عاطف الطيب.. ذاكرة على الشاشة

عاطف الطيب.. ذاكرة على الشاشة

زميلي وصديقي الراحل عاطف الطيب, يحمل الإحساس بالنظر والعاطفة والإدراك معا, فهو صعيدي من محافظة سوهاج في جنوب مصر, نزحت أسرته إلى القاهرة فنبت يشرب حتى النخاع من آلامها وهمومها وأحلامها, يحمل وجهه ذو الابتسامة العريضة المميزة, سمات الأمل من خلال مناقشاته وأحاديثه ومشاريعه, فكم من ليال مضيناها متحاورين على مشهد ما, أو طريقة تنفيذ لقطة معينة, أو فكر نحاول صبغ المنظومة السينمائية به. إن العمل مع عاطف الطيب كان متعة حقيقية, لأنه عصارة من فن الحرفية السينمائية, والفكر الناضج المرتبط بآلام وقضايا بلده, والخلق الرفيع في التعامل مع الآخرين.

وسيكتب الكثيرون من النقاد والدارسين عن سينما عاطف الطيب, وسوف يقومون بتحليل أفلامه في حقبة الثمانينيات, فهم متخصصون في هذا المجال, ولكن ما أكتبه هنا عن عاطف الطيب, ليس نقدا ولا تحليلاً, بل صورة قريبة عنه, لمستها وعايشتها, ووجدت من الواجب علي أن أسجلها ليعلم الجميع كم كان إنساناً وفناناً معاً, خاصة ونحن من جيل واحد آمنا وعملنا بمبادىء ثورة 23 يوليو, وعشنا نهضتها وانكسارها وكل منجزاتها.

البدايات

عندما كنا طلبة في الستينيات بالمعهد العالي للسينما, كان عاطف يسبقني بعام, لم نكن أصدقاء فقط, بل ربطت ما بيننا زمالة الدراسة, كان هادىء الطباع تكاد لا تشعر بوجوده, بعكسي فقد كانت لي أنشطة متعددة. وبعد التخرج كنا نتقابل مصادفة فأعرف منه أخباره ونشاطه, حتى دخل الخدمة الإجبارية بالجيش, وفي هذه الفترة أخرج فيلماً قصيراً عام 1972 باسم (جريدة الصباح) لا يزيد زمنه على أربع دقائق. لكنه لفت إليه الأنظار لما يحتويه من تناقض حاد بين ما يكتب كل صباح في الجريدة وما يعيشه ويلمسه عامة الناس, وفي عام 1979 أخرج فيلما قصيرا باسم (مقايضة) في وحدة الأفلام التجريبية التي رأسها أستاذنا الراحل شادي عبدالسلام, وكان يدور حول فلاح بسيط من الأقصر يجمع محصوله ليبيعه في السوق ويشتري راديو صغيراً يتعرف به على العالم الخارجي والدنيا البعيدة, كان الفيلم تعبيرا بالغا عن أحلام البسطاء من الشعب المصري. ثم عمل عاطف كمساعد مخرج مع بعض المخرجين وبالذات في الأفلام الأجنبية التي تصور في مصر, والتقيته مصادفة في شارع سعد زغلول بالإسكندرية خريف عام 1980, وأخذنا الحديث عن قراره بإنتاج فيلم روائي, فقد ادخر قليلا من المال, ويريد أن يجرب حظه في إخراج ذلك الفيلم. حديث عابر بين زملاء دراسة يحدث دائما وبالذات حين تكون أحلامهم الفنية محبطة, أما بالنسبة لي فكنت قد تقدمت خطوات وأصبحت مديرا للتصوير, معروفا نسبيا ببعض الأعمال التي لفتت النظر, وعملت مع مخرجين من الشباب أمثال علي عبدالخالق, ومحمد خان, وأشرف فهمي, وأحمد فؤاد, وأستاذنا هنري بركات, وبدأ خريجو معهد السينما يشقون طريقهم في مختلف الفروع السينمائية, محاولين إثبات الذات, وإعطاء طعم ودم جديد للفيلم المصري. وأثناء وجودي في ستوديو الأهرام وتصويري لفيلم (طائر على الطريق), جاءني يحمل ابتسامته العريضة الساحرة التي لم تفارقه أبدا, وفي يده سيناريو يطلب مني قراءته, فقد قرر أن يخرج أول أعماله الروائية.

وكنت صريحاً معه صراحتي مع أي مخرج أعمل معه, فالعمل السينمائي عمل مشترك, نجاحه يتحقق من مصداقيته, وأول شروط هذه المصداقية, أن يتم تبادل آراء صريحة عن العمل بين عناصره الفنية الأساسية, وحيث إنني رأيت ضعفا في السيناريو, صارحت عاطف بذلك, فهو في رأيي سيناريو تقليدي, ومبني على ثالوث المرأة والخيانة والشك والرجلين, وهو فيلمه الأول (الغيرة القاتلة) 1981. تناقشنا كثيرا ووجدت أنه مصر على البداية والعمل, فقلت في نفسي ما علي إلا المساعدة بكل ما أملك لزميل في فيلم ضعيف لن يكون استهلالا جيدا لمخرج يبدأ أول أعماله الروائية.

وبدأنا العمل, وكانت المفاجأة بالنسبة لي, حين وجدت نفسي أتعامل مع مخرج على وعي رفيع بلغة الفن السينمائي, متمكن لأقصى حد من جميع أدواته الفنية من ممثلين وتصوير وديكور, بل حتى بالرغم من أننا كنا نقوم بالتصوير خارج البلاتوهات فإنه أصر ـ والفيلم من إنتاجه ـ على الاستعانة بمهندس ديكور ومنسق مناظر من خريجي المعهد الشباب مثلنا, فاستعان بالزميل الفنان رشدي حامد, وانطلق عاطف ليجعل من ورق السيناريو البسيط, رؤية فيلمية بصرية جميلة ومؤثرة, ويظهر الموضوع التقليدي بنبض حي وإيقاع لاهث. صارحته في الأسبوع الأول من التصوير بإعجابي بموهبته التي فاجأتني, وأسلوبه في تنظيم فكره وعمله السينمائي, والأهم من كل ذلك إنسانيته في التعامل, وسأعطي مثالا بسيطاً لنعرف من هو عاطف الانسان قبل الفنان, كان الفيلم حسب الخطة الموضوعة يتم تصويره في أربعة أسابيع بين القاهرة والإسكندرية, ويعمل أغلب العمال الفنيين بأجر أسبوعي في الأفلام, ولظروف طارئة ومرض بطلة الفيلم الفنانة (نورا) قمنا بتكثيف العمل فانتهى التصوير في ثلاثة أسابيع ونصف, وخسر جميع العمال نصف أسبوع من أجرهم, وهذه أمور طبيعية في صناعة الأفلام, إلا أني وجدت عاطف يعطي العمال أجر نصف الأسبوع الباقي مكافأة على إخلاصهم وتفانيهم في العمل, وكنت أعلم أنه في ضائقة مالية شديدة وأنه اقترض أموالا من أحد الأصدقاء حتى يفي بتكاليف إقامة الجميع بالإسكندرية.. ومن هذا المثال البسيط نجد خلق عاطف متمثلة بعد ذلك في كل تعاملاته وأعماله, فقد كان دائما مع الناس.. مع البسطاء الكادحين الشرفاء.

وأصبحنا أصدقاء مقربين, لأني وجدت فيه كل ميزات الإنسان الذي أحب مصادقته, وكان لقاؤنا الأول في هذا الفيلم, عبارة عن شق لطرق فنية معاً, كان يطرح علي تصورا ما لتنفيذ مشهد جيد, وأعرض عليه أسلوبا جريئا للإضاءة لمشهد آخر, وهكذا مضى هذا العمل وهو إن لم يكن يعد من أهم أفلام عاطف, إلا أنه بالنسبة لي كان العمل الذي قربني من هذا الكنز البشري.

انفجار سينمائي

اندمج عاطف معنا أنا ومحمد خان وبشير الديك والمونتيرة نادية شكري, وأصبحنا أصدقاء مقربين تتشابه أحلامنا وتتقابل ويعلو صوتنا أثناء تسكعنا في طرقات مدينة السينما بالجيزة, لتظهر فكرة طازجة لمحمد خان يكتب لها السيناريو بشير الديك باسم (حطمت قيودي) التي أصبحت بعد ذلك فيلم (سواق الأتوبيس) أو المولد الحقيقي لعبقرية هذا المخرج الشاب.

كان السيناريو ممتازاً, إلا من النهاية, التي جعلت الأب يعيش, فنقلت وجهة نظري لعاطف وبشير بأن موت الأب يثري الحبكة الدرامية للفيلم, فوجدت أن ذلك فعلا يجول في عقليهما وكان, وبدأنا جميعا العمل في هذا الفيلم بروح غريبة فيها طموحات لا نهاية لها, وأصبح عملنا معا يحمل صفات التفاني في إعطاء أكثر ما نملك من عطاء, عاطف قائد لنا نعمل معه في سيمفونية جميلة الإيقاع, أحببنا الفيلم وعاطف معاً, أحببنا إخلاصه, وسعيه للحفاظ على روح الإنسان المصري بعيدا عن تلوث المادة.

كانت الصعاب تواجهنا بقسوة ولكننا ندهسها ونخطو فوقها ونمضي لصعاب أكبر, ونسعد بتحطيمها, وأقصد بالصعاب عملية التنفيذ العملي للفيلم, فعند تحويل المكتوب الجميل على الورق في السيناريو إلى صورة, يجب أن تواجه في الواقع اليومي أثناء التصوير مشاكل جمة. كان عملنا يبدأ من الرابعة فجراً ولا نعلم متى ينتهي, كان الوقت يمر ولا نشعر, أصبحت مجموعة العاملين في الفيلم أسرة غريبة لم أجدها في أي فيلم من قبل, وهذا يرجع لشعور فياض غمرنا. لقد أحب الجميع الفيلم ومخرجه الجديد بشكل مثير للدهشة, كنا نقتحم الشوارع والأماكن الطبيعية الحقيقية وسط كثافة سكان حي شبرا في القاهرة, ومعنا ممثلون معروفون كعماد حمدي وميرفت أمين ونور الشريف وغيرهم, بمعاناة شديدة, ولا نكل أو نهدأ, عاطف يدخر فناً ولا يستسهل, ويصر على رؤيته وذلك أمر رائع في التعامل معه, يشجعك ويفجر طاقات إبداعية بداخلك مادام ذلك في صالح العمل في النهاية, ويقف بكل صلابة ضد أي شيء يمكن أن يعيقه, وكمثال أنقل لكم مشهداً مر في ثوان على الشاشة في فيلم (سواق الأتوبيس) لنعلم كيف يكون المخرج ذا رؤية نفاذة, من الممكن أن تحرك وتشحذ المصور, ففي أحد مشاهد الفيلم يخرج بطله من شقة أبيه مهموما من حالة الإفلاس, ليتذكر طفولته السعيدة وهو يهبط درج منزله وطلب مني عاطف أن أفكر في كيفية خلق هذا الحلم في لقطة واحدة, بحيث يتداخل الزمانان ـ معا ـ صورة وصوتا, وبدون قطع للصورة أي في لقطة واحدة مستمرة, وتذكرت مباشرة أعمال المخرج السويدي (أنجمار برجمان) الفنية الرائعة في استعمال هذا الأسلوب وبالذات في فيلم (الفراولة البرية), تحرك التحدي والتمرد في داخلي وبطل هذا التحرك هو عاطف لأنه يعرف كيف يفجر موهبة المصور أو الممثل أو أي مهنة سينمائية أخرى, وكنت مستعداً ونفذت اللقطة الجميلة له بأن حملت الكاميرا على يد ومرشح (فلتر) متعدد الكثافة الضبابية على اليد الأخرى لأضعه أمام العدسة, وقمنا بطلاء نصف السلم باللون الأبيض الناصع, بحيث يدخل هذا اللون عند انحراف بطل الفيلم في أحد أركان السلم, ثم أزيح بيدي المرشح لتصبح الصورة ضبابية بيضاء تعطي إيحاءات الماضي, وفي الانحراف الثاني وهو واقع الدرج الحالي أسحب المرشح لنرجع إلى واقع اليوم والحدث.. لقطة بسيطة للغاية لا تستغرق على الشاشة أكثر من ثوان معدودة ولكنها تحمل فكراً وتنفيذاً وعطاء بشكل كبير.

ومن هذا الفيلم ظهر ميل عاطف للالتصاق بقضايا أهله ومواطنيه والطبقة البرجوازية الوسطى, التي هي محركة ومؤثرة في أحداث الشعب المصري حاليا, هذه الطبقة التي ينتمي إليها وننتمي إليها جميعا بصورة أو بأخرى.

ويلفت عاطف نظر الجمهور والنقاد وزملائه في المهنة, ويحدث هزة صادقة في السينما المصرية, وكمثال لذلك أنقل رأي الناقد مدحت محفوظ الذي كتبه في عدد أبريل من (مجلة الفنون) عام 1984:

(سواق الأتوبيس يعطينا أملاً جديداً في واقعية جديدة. أخلصت للواقع أكثر من الأفكار, أيضا لتفاصيل الحياة من الساق النحيلة لخيوط الدراما, والتأمل في هذه التفاصيل المتناثرة لا ينتهي أيضا, ومن منا لم تلفت نظره تفاصيل كل ما حدث في بورسعيد ودمياط. أسلوب الحديث والميول والاندفاعات الشخصية والطابع المحلي والتأثير المنفرد للمال السهل على هذه الأسرة أو تلك, انتهاء بتفاصيل تناول الطعام وتلك المسبحة في يد تاجر الأثاث البخيل. ومن منا لم تلفت نظره تلك الالتفاتة الكسيرة من المعلم سلطان (عماد حمدي) لوجه ابنه العائد أو لتاجر المخدرات السابق الذي يعرض أمواله عليه, أو أيضا تلك اللحظات التي يختار فيها الرجل العجوز الصمت. تأمل أيضا تفاصيل الصفاء في علاقة (الكمساري) بحسن أو أخته, أو بسلوكيات (حسن) كسائق للأتوبيس أو للتاكسي, أو تأمل ذلك الحديث العابر عن تاريخ الورشة وما يلفتنا إليه من حركة التصنيع الوطني, هذه كانت نماذج قد يعتبرها البعض من قبيل (الزوائد) أو حتى (الحرفة) بينما تمثل رؤية فنية أصيلة لها مدارسها العالمية.

هموم البسطاء

كان مهموماً بالناس البسطاء, الذين يواجهون الظلم أو ظروف الحياة الاجتماعية المعقدة والمتغيرة إلى الأردأ, أو الناس في مواجهة السلطة عندما تتوحش وتصبح أداة للقهر. صورت معه ثمانية أفلام من مجموع ما تركه لنا من أفلامه الواحد والعشرين في أربعة عشر عاماً, واعتذرت له كثيرا لظروف خارجة عن إرادتي, حتى أني تعاقدت مثلا على فيلم (الزمار) ولكن لخلاف مع منتجه اعتذرت فلم يغضب مني ولم يعاملني بشكل مختلف مثل بعض المخرجين الذين إذا قدمت لهم اعتذارا يعتقدون أنني قد أخطأت في حقهم.

وحين أتأمل مشوارنا الفني معا, أجد أنه كان يرتقي المجد بسرعة كبيرة من فيلم إلى آخر (التخشيبة) عام 1983 وكيف يمكن تدمير سمعة وحياة إنسان باختلاق الأكاذيب والادعاءات, لتصبح هذه الأكاذيب مستندات وأوراقا حكومية لها المصداقية عن الشخص, وتتسلط على رقاب الأبرياء, (الحب فوق هضبة الهرم) عام 3891 وأزمة الشباب بسبب البطالة المقنعة, وحقهم في حياة كريمة لا يجدونها أمامهم بسبب التغيير الذي طرأ على الحياة الاجتماعية والاقتصادية, ومثلما عرضها أديبنا الكبير (نجيب محفوظ) في روايته, تعامل عاطف الطيب في هذا الفيلم بأسلوبه المفضل الواقعي, كان يحمل شجناً مرئياً يظهر البعد الذي ينظر من خلاله للمشكلة, وهو وإن كانت المشكلة داخلية بحتة, إلا أن المؤثر الفعال فيها هو الحالة المحيطة بمصر والأخطار التي تهددها من الخارج كانت أحداث اجتياح اسرائيل للبنان واحتلالها عاصمة عربية ومحاصرتها للمقاومة الفلسطينية في ذروتها ـ وقد عبر عن ذلك في لقطة عابرة مرت كالشعر المنثور. ففي لقطة من الفيلم تجتمع الأسرة على العشاء ويثرثر التلفزيون بالأخبار المؤلمة, العشاء أطباق بسيطة من الباذنجان والبطاطس والفول, وهو أكل الكادحين المصريين, والأخبار تتواصل عن عجرفة الغاصب الاسرائيلي, والازمة تلاحظها في هذا البيت المصري المتواضع, وفي مواضع كثيرة من هذا الفيلم تظهر عبقرية هذا المخرج الملتزم الواعي بتكنيك يبدو سهلاً ولكنه من فصيلة السهل الممتنع الذي يدخل الى قلبك وإدراكك ويعتصره عصراً.

وبقي عاطف برغم شهرته التي بدأت تسطع, هو الإنسان البسيط المتواضع, نأكل معا من عربات فول الصباح في أزقة وشوارع القاهرة, أو نتوجه إلى ساحة سيدنا الحسين (رضي الله عنه) بعد يوم تصوير ناجح نأكل البليلة الساخنة ونشرب الشاي الأخضر في مقهى الفيشاوي, وكان ينهل من الحياة والفن بسرعة وبروح وثابة سريعة, ويوما قال لي ستصور فيلما جميلاً للسيناريست (وحيد حامد) وهو فيلم (البريء) ولكن حمل له الفيلم برغم روعته الكثير من المشاكل مع السلطة, وتدخلت الرقابة وحذفت منه النهاية التي صنعها بحب وبعض اللقطات وأثر هذا كثيراً فيه, لأنه مع الناس وليس ضدهم ولكن ذلك جعله أكثر صلابة في اختيار موضوعاته, وقرر أن خندقه وهدفه هو مع الناس البسطاء حتى آخر رمق.

القلب العليل

في عام 1985 بدأنا تصوير فيلم (ملف في الآداب) لوحيد حامد أيضا, عن تلفيق تهمة الدعارة لمجموعة شريفة من البنات العاملات.

ويسقط عاطف أمامنا مريضا بالقلب, كنا نعمل كعادتنا عشرات الساعات ومن دون راحة, وفي إحدى الليالي وجدته يناديني وهو مصفر الوجه طالبا المساعدة في سحب مقعد ليجلس عليه, كان مرهقاً للغاية ويتنفس بصعوبة, استدعينا طبيبا من نفس العمارة التي نصور فيها في ميدان الجيزة, وقمنا ببعض الاسعافات الخائبة الأولية, لنعلم من الطبيب أن هناك مشكلة في أحد صمامات القلب, وبدأ عاطف مشاكله مع قلبه المهموم بحياة الناس, أصبحت أنا أقلل من كثافة وإيقاع العمل اليومي, حفاظا على صحته, ألا أنه يضيق من ذلك كثيرا, أفهمته أنني أفعل ما أفعله حتى يكتب له الشفاء ولكن ذلك ضد إرادته, كانت علاقتنا تسمح بإيقاف العمل إذا وجدته مرهقاً, ولكنه كان يسابق الزمن, يأخذ العلاج ويتحسن كثيرا ولا يعلم بمرضه هذا إلا أقرب الناس إليه, واستمرت الحياة تسرق أيامنا في دوامة العمل والأفلام.

واستمر قلب عاطف يعطي للسينما بلا حدود, ويعمل بجدية لا تنم عن علة فيه, وقد أحسست أثناء عملنا في فيلمي (كتيبة الإعدام) عام 1988 و(ضد الحكومة) عام 1992, أنه لا يرحم هذا القلب المريض ويجهد نفسه أضعاف ما كنا نفعله في أفلامنا الأولى, تكلمت معه وكان يدعي أنه لا يشعر بأي تعب, وبالطبع لم يكن صحيحاً, كان ينتحر سينمائيا, وكانت مقولته الدائمة لي (الحياة قصيرة).

تشاجرنا من منطلق الخوف عليه ولا فائدة, مراراً قلت له إذا سقط مريضا فلن يقف بجانبه أي منتج.. ولكن هيهات, تبلور داخلي شعور كئيب بأن صديقي الذي أحبه لن يعيش طويلاً, حقا إن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى, لكن ماذا تفعل في نفسك يا عاطف??.

وعندما بلغني نبأ انتقاله إلى الدنيا الباقية في صباح يوم مؤلم, أخذت زوجتي تنوح وتبكي بحرقة شديدة, أما أنا فتحجرت الدموع في عيني ولم أستطع البكاء, تعجبت زوجتي من موقفي الغريب هذا, وزاد من تعجبها أنها رأتني منذ عامين أثناء مشاهدة حفل توزيع جوائز الأوسكار الامريكية على شاشة التلفزيون أبكي بمرارة على المخرج الهندي العظيم (ستيا جيت راي) حين تم تكريم أعماله وهو على فراش الموت ونقلت صورته الأقمار الصناعية وهو يحتضر.. قالت لي زوجتي: أنت تعرفه!

قلت: شخصيا.. لا.

قالت: إذن لماذا تبكي؟

قلت: أعرف أعماله وأشاهد الآن رجلاً عظيما ينتهي, فنان أحس بآلام مجتمعه وعبر عنها وقال يوما (إن لم تكن الأفلام, موضوعها الناس, فهي لا تقول شيئا إذن).

كبرياء عاطف الطيب منعه من أن تعالجه الدولة بالخارج, فهو صعيدي من مصر العليا.

قالت زوجته الفاضلة: عندما دخلنا المستشفى لم يكن معنا كل المبلغ المطلوب, فطلبت إدارة المستشفى منه تكملة باقي الحساب مقدماً فقال عاطف ساخرا: أهه.. عندكم الجثة ابقوا احجزوها!!.

عندما تقدم بخطى ثابتة مع زوجته وأخيه إلى غرفة العمليات توقف وقال لهم: هل تسمعون?, قالوا: نسمع ماذا ؟ قال: الموسيقى ألا تسمعون الموسيقي?! قالوا كذبا: نعم نسمع!!.

ولم تكن هناك موسيقى, ولكن تراجيديا تفوق كل ما كتب في الإلياذة والأوديسة لهوميروس, في الأيام الأخيرة من عام 1994 سجلت للتلفزيون المصري أمنياتي للعام الجديد, فتمنيت لعاطف الطيب بمناسبة حصوله على جائزة أحسن إخراج من مهرجان القاهرة الدولي.. مزيدا من النجاح والصحة.

وفي اليوم الثاني لوفاته أذيع عنه برنامج إذاعي قالت له المذيعة فيه: سأهديك مجموعة من العدسات المختلفة, قال: وأنا سأهديها لسعيد شيمي فهو مولع بحب الكاميرات والعدسات.. وعندما سمعت الحديث انسابت دموعي دون توقف ودخلت في حزن عميق بلا حدود وأيقنت أننا فقدنا فارساً عظيماً من الفنانين الكبار في تاريخ مصر, وأحد الذين ساهموا في إثراء حياتها فنا وحباً مثل المثال محمود مختار والموسيقي فنان الشعب سيد درويش والشاعر أمل دنقل والفنان الناقد سامي السلاموني.. عاشوا فترة زمنية قصيرة.. ولكنهم أعطوا لوطنهم بسخاء.

وإذا كان التراب قد وارى عاطف الطيب, فإنه بقى روحاً وفناً والتزاماً وسيرة, ومنذ 2680 عاما قبل الميلاد, قال الحكيم المصري (سنب حوتب) من الأسرة الرابعة (حافة القبر ليست نهاية الوجود, بل هي باب يغلق على الحياة ويفتح على الخلود). وخلودك يا عاطف دائم فأنت من نبت مصر الصلبة.

 

 

سعيد شيمي

 
  




خلف الكاميرا في فيلم سواق الأتوبيس





السيدة زوجته تلاحقه بالدواء في أماكن التصوير





في إحدى حفلات التكريم حيث تعلو وجهه الابتسامة