مآذن بعيدة عن العمار إبداعات شعبية إسلامية

مآذن بعيدة عن العمار إبداعات شعبية إسلامية

تعالوا نتوغل في صحارينا العربية، نتجول بعيداً عن العمران، في ذلك القفر العظيم. لنرى كيف تعامل الفنان الشعبي المسلم بتلقائيته مع المئذنة - كعنصر معماري - كيف صاغها وزيّنها وجعلها باقية ممتدة ومتطورة وترك لنا - ومازال - تلك الثروة المعمارية الشعبية العظيمة والمتنوعة، والمنتشرة بعيداً على الطرق.

المئذنة هي أحد العناصر المعمارية، وهي ابتكار عربي أصيل، تطور كعنصر إسلامي معماري لم يتوقف الأخذ به إلى الآن، وبلغ مرحلة عظيمة من التطور والمتانة والرقي والتأنق. ونستطيع أن نرى ذلك في كل عواصم الدنيا الإسلامية وغير الإسلامية. كما أنها أهم عنصر معماري يعطي للمسجد شخصيته المميزة.

كان جامع البصرة هو أول ما بنى المسلمون من عمارة دينية خارج شبه الجزيرة العربية (41 هـ = 638م) وكان مسجداً بسيطاً عبارة عن مساحة من الأرض محاطة بخندق بدلاً من الجدران. وأقدم الإشارات في المصادر والمراجع العربية عن المآذن هي رواية البلاذري التي تقول إن والي العراق زمن معاوية بن أبي سفيان قد بنى مئذنة لجامع البصرة عند إعادة البناء وهو الأمر الذي شكك فيه معظم المؤرخين، وعلى رأسهم المستشرقون. أما ثاني الروايات عن بناء المئذنة فقد جاءت بعد رواية البلاذري بحوالي أربعة قرون ونصف تقريباً. حينما ذكر ابن دقماق أن والي مصر مسلمة بن مخلد (47/62 هـ) بنى أربع صوامع بأركان جامع عمرو بن العاص بمدينة الفسطاط. الذي هو أول المساجد في مصر، بناء على أمر من الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ثم جاء المقريزي. وأورد خبراً حول المعنى نفسه، وإن كان قد زاد عليه، أن هذه الصوامع الأربع، كانت تقليداً لصوامع المعبد الروماني القديم في مدينة دمشق.

الموقع كان معبداً وثنياً، شكله شبه منحرف، وكان عبارة عن حوائط خارجية، ومن الداخل به رواق مغطى بظلة، وكان هذا الرواق هو المعبد نفسه. وعرف هذا المعبد باسم Payan. وتوجد في أركانه، أربعة أبراج، بواقع برج في كل ركن، وكل برج بارتفاع عشرين مترا تقريباً، وكانت ذات مسقط أفقي مربع، وقد وجدت بعض الكتابات الإغريقية على المدخل الغربي، مازالت موجودة للآن تدل على أنه كان في هذا المكان كنيسة قامت في أحد الأوقات. ومن الروايات الشائعة: أن الفتح الإسلامي لمدينة دمشق، قد تم بواسطة جيشين أحدهما من الشرق، بقيادة أبا عبيدة بن الجراح، وآخر من الغرب بقيادة خالد بن الوليد، وقد اقتحم الجيش الشرقي المدينة عنوة. في حين أن الجيش الغربي قد اتفق مع الأهالي على التسليم. والتقى الجيشان في منتصف الكنيسة، ولذلك فإن الجزء الذي فتح عنوة قد سقط في أيدي المسلمين، وفق قاعدة الحروب آنذاك، ولذلك فقد تحوّل الجزء الشرقي من الكنيسة إلى مسجد. أما الجزء الغربي منها وهو الذي سقط صلحاً فقد بقى كنيسة، وبقيت كل الكنائس في الجزء الغربي، وكان عددها حوالي 14 كنيسة للمسيحيين، واستمر هذا الوضع حتى زمن الخليفة الوليد بن عبدالملك، ولما فكر في عمل مسجد جامع في دمشق، فاوض المسيحيين لشراء الجزء الخاص بهم. ولما تم له ما أراد، وتمت إجراءات الشراء أقام على منطقة المعبد القديم بالكامل (وكان مخترباً) مسجده الجامع، وهو المعروف باسم المسجد الأموي، وترك الأبراج الأربعة التي في الأركان، ويقال إن هذه الأبراج كانت أول مآذن في الإسلام (ولذلك الموضوع جدل واسع سنعود إليه). ويقال إنه قد تم استخدام هذه الأبراج لرفع المآذن فوقها. ويوجد الآن 3 مآذن، اثنتان منها فوق البرجين الجنوبيين هما مئذنة السلطان قايتباي، على البرج الجنوبي الغربي وهو الوحيد الذي مازال أصلياً للآن، وتعرف أيضاً باسم المئذنة الغربية. أما التي أقيمت فوق البرج الجنوبي الشرقي فتعرف باسم مئذنة عيسى، وهي تعود للقرن 14م.

أما الثالثة، فهي في منتصف الحائط الشمالي، وتعرف باسم مئذنة العروس وهي من أواخر القرن 12م، ويعتقد المقدسي أنه كان في هذا الموقع مئذنة قديمة (قبل الحالية) وأنها قد بنيت زمن الوليد.

أبراج أم مآذن
وإذا كان افتراض مؤرخي العمارة الإسلامية أن هذه الصوامع هي أولى المآذن كما سبق أن أشرنا. وكان هذا الافتراض قد قام اعتماداً على رواية ابن الفقيه (عام 291هـ) والتي قال إنها كانت تستخدم للمراقبة زمن الرومان. بينما قال المسعودي في مروج الذهب (332هـ) إنها كانت تعلو قليلاً عن سطح الجامع. وهو الأمر الذي دفع - المرحوم الدكتور فريد شافعي أستاذ العمارة الإسلامية في جامعة القاهرة - إلى القول إن ارتفاع هذه الأبراج كان قليلاً ولم يكن مناسباً أو صالحا للأذان من فوقها في مدينة كبيرة مثل دمشق. ويرى أيضاً أن الحكمة من إبقاء هذه الأبراج كان لبناء المآذن فوقها حتى يمكن الحصول على الارتفاع المطلوب للمناداة على الصلاة. ورجح تهدم قمم هذه المآذن الأولى بفعل الزلازل. وأضاف الدكتور شافعي بكل ثقة أن إطلاق صفة (صومعة) على هذه الأبراج إنما كان المقصود به هو المئذنة والبرج معاً. ولكي يزداد الأمر وضوحاً، فإن الدكتور شافعي يعتبر واحداً من أفضل العلماء المسلمين في هذا المجال. وهو تقريباً الوحيد من بين العلماء الذي لم يشكك في رواية البلاذري عن مئذنة جامع البصرة، فمن وجهة نظره أنها قد أنشئت في زمن قريب من زمن إنشاء صوامع جامع الفسطاط (البصرة أنشئت عام 45هـ والفسطاط عام 53 هـ) والاثنان في خلافة معاوية، ويرى عدم معقولية أن يأمر الخليفة ببناء صوامع الفسطاط فقط دون أن يشمل ذلك جامع البصرة أيضاً. أي أن الخليفة مادام قد أمر ببناء المئذنة هناك، فلابد أن يكون الأمر شاملاً لكل أقطار الدولة العربية الإسلامية وقتذاك. ويرى الدكتور شافعي أيضاً أنه مادامت الرواية الأقدم منسوبة إلى البلاذري، فهو الأحق باعتماد روايته دون تشكيك. فهي رواية سبّاقة، ومن المعروف أن ابن دقماق والمقريزي قد نقلا روايتيهما عن ابن عبدالحكم الذي يعتبر أقدم مَن روى خبر صوامع الفسطاط. ونقلا أيضاً عن ابن المتوج الذي توفي قبل ابن دقماق بخمسين عاماً (البلاذري توفي عام 245هـ = 859م، ابن عبدالحكم توفي عام 257 هـ، أما ابن دقماق فقد توفى في نهاية القرن الثامن الميلادي، بينما توفي المقريزي بعد ابن دقماق بحوالي 35 سنة تقريباً).

الوالي بشر بن صفوان بنى مئذنة جامع القيروان في تونس بين عامي (105/109 هـ) وجاءت عمارتها بخصائص عربية صريحة وناضجة ولا يمكن نسبة أي من عناصرها المعمارية إلى أي من الطرز قبل الإسلام إلا العقد (القوس) على شكل حدوة الحصان. ويعتبرها الكثيرون أقدم مثل للمآذن باقيا للآن على أساس الأدلة التاريخية، أما لو أخذنا بالأدلة المعمارية التي تعود بالبناء إلى عام (221 هـ/836م) فإنه يسبقها منارة قصر الحي الشرقي بالشام والتي يؤرخ لبنائها عام 110 هـ. ولذا فمئذنة القيروان تقلب نظرية اقتباس المآذن من مصادر سابقة على الإسلام عند المستشرقين رأساً على عقب.

عروبة المئذنة
عموماً فإننا لا نرغب في الدخول في إثبات عروبة وإسلام المئذنة كعنصر معماري. فذلك أمر لا نقصده الآن ولو أن دراسته ممتعة ومغرية على تتبع أسبابها وأركان تلك الأسباب. إلا أن ما يعنينا هو أن المئذنة ظلت تتطور من الصومعة التي هي من ركن المسجد. إلى مئذنة قليلة الارتفاع، واستمرت ترتفع إلى أن وصلت إلى ارتفاعات سامقة، وتتنوع من مئذنة أموية (رغم الشكوك في وجودها) إلى مئذنة عباسية ثم فاطمية، ثم تطورت بعد ذلك إلى أيوبية ومملوكية وعثمانية، وتتنوع من مدارس فنية إسلامية مختلفة، من الأندلس والمغرب ومصر والشام والعراق وإيران وشرق العالم الإسلامي. وواصلت التطور والمتانة والزخرفة والتأنق، وكان أجمل أنماطها في العصر المملوكي الذي ظل المعمار المسلم يحاكيها حتى اليوم في كثير من المآذن.

رمز المسجد
واستمرت للمئذنة عمارتها ودورها، حتى ظهرت أجهزة تكبير الصوت في العصر الحديث، فانتفى أحد الأدوار المهمة للمئذنة، وأصبح من الممكن الالتفات عنها كعنصر معماري، إذا ما وضعنا في الحسبان تلك التكاليف المادية والعمل المعماري المركب والصعب في تنفيذه. ورغم ذلك، فإن المعمار المسلم لم يغض الطرف عنها بل تركها رمزاً بكل عناصرها المعمارية، واستمر في إشادتها بكل قوة لتأخذ الاتجاه نفسه من الارتفاع والمتانة والتأنق برغم أن المؤذن لم يعد يصعد للنداء على الصلاة من فوق شرفاتها لقيام أجهزة تكبير الصوت بهذا الدور المهم في حياة المسلم، وارتباط الأذان بالكثير من السلوك اليومي للمسلم.

وبقيت المئذنة ملازمة لبناء المسجد، ورمزاً للمسجد نفسه، فلا مسجد دون مئذنة، ولا مئذنة دون مسجد. وارتبط الرمز بالعنصر المعماري الديني الاسلامي وباستمرار، حتى وعند خروجنا للطرق البعيدة في الحواضر والبوادي وفي الدروب المختلفة. كان لابد من بناء المساجد الصغيرة والزوايا لتأدية الصلاة خلال رحلة المسافر ومنذ أقدم العصور الإسلامية وللآن. ووجد الفنان الشعبي المسلم من المآذن خير دليل لوجود هذا المسجد أو تلك الزاوية المعدة للصلاة ولهداية المسافر إلى هذا الكان. ولاستخدام المكان كنقطة ربط على الطريق.

ويمكن لنا أن نرصد الكثير من هذه المآذن البسيطة الملحقة بالزوايا وأماكن العبادة على طول الطرق والمقامة بخامات بسيطة ومحلية وقليلة التكاليف. بدن مرتفع بجانب المسجد أو فوق سطحه يحمل هلالاً أو مصباحاً، وأبدان هذه المآذن دون درج لاستحالة الصعود إلى شرفاتها الهيكلية. وإذا كان هناك جهاز لتكبير الصوت فهو يقوم بدور المؤذن (في الارتفاع عن سطح الأرض). وقد رصدنا العديد من هذه المآذن الشعبية القديمة التي أنشئت قبل ذيوع أجهزة تكبير الصوت ورأيناها في مجملها عبارة عن شرفة صغيرة فوق سطح المسجد مباشرة. وبعض هذه المآذن أقامها العمال من (براميل) فارغة عدة فوق بعضها ولها رأس مسلوبة لأعلى. وشكّل بعضهم بدن المئذنة من قطع الحديد بطريق اللحام. واستخدم الفنان الشعبي المسلم كل الخامات المتوافرة تحت يده لتشكيل هذه المئذنة من سد لأجناب البدن إلى الطلاء بالألوان المختلفة. وجاء الكثير من هذه المآذن أنيقاً مزخرفاً وقوياً من خامات بسيطة محلية وقليلة التكاليف.

البدن القصير سمة هذه المآذن، وفي الغالب ذو قطر صغير نسبياً وفوق البدن يجيء الهلال الشهير. وأحياناً مصباح كهربائي، أو مصباح يضاء بالكيروسين. ونلاحظ في الطرق الصحراوية أن فتحة الهلال تكون في اتجاه القبلة. فقد يكون المسجد بجدران قليلة الارتفاع، كما لا ننسى دور البيئة في إشادة هذه المآذن وزخرفتها، ويتضح ذلك من خلال جدرانها وخامات إنشائها وطلائها، فكله مستمد من البيئة المحلية، وغالب عليها، سواء كانت البيئة صحراوية أو زراعية أو بحرية. وهناك بيئات جبلية ذات صخور ملوّنة تغلب أيضاً على عمارة المئذنة بلونها وصخرها. وكلما كان المسجد في طريق رئيسي يزداد عليه المرور يزداد التأنق والاتساع وارتفاع المئذنة لتصبح أعلى من أي العمائر التي تجاوره. وأكثر المارين يتبرّعون لإعمار هذا المسجد أو ذاك ويتجلى ذلك في عمارتها وزخرفتها.

 

عبدالغني عبدالله

 
 




مئذنة قليلة الارتفاع وتأنق قليل





مئذنة عبارة عن شكل قبة على دروب سيناء البعيدة بهلال كبير





مئذنة بسيطة بين الحقول





الشعبي بالسالمية الكويت





مئذنة منفصلة عن مبنى المسجد هيكلية من الصاج المطلي





رمز مئذنة قليل الاتفاع حديث





عمود يشكل مئذنة داخل الصحراء (نجد)





شرفة فقط فوق سطح المسجد (قديماً)





مئذنة معهد الموسيقى - الكويت





مئذنة بسيطة داخل الصحراء





مئذنة بسيطة مع زيادة التأنق





مئذنة مربعة بيضاء أشادها البدو داخل دير سانت كاترين