المراقبة الذاتية لمستوى السكر في الدم بين الهدف والوسيلة

المراقبة الذاتية لمستوى السكر في الدم بين الهدف والوسيلة

ثمة احصاءات مؤلمة تقول إن معدل حدوث فقد للإبصار يكون عشرين مرة أكثر حدوثا في المرضى المصابين بمرض البول السكري عن أولئك الذين لا يعانون منه كما أن معدل حدوث الفشل الكلوي يكون خمسة وعشرين مرة أكثر حدوثا عند هؤلاء المرضى عن أولئك الأشخاص الذين لا يعانون منه بينما ترتفع معدلات الإصابة بالأزمات القلبية لتصل إلى خمسة أضعاف حدوثها في الأشخاص الذين لا يعانون من مرض البول السكري.

مجرد وخزة أصبع

هذه المشاكل تتفاقم بهذه الصورة وتلك المعدلات عند هؤلاء المرضى الذين لا يهتمون بضبط مستوى السكر في دمائهم ليكون مقاربا للمستوى الطبيعي. وهذا المسلك هو المسؤول عن حدوث الكثير من مشاكل مرض البول السكري أو على الأقل يعجل بظهورها. وهنا يظهر التساؤل الحيوي والمهم: هل يفيد ضبط مستوى السكر في الدم في التقليل من حدوث هذه المشاكل? وكما هي العادة فقد جاءتنا الإجابة الوافية والمبشرة من دراسة تم إجراؤها بالولايات المتحدة الامريكية على المرضى المصابين بالنوع الأول من مرض البول السكري (وهو النوع المعتمد على الأنسولين) والتي أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن الضبط الجيد لمستوى السكر في الدم بالمحافظة عليه مقاربا للمستوى الطبيعي ـ وذلك بالمراقبة المتتالية لهذا المستوى, مع أخذ جرعات العلاج بانتظام, إضافة لممارسة التمرينات الرياضية, وتناول الطعام بطريقة صحية وكميات متوازنة ـ قد أدى إلى التقليل من معدلات حدوث وتطور مشاكل مرض البول السكري التي تصيب الأوعية الدموية الدقيقة بنسبة كبيرة. فعلى سبيل المثال فإن الضبط الجيد لمستوى السكر في الدم قد أدى إلى التقليل من معدلات حدوث اعتلال الشبكية الناتج عن مرض البول السكري وما قد يؤدي إليه من فقد للإبصار بنسبة ستة وسبعين بالمائة (76%), كما قلل من معدلات حدوث اعتلال الكلى الناتج عن مرض البول السكري وما قد يؤدي إليه من فشل كلوي بنسبة أربعة وخمسين بالمائة (54%), ولاشك أن هذه النسب مبشرة بالأمل إذا وضعنا في الاعتبار الحقائق المذكورة آنفا.

من هنا برزت على الساحة أهمية عملية المراقبة الذاتية لمستوى السكر في الدم, تلك المراقبة التي تتم عن طريق وخز أصبع اليد للحصول على نقطة دم صغيرة ووضعها على شريط قياس مستوى السكر, ومن خلال جهاز صغير يتم وضع الشريط فيه يحصل المريض على قراءة لمستوى السكر في دمه. ولا تقتصر عملية المراقبة, على هذا الشق فقط, وإنما أيضا التسجيل الدقيق لمستوى السكر في الدم بصفة يومية, مع التفاعل العملي بين المريض وطبيبه الخاص لتحليل نتائج هذه المراقبة, للوصول إلى أفضل السبل والوسائل للمحافظة على مستوى السكر في نطاقه الطبيعي, ومن ثم التقليل من المشاكل الناجمة عن ارتفاعه أو انخفاضه. ولكي نبلغ الحد الأقصى من الاستفادة بهذه الوسيلة يجب علينا أن نتفهم أن المرضى المصابين بالنوع الأول من مرض البول السكري (المعتمد على الأنسولين) سيكونون هم المستفيدين بدرجة أكبر من خلال استخدام هذه الطريقة في ضبط مستوى السكر, نظرا لاحتياجهم الحتمي إلى الأنسولين فهذه الطريقة توفر لهم ضبطا مناسبا لجرعات الأنسولين, مع المحافظة على عدم حدوث نوبات ارتفاع حاد في مستوى السكر في دمائهم, وما يترتب على ذلك من ارتفاع مستوى الأجسام الكيتونية والأسيتون أو حدوث هبوط شديد في مستوى السكر, مع ما يتبع ذلك من تلف خلايا المخ, إضافة لفوائد هذه الطريقة في منع التغيرات الحادة في مستوى السكر عند هؤلاء المرضى أثناء الأحوال المرضية المختلفة (نزلة برد ـ التهابات الشعب الهوائية ... إلخ) أو أثناء وبعد أداء التمرينات الرياضية. يلي هؤلاء المرضى في درجة الاستفادة من هذه الطريقة السيدات الحوامل اللاتي يتطلب علاجهن استخدام الأنسولين, حيث إن عدم استخدامه يؤدي حتما إلى تشوهات جنينية لذلك فإن المحافظة على مستوى السكر عند هؤلاء السيدات مقاربا لمستواه الطبيعي يحتل أهمية قصوى للخروج بالحمل إلى بر الأمان, منذ لحظة اكتشاف الحمل حتى لحظة ميلاد طفل المستقبل. وأخيرا وليس آخرا يتبقى المرضى المصابون بالنوع الثاني من مرض البول السكري (غير المعتمد على الأنسولين), وهؤلاء المرضى تنحصر استفادتهم من هذه الطريقة في ضبط جرعات الأدوية مع منع حدوث التغيرات الحادة في مستوى السكر أثناء الأحوال المرضية المختلفة أو أثناء فترات الصيام خلال شهر رمضان المبارك, وهؤلاء المرضى بلاشك سيكونون أقل تعرضا لمرات قياس مستوى السكر مستخدمين هذه الطريقة.

إن الوسائل التي يمكن استخدامها في عملية المراقبة الذاتية لمستوى السكر في الدم لن تخرج عن الأجهزة المتوافرة بالأسواق لهذا الغرض, إضافة لما سيحمله المستقبل من تطور في هذه الوسائل لتقليل الألم المصاحب للوخزات, أو تقليل الوقت اللازم للحصول على النتائج, مع تقليل معدلات حدوث الأخطاء غير المقصودة. وهذه الأجهزة جميعها تعتمد على نفس فكرة العمل, حيث تحتوي منطقة العمل بالشريط المستخدم على مواد كيماوية تتفاعل مع نقطة الدم الموضوعة عليها, ثم يتبع ذلك تغير في لون الشريط, يتناسب هذا التغير في اللون مع التغير في مستوى السكر في الدم. ويستطيع الجهاز المعد لقياس مستوى السكر في الدم تحويل هذا اللون الى قراءة توضح هذا المستوى.

ولعلنا نتساءل الآن: هل قياس مستوى السكر في الدم بهذه الطريقة يماثل قياسه بالطرق المعملية الأخرى? والاجابة عن هذا السؤال ستكون قطعا بالإيجاب مع وجود بعض الفروق الطفيفة التي لا تقلل على الإطلاق من حساسية أو أهمية هذه الطريقة. ولكن برغم ذلك تبقى هناك نقطتان مهمتان أولاهما أن هذه الطريقة تتطلب وخزا للمريض أكثر من مرة في اليوم, وقد أمكن التغلب على ذلك باستخدام أجهزة حديثة للوخز تقلل الألم وتوفر في الوقت والجهد. وثانيهما أن هذه الطريقة تعتمد في استخدامها على مهارة المستخدم وقد أمكن التغلب على ذلك بالتدريب الواعي للمرضى على استخدام الأجهزة, مع الاحتكاك المستمر والمتابعة بين المريض وطبيبه الخاص. ومع ذلك فإن المستقبل سيحمل في طياته طرقا ووسائل أخرى أسهل للمريض وأدق في القياس. ولعل من أهم ما سيحمله المستقبل في هذا الصدد هو استخدام المجسات المعتمدة على الأشعة تحت الحمراء لقياس مستوى السكر في الدم, وهذه الفكرة ليست بالجديدة, فقد كانت مستخدمة من قبل في قياس محتوى السكر في الفاكهة والخضروات, حيث إن الأشعة تحت الحمراء عندما تمر في مادة فإنها تخرج منها بصورة مختلفة عن دخولها طبقا لمحتوى هذه المادة من تركيز سكري. وهذه الطريقة ستكون أسهل للمريض, فبإمكانه مثلا وضع الجهاز على الإصبع أو شحمة الأذن لقياس مستوى السكر من دون وخز أو ألم. ولقد ظهرت هذه الأجهزة للنور إلا أنها لازالت كبيرة الحجم ومرتفعة السعر.

وبنفس فكرة العمل السابقة سيحمل المستقبل أيضا طرقا أخرى مثل استخدام موجات وتردادات الراديو في قياس مستوى السكر في الدم. وإذا كان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب قد ذكر في أغنيته الشهيرة أنه يستطيع أن يقرأ أفكار محبوبته من خلال نظرة في عينيها, فإن العلماء لن يعدموا وسيلة, لاستخدام ضوء الليزر أو غيره في قراءة مستوى السكر في السوائل الموجودة بالعين والتي تتناسب مع مستوى السكر في الدم, وذلك اعتمادا على أن طريقة انعكاس هذه الأشعة من العين تحدد مستوى السكر في هذه السوائل, ومن ثم في الدم.

ثم نأتي أيضا لطريقة تسجيل قراءات السكر اليومية والتي لم يتركها العلم تسير في خطها القديم, فبعض الأجهزة الموجودة الآن تستطيع تخزين قراءات مستوى السكر في الدم بالتاريخ والساعة, حتى تسمح للطبيب المعالج بمراجعة هذه القراءات. بل إن العلم لم يترك هذا الأمر أيضا يمر مرور الكرام, فقد ظهرت الآن أنظمة تحلل هذه القراءات من خلال ربط جهاز قياس مستوى السكر الخاص بالمريض بجهاز الكمبيوتر الشخصي للطبيب, ليتمكن جهاز الكمبيوتر من تحليل النتائج المخزنة داخل الجهاز لمعرفة مدى التزام المريض وطبيعة التغيرات في مستوى سكر دمه, مع تحديد أنسب الطرق العلاجية التي يمكن استخدامها. وهذا بلاشك أقصى ما كان يتمناه العاملون في مجال خدمة المرضى المصابين بمرض البول السكري.

بعد هذه الرحلة القصيرة من التحليق في آفاق المستقبل القريب, علينا أن نعود إلى أرض الواقع لنقنع بما في أيدينا من وسائل نستخدمها ونستفيد منها أفضل استفادة.

شروط لأهداف

إذا كنا قد تحدثنا عن أهدافنا من استخدام هذه الطريقة ووسائلنا لتحقيق أقصى استفادة منها, فإنه يتبقى لنا في النهاية أن نتفهم ونعي بعض الأمور المهمة التي ستساعدنا على بلوغ أهدافنا.

أولا: قبل أن يشرع المريض في قياس مستوى السكر في دمه, عليه أن يقوم بتجهيز أدواته من جهاز وعلبة شرائط وجهاز وخز, ثم يتأكد من أن الرقم الكودي على علبة الشرائط قد تم ادخاله بطريقة صحيحة إلى الجهاز, وأن تاريخ الصلاحية لعلبة الشرائط مازال ساريا, ثم يقوم بعد ذلك بغسل يديه بالماء والصابون مع تجفيفهما جيدا قبل الشروع في وخز الأصبع للحصول على نقطة الدم.

ثانيا: على المريض أن يتابع باستمرار معايرة جهازه مع الاستعمال الصحيح والسليم لهذا الجهاز ومتابعة التعليمات الواردة مع جهازه, سواء في كمية الدم الموضوعة على الشريط, أو في توقيت القراءة, أو طريقة مسح نقطة الدم من عدمه حيث إن هذه الأخطاء قد تؤدي إلى قراءة غير صحيحة لمستوى السكر في الدم, مع ما يتبع ذلك من أخطاء في تحديد وتقدير الخطوات العلاجية.

ثالثا: ينبغي على المريض أن يحتفظ بقراءات جهازه الخاص لمستوى السكر ويدونها, وذلك إذا لم يكن الجهاز الذي يستخدمه يقوم بتخزين هذه القراءات تلقائيا.

رابعا: على المريض أن يتابع ويتبع تعليمات طبيبه الخاص مع عرض نتائج القياسات عليه, لأنها ستساعده كثيرا في محاولة ضبط مستوى السكر في دم مريضه.

خامسا: بالرغم من أننا سنطرح نموذجا لتوقيتات قياس مستوى السكر في الدم, فإنه ينبغي على المريض عدم التردد في قياس مستوى السكر في دمه إذا شعر بأي عرض ولو بسيط لزيادة أو قلة مستوى السكر في دمه, كما ينبغي عليه أن يقيس مستوى الأجسام الكيتونية في البول إذا ازداد مستوى السكر في دمه عن 220 ملجم/ديسي لتر (220 mg/dl).

سادسا: نأتي إلى النقطة المهمة وهي توقيتات قياس مستوى السكر في الدم, وهنا يوجد اتجاهان, الأول وهو القياس اليومي لمستوى السكر قبل الوجبات الثلاث مباشرة, وعند النوم, وهذا الاتجاه يصلح للمرضى المصابين بالنوع الأول من مرض البول السكري وللسيدات الحوامل. أما الاتجاه الثاني فهو أن يتم قياس مستوى السكر خلال ثلاثة أيام من كل شهر, وذلك أيضا قبل الوجبات الثلاث مباشرة, وقبل النوم. وهذا الاتجاه يصلح للمرضى المصابين بالنوع الثاني من مرض البول السكري. ولكن يجب علينا أن نتذكر أن يتم قياس مستوى السكر قبل وبعد التمرينات الرياضية, ومره على الأقل في خلال الفترة الصباحية حوالي الثالثة صباحا, وكذلك أثناء الحالات المرضية الطارئة وخلال شهر رمضان المعظم في فترة الصيام وبعد الإفطار.

وفي النهاية فإننا لا نستطيع إلا أن نقول إن المراقبة الذاتية لمستوى السكر في الدم برغم ألم الوخزات فإنها وسيلة مهمة ومفيدة لمنع حدوث مشاكل مرض البول السكري, كما أنها بالمشاركة مع أسس العلاج الأخرى من تناول منتظم للأدوية وممارسة التمرينات الرياضية والمشاركة في الحياة بصورة عادية لا مغالاة فيها سيؤدي كل ذلك إلى حياة سعيدة هانئة للمريض المصاب بمرض البول السكري بعيدا عن المنغصات الطارئة. وسيرى المريض بنفسه الوجه المشرق لمرض البول السكري, هذا المرض الوديع الهادىء الذي يدفعه المرضى بإهمالهم إلى أن يكشف عن وجهه الآخر القبيح.

 

عزت قباري
 
  




وضع نقطة الدم على الشريط





معايرة الجهاز





مسح الشريط بعد مرور زمن معين ثم ادخاله الجهاز





مسح الشريط بعد مرور زمن معين ثم ادخاله الجهاز





بعض الأجهزة المستخدمة في وخز الأصابع





بعض الأجهزة المستخدمة في وخز الأصابع