيوط الزائدة ويترك الأصلية! وهي طريقة معتمدة للتأكد من النوعية الجيدة من السجاد! لأن النار لا تؤثر في السطح الخارجي للسجاد الأصيل! بعد ذلك تأتي مرحلة شد السجادة وربطها بواسطة الأثقال حتى تنتظم أطرافها وتصبح كلها في مستوى واحد وكذلك تصبح أبعادها واحدة! بعد ذلك تأتي مرحلة الغسل والكي! ويتم الكي بمكواة ضخمة وساخنة حتى تصبح كل خيوطها في مستوى واحد.

هذه هي الرحلة الطويلة التي تمر بها أي سجادة حتى تأخذ لقبها وسمتها كسجادة عجمية أصيلة! وهي رحلة جديرة بالتوقير والاحترام! وهي تستنزف الكثير من الجهد والعرق مما يجعلنا نتساءل: لماذا اختار الإيرانيون وقبلهم أجدادهم من الفرس هذه الطريقة الشاقة للتعبير عن أنفسهم؟ والجواب أن هذا كان وسيظل ثمن التميز.

نسيج القبائل

من فارس حاولنا أن نتتبع أثر السجاد الذي تصنعه قبائل لا تكف عن الرحيل! واحدة منها كانت قبائل القشقائي الغريبة التي تعيش في ظلال جبال (زاجروس)! وهي قبيلة غريبة الأطوار بالنسبة لنا على الأقل! ففي الوقت الذي أصبح البشر فيه أكثر ميلا للاستقرار وللتمسك بقطعة ضئيلة من الأرض! يتصارعون عليها ويموتون من أجلها! نجد أن هذه القبائل لا تملك سوى الفضاء الرحب! وأرض الله الممتدة التي لا تحدها حدود! وهم مازالوا يعتمدون في تنقلاتهم التي لا تهدأ على الخيول والجمال والحمير! يدورون في دورات متصلة كمدارات الأفلاك! في الصيف يصعدون إلى الأماكن الباردة وفي الشتاء ينحدرون نحو المناطق الدافئة! يرتقون الجبال ويعبرون الأنهار ولا يتوقفون إلا لدفن موتاهم ثم يرحلون سريعا فلا وقت للبكاء. إنهم نوع من البشر أشبه بالغجر الرحل! الذين لا يملكون شيئا ومع ذلك يملكون كل شيء! ولكنهم أقل شراسة من الغجر! وحتى الآن فقد عجز علماء الأنثروبولوجي عن تفسير تلك الرغبة الجامحة في الرحيل المستمر! ففي كثير من الأماكن التي يذهبون إليها توجد بقاع كثيرة صالحة للاستقرار! وهي قبائل مسالمة ـ بعكس القبائل الرعوية الأخرى ـ لا تعتدي ولا تتصارع فيما بينها! كما أنهم لا يهربون من عمل الزراعة الشاق! ففي المناطق التي يستقرون فيها لعدة أشهر يمارسون الزراعة لتوفير احتياجاتهم الغذائية لبقية العام! ولكنها رغبة الرحيل العارمة كأن البراري لا تكف عن ندائهم! وحتى نقترب منهم إلى أقرب نقطة ممكنة كان يجب أن نرحل إلى (شيراز)..

قضينا ليلتنا الأولى في شيراز! مدينة الشعر دون أن نسمع غناء البلبل الذي تغنى به حافظ! ولكننا شممنا أريج بستانه! وفي مقام شاه سيراج تسنى لي أن أشاهد بعضا من إبداعات الفن الإيراني! ففي هذا المقام الديني الذي يضم رفات شقيق الإمام الرضا تتجمع كل إبداعات الفن الإيراني! والزوار لا ينقطعون من حول المقام المغطى بالبللور! وترتفع الدعوات مختلطة بنشيج البكاء! كما أن شيراز المثقلة بالتاريخ هي التي شهدت مجد فارس! فبالقرب منها يوجد تخت جمشيد أو مدينة بريسبوليس التي تحتوي على العديد من الآثار الفارسية! معابد وهياكل وأوابد تحولت إلى شواهد حجرية تحكي قصة هذه الحضارة التي صمدت أمام الإغريق والرومان قبل أن تذوب في الإسلام. أما في قلب شيراز نفسها فيوجد قبرا أشهر الشعراء على مر العصور! قبرا سعدي وحافظ اللذين امتزجت في داخلهما الثقافتان العربية والفارسية وكتبا باللغتين معا! وقبر سعدي هو بستان حقيقي كالذي تحدث عنه في أشعاره والأهم من ذلك أنه مزدحم بالناس! والعشاق منهم على وجه خاص! الذين يدورون حول القبر ويقرأون له الفاتحة ويبتهلون بالدعاء حتى تطول لحظات الحب النادرة ولو قليلا! ولكن الحب كطائر نادر قليلا ما نلاقيه! نادرا ما نبقيه! ولكن النفس التواقة للجمال لا تستطيع أن تمنع العين من التجول في أبهاء المكان لمشاهدة كل صنوف القيشاني التي تغطي جدرانه! نكتشف بعدها أن هناك منبعاً واحداً للجمل! منه استقى باني المسجد ومشيد القبر وصانع الخزف وناسج السجاد! وحدة متكاملة من النفس المليئة بكل كنوز الطبيعة! تخرجها جميعا في إشارات ورموز تتجلى واضحة في تلك النقوش التي تبدو في كل مكان! إنه نوع من الجمال الفطري تام التنسيق الذي ينزع دون وعي إلى كمال من الصعب اقتناصه.

وبالقرب من حدود المدينة تحل قبائل القشقائي في الربيع من كل عام. حملتنا السيارة عبر سهل ضيق تحيط به الجبال من كل جانب إلى منطقة حسن آباد حيث مازالت تمتد خيام هذه القبائل! الأطفال يلعبون! والرجال يمارسون العمل في قطعة صغيرة في الأرض أما معظم الشباب فقد كانوا في المدينة المجاورة يمارسون أعمالا مؤقتة توفر لهم بعضا من كلفة الرحيل! بسطوا لنا الكليم الملون وقدموا لنا نوعا من اللبن المخضوض! ولكني كنت مشغولا بتأمل الألوان الصاخبة للكليم الذي نجلس عليه! كان فيها شيء فطري ولكنه تام التنظيم! مزيج من العفوية والقصد! امرأة عجوز جالسة بالمغزل التقليدي في يدها وهي تلف خيطا طويلا من الصوف! تتحدث ولكنها لا تكف عن الغزل تصنع البداية التي لا بد منها حتى تنتج كل ما نراه من أنواع السجاد القشقائي من سجاد وكليم وجبه! ! ومن الغريب أن القشقائيين! ما إن ينصبوا خيامهم حتى ينصبوا أنوالهم أيضا وهي أنوال مستوية مع الأرض وليست منتصبة مثل بقية الأنوال الأخرى في أرجاء إيران! وتنكفئ الفتيات عليها من مشرق الشمس مستغلين كل قطرة من الضوء! وكل فترة من الراحة يقضونها قبل الرحيل الجديد! وهم يملكون طاقة لونية هائلة تتجلى في ملابسهم وخيامهم! وفي تلك البسطة التي يقومون بنسجها يضعون كل مشاهد رحلاتهم الطويلة من جبال وأنهار وطيور وغابات! المستقر الوحيد لهم هو على السجاد. وطن بحجم النول الخشبي.

واصلنا الرحيل جنوبا! أصبحت الطرق أكثر ضيقا والحرارة أعلى! كنا نغوص وسط جبال زاجروس الوعرة! لا يستوقفنا إلا المزيد من خيام القبائل الإيرانية لنجد قبيلة أخرى هي قبيلة البشاري! أحد الفروع الآرية التي بالغت في الانحدار جنوبا! إنهم أناس الريح كما يطلقون عليهم! فهم مثل القشقائيين لا يكفون عن هوس الرحيل ! ففي كل عام يقوم حوالي نصف مليون رجل وامرأة وطفل وما يرافقهم من حيوانات الرحيل! يتسلقون القمم العالية لجبال زاجروس التي تتوازى في ارتفاعاتها أحيانا مع جبال الألب السويسرية! بحثا عن أماكن أكثر دفئا. وسط عشرات من هذه القرى الجبلية المتفرقة تنتشر واحدة من أكبر صناعات الكليم اليدوي في العالم! وقد تم رصد حوالي 25الف عائلة يعملون في صنع السجاد! في منطقة فيروزأباد ذهبنا إلى واحدة من أقدم معامل صباغة الصوف! واستقبلنا (داريوش جلالي) الذي كان يعمل في هذه المهنة من 42 عاما! وقد ورثها عن أبيه وأجداده! وهو لا يستعمل فيها أي نوع من المواد الكيمائية ولكنه يصعد عاليا إلى جبال (جاشير) في المناطق الباردة ليجمع العشب الجبلي وعروق الروناس وقشر البندق والرمان ليصنع طائفة من الأصباغ لا تتأثر ولا تزول بفعل الشمس والزمن! وهو يعتز بصناعته لدرجة أنه يمتلك سجادة قامت عائلته بصباغة أصوافها منذ 300 عام! قال لي وهو يمسك حفنة من العشب الأخضر (شم عبق هذا العشب إنه يبقى في السجادة لعشرات الأعوام).

وعلى الطريق إلى (جاكسران) تتناثر عشرات القرى! بعضها فقير إلى حد مدقع! يسكنها عرب وترك ولور! العديد من الأعراق المختلفة التي يضمها النسيج الإيراني! مصدر دخلهم الوحيد والمعتد به هو السجاد! وهم ينتظرون التجار من العام للعام حتى يأتوا لهم بخيوط جديدة وقروض بسيطة تعينهم على مواجهة الحياة! والطبيعة القاسية هنا تجعلهم يخضعون لكل ما يفرضه عليهم التجار. ففي كل بيت من هذه القرى توجد بنت تحلم بالزواج! وخلاصها الوحيد هو أن تظل عاكفة بعيدة عن ضوء الشمس لتواصل النسج دون هوادة! ومعظم البيوت بلا رجال فهم يسعون في مدينة (جاكساران) الغنية بالنفط وفرص العمل! أو يتوهون في مناكب الأرض الواسعة! أما باقي المقيمين في القرى فهم يعتمدون على الكليم في معيشتهم ويبنون عليه أحلامهم. وقد حاولت الدولة التدخل في الأمر وإنقاذهم من براثن التجار بأن تعطيهم الخيوط وتستلم منهم هذه الأكلمة نظير أجر معقول! ولكن الحاجة إلى العيش كانت دوما أكبر من إمكانات الدولة! ومن المدهش أن يولد كل هذا الجمال من وسط هذا الشظف! ومن المدهش أيضا أن تلك القطع الفنية التي تعلق على الجدران في أوربا وأمريكا تنتج في بيوت جدرانها عارية وينصب فيها الأهالي أسرتهم الحديدية في ساحات البيوت ليناموا عليها تحت ندى الليل والسماوات المفتوحة.

مع كل سجادة يبذل هذا الجهد المضني! فهي لا تستنزف ما في الأرض من خامات فقط! ولكنها تستنزف عشرات الأعمار! وكلها أعمار لفتيات صغيرات يخرجن من العمل مشوهات الأيدي من كثرة الجروح التي أصابتها! إن السجاد فن جميل وقاس! ودوسه بالأقدام يمثل إهانة كبيرة لكل الجهد البشري الذي بذل فيه! والنقود التي يتحول إليها لا توافيه قدره. لقد انتهت الرحلة ولكن هذا التاريخ الجميل المنسوج بخيوط ملونة لم ينته.

 

محمد المنسي قنديل

 
 




السجاد الفارسي





"البازريك" أقدم سجادة في التاريخ .. موجودة في متحف بطرسبرج وتحمل رسوماً ساسانية قديمة.





سجادة أردبيل، موجودة في متحف فيينا، وهي ثانية أقدم سجادة في تاريخ السجاد الفارسي، وتعود إلى العصر الصفوي.





أولى مراحل صنع السجاد، تنظيف الصوف وتحويله إلى شهب بيضاء.





خيوط من الصوف تتجمع في لفات منفصلة قبل أن تبدأ عملية الصباغة.





الأصواف تتجمع هنا من كل مكان ليعاد فرزها وتصنيف جودتها.





صباغة خيوط الصوف تستمد عناصرها الأساسية من نباتات الطبيعة ومعادنها دون أن تدخل فيها الكيماويات.





صخب من الألوان الحادة تتحول على أيدي صناع السجاد إلى منمنمات فنية دقيقة.





تصميم السجاد يستمد بذوره الأولى من التراث الفارسي والحكايات الشعبية.





بصبر ودأب وباستخدام كل عناصر اللون يعيد المصمم تشكيل السجادة.





التصميم المصغر للسجادة الضخمة التي يبلغ حجمها 5 آلاف متر.





العمال يحملون قطعة من أكبر سجادة في العالم.





القطعة الوسطى من السجادة العملاقة التي أعدتها إيران لمسجد السلطان قابوس في عمان.





من هذه الأبنية وتلك النقوش استمد مصمم السجاد عناصره الأساسية.





بازار أصفهان القديم حيث تعرض أروع آيات السجاد والحرف اليدوية.





خيام القبائل القشقائية، تنصب ثم ترفع من أجل الرحيل إلى مكان آخر. شعب لا يكف عن الرحيل.





رحلة دائمة وراء الماء والدفء يقوم بها كل القبائل القشقائية ما إن يحلون في مكان حتى تبدأ الحياة.





ابتسامة ما بين رحيل ورحيل.





هذه السيدة مازالت تحافظ على التقاليد القديمة وتقوم بيدها بغزل خيوط صوف السجاد.





أنوال السجاد نائمة على الأرض حيث تواصل العذارى نسج أحلامهن ليلا ونهاراً.





المراحل الأخيرة في إعداد السجادة وصقلها بواسطة تلك المكواة الضخمة.





حقائب من السجاد اليدوي، جمالها من نوع آخر.





السجاد .. لوحات من الفن الأصيل. خسارة أن تدوسها الأقدام.