تحفة الترك... أحكام فقهية تحـدد ما للسطـان وما علـيه

تحفة الترك... أحكام فقهية تحـدد ما للسطـان وما علـيه

من المكتبة العربية

تأليف: نجم الدين الطرسوسي
حققه وترجمه إلى الفرنسية وقدم له: محمد منَصْري

نصائح وإرشادات للسلطان في مختلف شئون إدارة البلاد وحكم الرعية، تعتمد على الآراء الفقهية وتأتي وسطاً بين ما حمله كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي، وكتاب (السياسة) لابن تيمية، ولذلك بدأ الكتاب بإيضاحات عن المذاهب الأربعة في الإسلام، وبمجمله، فإن هذا الكتاب يمثل نفحة تاريخية تهب على حاضرنا.

(كتاب تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك)، ينشر للمرة الأولى. وقد اعتمد المحقق على نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية في قسم المخطوطات الشرقية تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي.

لم يكتف المنصري بنشر المخطوطة محققة وترجمتها إلى اللغة الفرنسية، بل وضع لها دراسة مستفيضة تناول فيها استقرار المذاهب السنية الأربعة في دمشق وحياة المؤلف ومصادر معلوماته وحلل القضايا التي تناولها المؤلف في كتابه مقارناً بين آرائه وآراء بعض معاصريه أو سابقيه، ثم قيّم الكتاب بالنسبة إلى كتب أخرى مماثلة. وهي دراسة ثرية تمكّننا من فهم كتاب (تحفة الترك)فهماً دقيقاً.

وإذا بدأنا من حيث بدأ المحقق، فإننا ننقل عنه خلاصة قصيرة لقيام المذاهب الأربعة السنية في دمشق.

  1. وصل المذهب الشافعي إلى دمشق في وقت مبكر، لكنه تركّز في القرن الثالث هـ/التاسع م، ومع أنه تأخر في أيام الفاطميين، فقد عاد إلى الواجهة مع نور الدين الذي قوى مركز أتباعه. وقد تولى منصب قاضي القضاة في دمشق في القرن السابع هـ/الثالث عشر.م ثلاثة من كبار علماء الشافعية وهم بهاء الدين زكي وكمال الدين التفليسي وتقي الدين بن رزين، وكان من علماء المذهب الكبار محيي الدين النووي وعبدالرحمن الفزاري وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين.
  2. جاء المذهب الحنفي إلى دمشق مع السلاجقة على أيدي علماء من المشرق - من خراسان وما وراء النهر - حيث كان قد انتشر هناك منذ القرن الثالث هـ/التاسع م، وكانت الصادرية أول مدرسة حنفية أنشئت بدمشق، وأول من تولى التدريس فيها القاشاني ثم البلخي ثم المكي الرازي والحصيري. وكان بنو الأبيض وبنو العديم علماء حلب من المذهب الحنفي.
  3. إن الذي يسر للمذهب الحنبلي الوجود في دمشق هو أبو الفرج عبدالواحد. وكان من علمائه الحوراني ثم بنو المنجا وبنو قدامه.
  4. كان المذهب المالكي أقل المذاهب انتشاراً، وكان أكثر القادمين في غرب العالم الإسلامي، كانوا يفضلون القاهرة والإسكندرية على دمشق. وقد زوّدت أسرة الزواوي بعدد من علماء المالكية.

وحري بالذكر أن قاضي القضاة بدمشق كان أصلاً شافعياً. لكن في سنة 664هـ/1265م غيّر ركن الدين بيبرس الأمر وجعل لكل من المذاهب الأربعة في دمشق (وسائر دولة المماليك) قاضياً للقضاة. وكان أول قاضي قضاة حنبلي هو شمس الدين المقدسي، وأول مالكي يتولى المنصب هو زين الدين الزواوي.

مؤلف (كتاب تحفة الترك) هو نجم الدين بن عماد الدين الطرسوسي. ولد في المزّة 721هـ/1321م، من ضواحي دمشق، وكان أبوه قد تولى التعليم في جامع القلعة بدمشق، ثم عيّن قاضياً، وفي سنة 727هـ/1327م تولى منصب قاضي قضاة الحنفية.

تلقى نجم الدين علومه على يدي أبيه وعدد من العلماء الأحناف. وفي سن الخامسة عشرة أعطى أول درس في المدرسة الإقبالية، وبعد سنتين درّس في المدرسة الشبلية. وقد كان، مع صغر سنّه، عشير أعاظم نيابة دمشق ومنهم تنكز الذي تولى النيابة سنة 712هـ/1312م وظل في مركزه مدة تقرب من ربع القرن.

لما توفي عماد الدين (746هـ/1345م) تولى ابنه نجم الدين التدريس في المدرسة النورية الكبرى، كما خلف أباه في منصب قاضي القضاة، وقد وصلته الخلعة مع توقيع شريف للمنصب سنة 751هـ/1350م.

يؤكد محمد منصري أن نجم الدين لم ينل الاهتمام الكافي من مؤرخي عصره ولاحقيه، ويعزو ذلك إلى إما الإهمال أو الجهل. لكن لعل شباب الرجل وموته المبكّر (758هـ/1357م) لم يلفت إليه نظر المعاصرين واللاحقين.

بين القلقشندي وابن تيمية
يقول الطرسوسي في فاتحة كتابه: (... وبعد، فإن الله تعالى جعل حفظ نظام الأنام بالسلطان، وأدام له الأيام بالعدل في الشريعة والإحسان، ورأيت من الواجب في هذا الزمان، بذل النصيحة له بقدر الإمكان، بتأليف كتاب يشتمل على فصول تجتمع فيها أنواع مصالح الملك مما تعتمد عليه الملوك، وبيان طريق يدوم لهم بها الملك بحسن السلوك، ولم أقصد بذلك سوى القيام بهذا الواجب، وحفظ نظام الملك لمن هو في اتباع الشرع من الملوك راغب).

فهذا المدرس قاضي القضاة الشاب يضع كتاباً فيه نصح وتوضيح: النصح لتجنب القبيح والخطأ، والتوضيح لاتباع الطريق الفقهي العملي.

فالكتاب هو من النوع الذي يرشد إلى صحة الأسلوب معتمداً في ذلك أصلاً على الآراء الفقهية، فهو وسط بين كتاب مثل صبح الأعشى للقلقشندي، وكتاب مثل السياسة الشرعية لابن تيمية. فأول هذين وصفي تقني والثاني فقهي فلسفي إلى درجة ما. لكن كتاب تحفة الترك فيه من الأول (وباختصار كبير) ومن الثاني دون إرهاق، بحيث تتضح القواعد وتصح الشواهد.

إلا أنه يترتب علينا أن نشير إلى أمر على غاية الأهمية، فقد كان الطرسوسي حنفياً، وكان يرى أن الأمور الدقيقة المتعلقة بشئون المسلمين يجب أن يرتب أمرها على يد حنفي. إلا أنه يخطو خطوة أبعد. فهو خصم للمذهب الشافعي، فلا غرابة أن نجد عنده مثل هذا القول (لا يعين شافعي ولاية ولا قضاء)، و (لا يولى الشوافع لشيء من أعمال المسلمين).

في الفصل الأول، يدعو الترك (المماليك) إلى الأخذ بالمذهب الحنفي لأنه أنسب لهم. فالشافعي يشترط في صحة تولية السلطان أن يكون قرشياً ومجتهداً. ومعنى هذا أن سلاطين الترك لا شرعية لهم بالنسبة للمذهب الشافعي.

أما أبوحنيفة (وأصحابه) فلا يشترط في صحة تولية السلطان أن يكون قرشياً ولا مجتهداً ولا عدلاً، ويتبع ذلك أن المذهب الحنفي يجيز التقلد من الترك. ويقول بوضوح (إن مذهبنا أوفق للترك وأصلح لهم من مذهب الشافعي). ويفصل بعض المسائل التي ترجح كفة الترك شرعاً إذا أخذوا بالمذهب الحنفي.

رفع الظلم... أولاً
يشدد الطرسوسي في فاتحة الفصل الثالث على العدل، فيقول: (النوع الأول [من القصص] في إزالة المظالم وكف يد الظالم. وهذا النوع من أهم الأنواع وأولاها بالاعتناء، فإن العدل يقوم به الملك ويدوم). وينتقل بعد ذلك فيقدم لصاحب السلطان ما يجب أن يتمتع به الموظفون المكلفون إدارة شئون الرعية من نائب السلطنة إلى القضاة إلى الوزراء إلى الحجاب.

ولعل من ألطف ما ذكره الطرسوسي عن القصة التي ترفع للسلطان في طلب منصب، أن الطرسوسي يأخذ كلا من المناصب المطلوب التعيين فيها، ويشير إلى مَن يرجع السلطان في الاستشارة للتولية. ولعل أطرف هذه الوظائف هي المتعلقة بالإقطاع. فإذا كان الإقطاع غير منحل لا يلتفت السلطان إلى طالب الإقطاع. أما إذا كان الإقطاع منحلاً (نظر السلطان في حال الطالب وسأله عن الجندية ومعرفة الرمي والفروسية وشد العدة ولبس الجوشن والزردية والسيف). فإذا قال جميع هذه الأشياء على وجهها طلب منه أن يقوم بأعمال الفروسية، أي أنه يختبره عملياً في عدة الحرب ولبسها، وركب الحصان، ثم أمره أن يبارز شخصاً من الفرسان المعروفين بالفروسية. فإن أظهر معرفة ذلك (أعطاه الخبز وخلع عليه، وإن لم يجده يحسن فعل ذلك، لا يعطيه شيئاً).

ويفعل السلطان الأمر نفسه في كل من يتقدم لطلب منصب سواء في ذلك نيابة عن السلطة أم القضاء. ويفصل أمر القاضي ويختم ذلك بقوله (وإنما أطلت الكلام في الفحص عن أهلية القاضي وقت الولاية، وأنه يكون أدين أهل مذهبه وأعقلهم).

ويعود فيفصل كل ما يحتاج أن يطلب أو يعطى للقاضي من شروط بحسب المذهب الذي يتبعه (ويقتصر على المذهبين الشافعي والحنفي) حتى لا يتجاوز القاضي واجباته ولا يفتئت على حقوق الصغار وسواهم ممن يعهد إليه النظر في شئونهم.

وثمة أمور قضائية يصر الطرسوسي على أنها يجب أن يعهد فيها إلى قاض حنفي: منها أمور الصدقات والإمامة وقضاء البر والأوقاف والأيتام وقضاء العسكر وخطابة الجامع الأموي. ويرى المؤلف أنه من الضروري أن يكشف عن القضاة ونوّابهم، ويحذّر القاضي من قبول البرطيل (الرشوة)، فالذي يبرطل على القضاء يستحق في رأي الطرسوسي التعزير بالمال والضرب.

ويعتبر أنه من واجبات السلطان النظر في أمور الحصون والجسور والثغور والمساجد وكسوة الكعبة وإصلاح طريق الحاج، وترتيب سير الحاج وإقامته. كما أنه يعين ثمن الكسوة وما يصرف عليها من مال الخراج والجزية وما يهديه أهل الحرب إلى السلطان.

ويحدد الطرسوسي موقف السلطان من الهدايا التي قد تأتي السلطان من ملوك الفرنج (أو قد تأتي من العدو إلى أمير الجند) فهذه الهدايا تذهب إلى بيت المال.

الخارجون على السلطان... ما لهم وما عليهم
وفي الفصل الحادي عشر، يتناول المؤلف أحكام البغاة والخوارج على السلطان. والبغاة قوم من المؤمنين خرجوا على السلطان. لكن الطرسوسي يقبل رأي الأسبيجابي الذي يفرّق بين البغاة الخارجين على النظام وبين الخارجين على السلطان لظلم لحقهم منه، فهؤلاء ليسوا بغاة، ويتناول الأحكام المتعلقة بالبغاة: هل يجوز أن يبدأهم السلطان بالقتال أم لا؟ ومذهب المؤلف (الحنفي) هو أنه يحل للإمام العدل أن يقاتلهم ولو لم يبدأوا بقتاله، وبعد القتال والانتصار عليهم، ما الذي يحدث لهم ولأموالهم وسلاحهم? وجميع هذه الأمور مفصلة على الأسس الشرعية.

وكان من الطبيعي، وأيام المماليك أيام جهاد، أن يخص المؤلف الجهاد وقسمة الغنائم بفصل طويل، وهو آخر فصل في الكتاب.

يصدر الطرسوسي الفصل بقوله: (اعلم أن الجهاد فرض كفاية في غير نفير عام، وإلا ففرض عين. وقتال الكفار واجب وإن لم يبدأونا). ونحن لا ننوي أن نلخص هذا الفصل هنا فقراءته أولى.

ويمكن للقارئ أن يعود إلى ما كتب بـ (الأفرنسية) الذي سمّاه محمد منصري (المسائل الرئيسية في كتاب التحفة)، ففيه مقارنة بآراء فقهاء آخرين.

مؤلفات أخرى
للطرسوسي خمسة عشر مؤلفاً لم ينشر منها قبلاً سوى اثنين هما (أنفع الوسائل لتحرير المسائل) وهو بحث فقهي دقيق وكتاب (الإعلام في مصطلح الشهود والحكام) وهو أشبه بدليل تقني لمصلحة القضاة ونوّابهم (وكتاب التحفة هو الثالث). وقد فحص المحقق الكتابين ودرس الثالث دراسة دقيقة، وخرج من ذلك بأن الطرسوسي كان ذا مقدرة عقلية كبيرة ومعرفة فقهية واسعة وعميقة.

وإذا تذكرنا أن المؤلف فرغ من وضع كتابه وهو في سن الثانية والثلاثين من عمره (فهو مولود سنة 721) أدركنا أنه كان فعلاً من كبار علماء زمانه.

ونحن إذ نقرأ كتاب التحفة، نلاحظ أن المؤلف يذكر أصحاب الرأي الأولين من مؤسسي المذهب الحنفي فهو يستشهد، بطبيعة الحال، بصاحب المذهب أبو حنيفة (توفي 150هـ/767 م) وبكبيري مفسّريه وشارحيه الأولين وهما أبويوسف، قاضي قضاة الرشيد، والشيباني. وفيما بعد يعتمد على علماء الحنفية الثلاثة الكبار: الطحاوي والقدوري والسرخسي. ويشير أحياناً إلى والده عماد الدين.

والكتاب من منشورات المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق (سنة 1997). وأود أن أشيد هنا بالعناية الفائقة التي بذلت في إخراجه.

 

نقولا زيادة

 
 




غلاف الكتاب





د. نقولا زيادة