هل طفلك مدمن تلفزيون

هل طفلك مدمن تلفزيون

هل حدث أن دخلت بيتك فافتقدت سماع أصوات أطفالك وجلبتهم وتدافعهم إليك فرحين بعودتك؟ معظمنا صار يفتقد هذه اللحظات الجميلة، تدخل إلى بيتك، فلا يشعر أحد بك، أطفالك مسمرون في أماكنهم كأن على رءوسهم الطير وقد سرق التلفزيون منهم كل حواسهم وجعلها منصبّة على ما يعرض، فغدوا في عالم آخر لا يمت إلى الواقع إلا بوجودهم الجسدي.

عندما كنا أطفالاً، وقبل أن يغزو هذا الجهاز بيوتنا بهذه الصورة، وقبل أن تنتشر الفضائيات وتمنحنا طيفاً واسعاً من خيارات المشاهدة يصل أحياناً إلى حد الحيرة في الاختيار. في ذلك الزمان كان الوالدان هما - بشكل عام - الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصية الطفل وقولبتها في المراحل الأولى من حياته وكانا كذلك البنك المعرفي الذي يزوّد الطفل بالمعلومات ويرد على تساؤلاته واستفساراته عندما يحاول أن يفهم ما يدور حوله، وكان ذلك ينعكس إيجاباً على الطفل فالتماس المباشر بالطفل كان يجعل الأم أكثر إحساساً ودقة ومعرفة بالتغيرات التي تطرأ على طفلها، كتطور قاموسه اللغوي واتساع دائرة معارفه واهتماماته، ومعرفة إمكاناته الحقيقية وما يمكن أن يقوم به وأي المهمات يمكن أن توكل إليه.

بدخول التلفزيون إلى منازلنا، واتساع المساحة الزمنية المخصصة للبث وتعدد القنوات صار بالإمكان - ومن خلال جهاز التحكم عن بعد - التنقل بينها كما تشاء، هنا أخذت العلاقة بين أفراد الأسرة شكلاً مختصراً، وعاشت في نطاق ضيق، وأصبح هذا الضيف يفرض نفسه على سهراتنا، فأحدث شرخاً حقيقياً في بناء الأسرة التي صارت تفتقد (المؤتمرات العائلية) التي كانت تجمعها وتناقش خلالها المشاكل والهموم اليومية، أو التي تضع الخطط المستقبلية للأسرة.

نعم افتقدنا تلك (المؤتمرات العائلية) التي كانت تبعث التواصل والانسجام، والتي كان يتم خلالها تبادل الأفكار والخبرات والمعارف بين أفراد الأسرة الواحدة.

ومن الطبيعي أن يشمل هذا التأثير بشكل خاص العلاقة الأكثر حساسية وهي تلك التي تربط الآباء بأطفالهم في مراحل حياتهم الأولى، وهي المراحل التي يكون الأبناء فيها في أشد الحاجة إلى هذه العلاقة. لقد أصبح التلفزيون ثالث الأبوين وربما أولهم بالنسبة للطفل. ومع الأسف، فإن الأبوين كثيراً ما يدفعان الطفل في هذا الاتجاه تهرّباً من المسئولية الملقاة على عاتقهما، أو إلهائهم وضمان هدوئهم، وبذلك تضاف إلى هذا الجهاز وظيفة أخرى هي وظيفة جليسة الأطفال.

هناك مشكلة
وهنا يجب أن نعترف بشجاعة أن هناك مشكلة ما في ذلك، وألا ندفن رءوسنا في الرمال ونتغاضى عنها، ونتذمر في النهاية من السلوكيات الغريبة والتصرّفات غير المعقولة التي يقوم بها أطفالنا ولا نستطيع أن نفسّر أسبابها.

والمشكلة وراءها سببان رئيسيان:
طبيعة المواد والمشاهد التي تعرض للأطفال ونقصد بذلك مضمون هذه البرامج، وهل هي ملائمة لعمر الطفل؟ هل تنسجم مع بيئتنا وثقافتنا؟ لا سيّما وأن معظمها من إنتاج دول أجنبية تختلف عنا في ثقافتها وقيمها، وبالتالي فإن الرسائل التي تريد إيصالها ربما تكون ضارة بنا وبمجتمعاتنا.

هذا الشق من المشكلة تناولته الكثير من الدراسات والتحليلات واستفاضت الأقلام في تشخيصه وبيان خطورته ووضع الحلول والنظريات لحله.

ولكن ما يثير الاستغراب أن الشق الثاني من المشكلة لم ينل حظه من الدراسة والتحليل رغم أنه لا يقل خطورة عن سابقه، هذا الجانب يثير في الأذهان تساؤلات عدة علينا الاجابة عنها:

- كم من الوقت يقضيه طفلك أمام شاشة التلفزيون؟
- ما التأثير الذي ينجم عن الجلوس الطويل على جسم الطفل وسلوكه وشخصيته؟
- إلى أي مدى وصل تعلق الطفل بالتلفزيون؟ وهل بلغ الحد الذي لم يعد باستطاعته الاستغناء عنه ونعني بذلك هل وصل مرحلة (الإدمان)؟
- هل يتغير سلوك الطفل بعد انتهاء فترة المشاهدة؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات سوف تجلي الحقيقة أمام أعيننا، ولابد أن تدفعنا لكي نغيّر من الواقع باتجاه الأفضل.

ونحن هنا لا ندّعي أننا نملك حلولاً سحرية، ولكن ذلك لا يمنع من أن نبحث في هذه المشكلة ونحاول أن نسلط عليها بعض الأضواء ونحللها، فإن الإحساس بوجود المشكلة - أي مشكلة - هو الخطوة الأولى باتجاه حلها، ويبقى الأمر متعلقا بكل فرد على حدة، هو الذي يقرر ما ينبغي فعله ما دام كشف الأسباب الحقيقية. ونؤكد هنا كلمة (الحقيقية) لهذه الظاهرة.

تغير الوعي
يدخل الطفل أثناء المشاهدة التلفزيونية في حال هو أقرب إلى التخدير، فهو يرى ويسمع، ولكنه غائب تماماً عما يدور حوله باستثناء ما يشاهده، ولقد أجرى العلماء أبحاثاً عدة على أطفال لدراسة هذه الظاهرة فعرّضوهم وهم يجلسون في هدوء إلى ضوء ساطع مزعج، وظل الضوء ساطعاً لمدة ثلاث ثوان ثم انطفأ دقيقة واحدة، وتكرر هذا التتابع عشرين مرة، وكان العلماء أثناء التجارب يراقبون التغيرات التي تطرأ على الطفل فيما يتعلق بضربات القلب والتنفس وموجات الدماغ.

وتبين أن الأطفال قد جفلوا عند التعرض الأول للمثير البصري، ولكن شدة رد فعلهم تناقصت بسرعة مع تكرار العملية، حتى ظهرت أعراض أشبه بأعراض النوم عند المرة الخامسة عشرة - من خلال تخطيط الدماغ - مع أن أعينهم لاتزال تستقبل الضوء.

وما يحدث للطفل أثناء مشاهدة التلفزيون شبيه تماماً لهذه التجربة، فالتغيرات السريعة للإضاءة والألوان تفعل الفعل نفسه، وتجعل الطفل على هذه الحال، ولكن هل هي حال، تركيز أم ذهول؟

الإجابة إن أي نشاط يتطلب تركيزاً ذهنياً عالياً لا يمكن أن يسبب الاسترخاء الذي نلحظه على الأطفال أثناء المشاهدة، والتلفزيون يسبب حالة عقلية سلبية لا تشبه أي شكل من أشكال اللعب. تقول إحدى الأمهات في وصفها لحالة ابنها ذي السنوات الخمس: (إن ابني تتملّكه غشية حين يشاهد التلفزيون، فهو ينغلق على ما يحدث على الشاشة، وتستلبه المشاهدة تماماً فتنسيه أي شيء آخر، فهو لا يسمعني إذا تحدثت إليه، ولا يرد على الهاتف - كعادته - مع أنه بجواره ويتعين علي كي ألفت انتباهه أن أغلق الجهاز، وعندئذ يتغير موقفه فجأة).

نعم... إدمان!!
عندما تطرق مسامعنا كلمة الإدمان يتبادر إلى أذهاننا للوهلة الأولى إدمان المخدرات أو الكحول، وهنا نستعمل هذه الكلمة على سبيل المحاكاة في الحاجة الدائمة إلى المشاهدة، فإدمان أي شيء يعني أن الحياة دونه ناقصة وغير طبيعية.

وكثير من الناس - ولاسيما الأطفال - بلغوا هذا الحد من التعلق بالتلفزيون، فجهاز التلفزيون يعمل طوال النهار سواء وجد مَن يسمعه أم لا، وإذا ما جلس الطفل أمامه، فإن من الصعوبة بمكان أن تثنيه عن المشاهدة وكثيراً ما يبلغ هذا الشغف بالطفل أن يتابع حتى برامج تفوق مستواه العقلي أو المعرفي، فهو لا يهتم كثيراً بما يعرض من حيث المضمون. بقدر ما يستمتع بالمشاهدة، والصور المتغيرة حتى، إن أحد الآباء اشتكى من أن ولده بقي لثلاث ساعات يتابع وقائع مؤتمر قمة اقتصادية!!

والمشكلة الأخطر أن كثرة ساعات المشاهدة لا تحقق الإشباع الذي يؤدي إلى التوقف عن الاستزادة، لأنها لا تمنح القوت الحقيقي الذي يتطلبه الإشباع، ولذلك تستمر المشاهدة حتى الإعياء التام والإجهاد الحقيقي.

وخطورة هذا النوع من الإدمان تتوقف على مدى الآثار السلبية التي يخلفها في حياتهم من استنزاف الوقت والانشغال عن القيام بأي عمل آخر مفيد، فهو يشوّه الوقت ويمنع من خوض تجارب أخرى في الحيـاة مما يجعلها تبدو غامضة ووهمية، ويضـعف العلاقات ويقلص فرص الحديث والتواصل الطبيعية.

لن يتذكر
إن الفكرة السائدة أن التلفزيون إحدى وسائل التعليم هي فكرة غير صائبة، فقد بيّنت الأبحاث أن الطفل وحتـى سـن المدرسة لا يتذكر الكثير مما يراه، وبالتـالي لا يشكّل له ذلك زاداً مـعرفياً. وأن تذكر الطفل يزداد مع زيادة عمـره، وبذلك لا يعتبر التلفزيون وسيلة من وسائل التطوّر اللفظي عند الطفل خصوصاً في هذه السن، لأن المشاهدة تتلازم مع هدوء تام من قبل الطفل، وبذلك يكون قد أضاع جزءاً مهماً من الفرص اللغوية الواقعية التي تتناول جوانب الحياة المختلفة.

تجارب أغنى
ومن ناحية أخرى، فإن التأثير الآخر هو استنزاف وقت الطفل مما يعوقه عن الدخول في تجربة القراءة التي تعتبر أقل إثارة، ولكنها أغنى وأكثر فائدة، فالقراءة تمنح الطفل صورة ذهنية عن كل كلمة يقرأها فتحفّز عنده الإبداع والتخيل وكذلك تفعل الكتابة، في حين أن التلفزيون مجرد عالم خيالي لا يتعين على العقل أن يفك رموزه، فالتلفزيون يأسر الخيال ولا يحرره، أما الكتاب الجيد فإنه يقدح الذهن ويحرره في الوقت ذاته، ذلك أن القراءة تستلزم التركـيز والذي هو ممارسـة عقلية معقـدة، في حين يستسلم الطفل خانعاً لما يعرض عليه من الصور التي لا داعي لأن يفسرها، فهي تقدم بطريقة لا تحتاج إلى إعمال العقل وقدح زناد الفكر، ولذلك يتجه معظم الأطفال إلى التلفزيون لأنه لا يتطلب ذلك الجهد الكبير وينفرون من القراءة والكتاب بشكل عام.

تأخر دراسي
وأما ما يتعلق بالتحصيل الدراسي فإن الطفل الذي يقضي ساعات طوالا رابضاً أمام شاشة التلفزيون يتأخر عن زملائه في المدرسة الذين يقضون ساعات أقل أو الذين لا يقضون أي وقت أمام التلفزيون، وهذا ما أكدته دراسات عدة أجريت في الولايات المتحدة وكندا، ويرجع ذلك إلى التغيرات النفسية والإرهاق الجسدي الذي يصاحب المشاهدة لساعات طويلة، ناهيك عن أن التلفزيون أحد الأسباب التي تجعل الطفل يبقى ساهراً حتى وقت متأخر خصوصاً حين تغيب رقابة الوالدين.

وهم البطولة
ويلاحظ أن الأطفال وبعد انتهاء ساعات طويلة من المشاهدة في هدوء، يتحوّلون إلى كتلة من الحركة والنشاط، وتتفجّر بداخلهم طاقات كانت كامنة، ويعبّرون عن ذلك بهياج شديد، لاسيما إذا كانوا قد تابعوا مشاهد عنف، ومنهم مَن يحاول تقليد أبطالها ظنّاً منهم أن ذلك واقع حقيقي، وتؤثر مشاهد العنف سلباً في الأطفال وتخلق في أذهانهم صورة نمطية للبطل الذي يفعل المعجزات والخوارق، ويُخشى في كثير من الأحيان أن يتمثل الأطفال هذه الشخصيات ويحاولوا تقليدها.

اللعب الواقعي
دعونا نطرح سؤالا: لو لم يكن هناك في البيت تلفزيون، فما عسى يفعل الطفل لقضاء الوقت الذي يقضيه حالياً في المشاهدة؟

لاشك في أن الطفل بطبيعته يحاول اكتشاف البيئة والواقع المحيطين به، وتستهويه الأنشطة التي يختبر فيها إمكاناته الجسدية وتحرّك عضلاته وهو بهذا يمارس شيئاً طبيعياً فُطر عليه، والمشاهدة التلفزيونية تستحوذ بوضوح على مساحات الأنشطة الأخرى في حياة الطفل ومنها اللعب.

ويتميز اللعب عن المشاهدة بأنه يمنح للطفل الفرصة للتعرّف على الواقع بنفسه، وبالتالي إضافة خبرات جديدة إلى مخزونه ناتجة عن التعامل الملموس والنشاط التجريبي الحسّي، وهذه الخبرات تشكّل مع الزمن الكنز المعرفي لهذا الطفل الذي يتراكم ويزداد كمّاً وكيفاً.

ولا يسعنا إلا أن نشير إلى إمكان توجيه هذه الطاقة الموجودة عند الطفل والحاجة الى الحركة والانطلاق للاتجاه الصحيح المفيد، كأن يقوم بالمساعدة في أعمال البيت أو إنجاز أشياء مفيدة له أو للأسرة، وهذا يكسب الطفل الشعور بالأهمية وبالدور الذي يقوم به داخل هذا المجتمع الصغير، مما يمنحه احترام الذات وتقديرها والثقة بالنفس، خصوصاً إذا لقي التشجيع المناسب والتوجيه المفيد، في حين يعاني معظم الأطفال الذين يقضون ساعات طويلة في المشاهدة من البدانة نتيجة لأكلهم كميات كبيرة من الأطعمة أو الحلويات أثناء (غيابهم عن الوعي) دون شعور منهم ولا حتى تذوّق ما يأكلونه، أو قد تتملّك الطفل عادة سيئة كمص الأصابع أو قضم الأظفار أو شد الشعر، وهي عادات يعتادها الطفل دون أن يشعر.

واللعب يفيد الطفل في بث روح الجماعة في روعه، وغرس معنى الاجتماع والمشاركة الجماعية، وهذا يمنحه الخبرة اللازمة للتعامل مع الآخرين والانخراط في مجتمعات جديدة عندما يدخلها للمرة الأولى دون عناء.

بعد كل ما استعرضناه وذكرناه، لابد أن الأمر صار يحتاج إلى وقفة صريحة صادقة مع الذات، هذا إن كان يهمنا أن ينشأ أطفالنا في أجواء صحية سليمة، وصار لابد أن نحاول العثور على حل للخروج من هذه الأزمة التي تتفاقم يوماً بعد يوم أو أن نتدارك الخطأ قبل أن يستفحل ويصعب علاجه، لابد أن نقنن ساعات المشاهدة وأن نكون صارمين في ذلك، وأن نشغل الأطفال بأشياء مفيدة وأن نغرس فيهم حب القراءة والمطالعة، وأن نعيش معهم لذة المعرفة واكتشاف الجديد، وأن نترك لأصابعهم الصغيرة أن تغدو أيادي ماهرة، ليمارسوا أعمال الكبار ويتعلموا ويجرّبوا بأيديهم، وأن نعتمد عليهم بما يحسنون صنعه، ونمنحهم الفرصة للتعلّم، وبذلك نمنحهم الثقة بأنفسهم، ونعلّمهم الاعتماد على الذات، فيشبّوا رجالاً صالحين لذواتهم ولأسرهم ولمجتمعاتهم.

 

إبراهيم العاسمي

 
 




ما يشاهده أطفالنا لا ينسجم غالبا مع ثقافتنا





الأنشطة الأخرى تكسر التخدير التلفزيوني للطفل





أمام التلفزيون .. تركيز أم ذهول وهل النتيجة إيجابية حقا؟!





أمام التلفزيون .. تركيز أم ذهول وهل النتيجة إيجابية حقا؟!





التلفزيون أو ثالث الأبوين .. هل ندعه يشاركنا في تربية أطفالنا؟