أناقة الفن في منحوتات السجيني

أناقة الفن في منحوتات السجيني

إذا كان الفنان الراحل محمود مختار هو العلامة الأولى في تاريخ فن النحت المصري المعاصر، فإن جمال السجيني وضع العلامة الثانية فيه.

وإذا كان فن (مختار) تجسيداً لتطلعات ثورة 1919 فإن فن (السجيني) كان تجسيداً لأحلام ثورة 1952. ولأن الفن بطبيعته اجتماعي الخطاب, فردي الإبداع, فلابد من وجود تميزات وتمايزات بين مبدع وآخر. كان فن (مختار) موصولاً بالإرث المصري الكلاسيكي. وبفكر تغلب عليه المثالية, بينما تعددت وتنوعت منابع الاستلهام عند (السجيني) من الإرث المصري القديم إلى الإسلامي والقبطي, وصولاً إلى إنجازات مبدعي فن النحت المعاصر في أوربا, مروراً بتجليات الفن الشعبي والفطري.

ولم يكتف بفن (التمثال) بل قام بدراسة فن الميدالية وسك النقود, وفتح الطريق إلى التعامل مع خامات لم تكن مألوفة في النحت المصري, وأبدع فيها من الأعمال ما يشهد بامتيازه, منها على سبيل المثال: مطروقاته النحاسية الرائعة. ولم يكتف بالنحت بل امتد إبداعه إلى الرسم والتصوير. وفيما تتجلى أعمال (محمود مختار) في صور تتسم ـ في مجملها ـ بالوقار والأناقة والرقة, وبنبرة غنائية هادئة, فإن أعمال (السجيني) تبدو صاخبة الصوت, مفعمة بالحركة, مغموسة في روح ناقده, ونافذة إلى هموم الواقع الاجتماعي والسياسي, كاشفة في الوقت ذاته عن براعته, وهضمه لأسلوب الوصف (الأكاديمي), والأساليب الحداثية, مستخلصا منها ملامحه الأسلوبية الخاصة. وأزعم أن مجالات إبداعاته المتنوعة كانت المعبر إلى تخصصات فنية ظهرت في مصر. وعلى الرغم من الاختلافات التفصيلية بين هذين الفنانين الفذين فإن روح الإرث المصري القديم قد أسبغت على إبداعاتهما ميلاً إلى البناء لا الهدم, ولم تفعله تلك الروح مع هذين الفنانين فقط بل أسبغته على الفنون التي ظهرت في مصر, الفنون القبطية والإسلامية. الأمر الذي لم يلتفت إليه صناع القرار الثقافي وهم يزرعون (شتلات) من (التغريب) في تربة (صالون الشباب).

(الأرحام الحاوية)

من أكثر منحوتاته الفراغية جذباً للعيون والمشاعر, تلك التي دارت حول موضوع (الأمومة). وتظهر الأم راسخة كالطود, مفعمة بالقوة والأنوثة معاً, تمنح صغيرها الأمان والحماية. وهي تتجلى في صور وحالات مختلفة, فتارة تنتحل شكل العمارة الريفية, وتارة تصبح كياناً عضوياً, أنثوياً, يحمل في رحمه طفلاً جنينياً.. أو تحمل بقبضتين قويتين مولوداً قد تخلق منها, وأحياناً يختار الفنان أن يكتفي بالايحاء, ويقف في منطقة وسطى (تصل وتفصل) في آن واحد, بينها وبين علائقها في الواقع المألوف, ويجعل من عمارته الريفية وحدة واحدة, تجمع في إحكام بين المأوى والإنسان, وتتجلى في هيئة امرأة مضطجعة.

وتظهر ـ أحياناً ـ ثنائية (الإنسان والعمارة) في صورة مغايرة لغيرها من الأعمال, متسمة بالوضوح والمباشرة, كما في منحوتة (أهل القرية), حيث يوحد الفنان بين بناء معماري متماسك ووجوه أهل قرية مصرية, يحتل فيها وجه شيخ الخفر (السلطة) موضع البؤرة, ويستقر في الذروة وجه رجل الدين الذي يمثل في عليائه منارة تهدي الناس إلى طريق الخير. وتتشابه كل عيون النساء والرجال ـ ما عدا عيني رجل الدين ـ مع فتحات النوافذ. وإذا كان (الظاهر) من موضوع (الأمومة) الذي اهتز له وجدان الفنان هو حالة الأمن والدفء, فهناك في الحقيقة من الإيحاءات ما هو أعمق من هذا البعد الظاهر.. أعني: فكرة (الخلق والتكوين), فالطفل محاط بكيان أقرب إلى الرحم, وحتى عندما يكبر فإن العمارة تحيطه بأقواس تشبه الرحم, وربما يكون المثال (السجيني) قد تأثر بأقواس المعماري الكبير (حسن فتحي) في عمائره الطينية, واستلهمها في أعماله النحتية, وجعل منها أحضاناً حنونة للتكوين والميلاد. وتمتد ثنائية: (الحاوي والمحتوي) إلى بعد أسطوري, يذكرنا بقصة يونس والحوت, وهو يذكرنا بهذا ـ أحياناً ـ دون أن يلجأ إلى الاستعارة المباشرة, بل يستعين بما في (الخطوط المجردة) من شحنات أولية, فيستعين للإيحاء باحتواء شكل لشكل, بالخطوط القوسية, اللينة, العضوية.. كما في لوحة من لوحات الطبيعة الصامتة التي يمكن أن نطلق عليها العنوان الوصفي: (السمكة والقفه).. واللوحة تمثل في بعدها الظاهر (سمكة وقفه) ومن يرد أن يتوقف عند هذا الحد فهو حر, غير أنه سيصيب متعة لو أمكنه قراءة لغة الخطوط والألوان, وسيمدد الإيحاء من علاقة (الحاوي والمحتوى) بين القفة والسمكة إلى أفق الأسطورة وأبعادها. ويبدو أن قباب العمارة الطينية, برقتها, وشعريتها, قد ألحت على وجدان الفنان, فخصها بعدد من منحوتات معمارية مجردة, ورامزة بلونها الطيني, وملامحها الجوهرية إلى العمارة الريفية المصرية. ففي منحوتته (عمارة فطرية) بناء أشبه بألعاب الذهن الذكية, بين الفراغات البينية, والكتل الحاوية, والجذوع المرتكزة على الأرض والتي تشكل فيما بينها قاعدة للتمثال. نلاحظ أن المشهد النحتي رغم متاهيته ينتمي إلى جوهر بيئة مصرية أصيلة. يذكر بعض نقاد (السجيني) بأن حوار (الكتلة والفراغ البيني) قد استلهمه من المثال الإنجليزي العالمي (هنري مور), ولا عيب في هذا إن كان صحيح اً, فالتأثير والتأثر مشروع في الفن وغير الفن. المهم هنا أن (السجيني) قد نجح في إقناع مشاهديه ـ وأنا واحد منهم ـ بأن ما نراه أصيل في بيئتنا, ومتسق مع طبيعة شخصية (دينامية), تسمح له بأن ينتقل حراً بين درجات الوضوح والإبهام, وبين ألوان التجريد والتشخيص. وفي ظني إنه كان يدرك أن الحقيقة الواحدة, تضمر وتظهر, عشرات الأوجه والزوايا, ويفرض هذا التعدد دروباً مختلفة من التفسير. غير أن هذا التعدد, والتنوع, لم يفقده, في عمل واحد من أعماله, انحيازه إلى مصريته. وأذكر أنني عندما اقتربت من مدخل قاعة العرض الزجاجي, ولمحت بعض منحوتات الأمومة تطل عبر الزجاج, شعرت ـ أو بدقة ـ فوجئت بشعور ينتابني وهو أنني لاأدخل قاعة عرض أنيقة تطل على النيل, بل أدخل قرية مصرية!.

صياغة التفاصيل

إذا انتقلنا إلى مطروقاته النحاسية ـ وهي في الزمن أسبق من (الأمومة) فسنجد حالة عامة مغايرة, ففي مجموعة (الأمومة) ترجيح للتأمل, وانصراف عن المباشرة, وابتعاد عن النقد اللاذع الذي تجلى في المطروقات, وزهد في تكاثر العناصر الحكائية, ورغم ذلك فقد أجمع نقاده على أن المطروقات تمثل بالنسبة للنحت المصري إضافة, لما بلغه من درجة رفيعة في السيطرة عليها لم يسبقه إليها فنان مصري آخر. تألقت قدرته في بناء التكوينات, وصياغة التفاصيل الزخرفية, والتفاصيل السردية, والملامس المتنوعة, مما جعل البعض يظن أن مطروقاته التي يغلب على بعضها الاهتمام بالزخرفة, تستعير من طراز الـ ART DECO احتفاله بجماليات الزينة, وحقيقة الأمر أن صياغات (السجيني) لا تتوقف عند حدود الأناقة, ولا تنحصر زخارفه في إطار الجمال الشكلي, بل تتخطاه إلى الترميز إلى بيئة بعينها, وواقع ثقافي محدد, وأوضاع يراد لها أن تتغير, ففي مطروقة (دعوة إلى اقتحام المستقبل) يمتلىء سطح المطروقة بزخارف ورموز تؤكد أن عالم اللوحة عالم مصري/عربي/ إسلامي.

لهذا استعان بجماليات الحروف العربية, وبمعمارية الآثار الإسلامية, وبالنخيل وبالعمائر الفطرية, وبما يوحي بنهر النيل. وسط كل هذا الحشد من الرموز والإشارات تنهض امرأة, من ملامح عينيها, ولباسها, نعرف إنها مصرية/ عربية. ترفع يديها رفعاً يلامس النجوم, وتدعو بهما من لا نراهم خلفها أو بالأحرى تدعونا ـ نحن ـ إلى التقدم. وهي نفسها فلاحة (مختار) بعد أن تجاوزت موضعها الساكن إلى جوار أبي الهول, إلى فعل الجهاد من أجل المستقبل, وهي في الحالين: عند (مختار) و(السجيني) تمثل مصر. وإذا كانت مصر عند (مختار) فلاحة وحسب, فإنها تتعدد, وتتنوع عند (السجيني) في الصورة المرئية, وفي الحالات الموحى بها. لهذا استعار وسيطاً آخر غير المرأة/ الأم, العفية والخصبة, وأتاح له أن يرمز إلى معكوس دلالته في الواقع, أعني: (عروسة المولد), فهي في واقعنا رمز للبهجة, وفي لوحاته تفاجئنا بحالات تعبيرية غير متوقعة, تتراوح بين الانكسار, والتحدي والانتصار.

تتعدد أماكن العروسة, فهي تنتقل من النحاس المطروق إلى مسطحات القماش والألوان الزيتية, دون أن تتخلى عن حالاته التي تعكس هموم الوطن وقلقه من غزو خارجي, وفساد داخلي, ففي مطروقة (العروسة والثعبان) تظهر (العروسة) محاطة بكل ما يمتع العين من زخارف تستلهم أشكالها من الحروف العربية, والزخارف النباتية, والهندسية. وتبدو الدمية المسكرة وجعلها تنتحل صفات رامزة إلى إنسان الواقع المصري, وحالاته الناشئة من ضغوط هذا الواقع. ضم سطح المطروقة من (العلاقات) ما جعله سطحاً جميلاً, وأنيقاً, وضم من (الأفعال) فعلاً يكشف صراحة عن العنف. وكان (السجيني) حريصا على الاثنين معاً: أناقة الشكل, وعنف الدلالة.

ويبدو أن (الجمال) قد أغواه, فاكتفى من العنف بما يوحي بالمعنى, ولم يسمح بأن يخل هذا الفعل بأناقة الشكل, بل جعله خادما له, بأن أظهر الثعبان ـ رمزه الذاتي للشر ـ يلتف حول نفسه إشارة للألم, واعترافا بالهزيمة أما قبضة (الدمية ـ الإنسية), وإثراء ـ في ذات الوقت ـ لجمال التكوين الذي كان سيقع, حتماً بغير هذا الالتفاف, في دائرة التناظر الممل.

ولأن تلك العروسة قد صاحبته في (النحت) و(التصوير) فقد أعزته تلك الصحبة بالتجريب باستخدام خامات مختلفة في العمل الفني الواحد, وهو أمر مألوف في الإبداع العالمي, غير أنه كان جديداً في الفن المصري المعاصر, ولست على يقين من أن (السجيني) كان أول من طرق بابه. المهم إنه استخدم مع الألوان الصريحة خامات منها: الخزفيات المزججة, والعجائن الكثيفة, والرقائق الذهبية والفضية ويبدو أنه في استخدامه (عروسة المولد النبوي) رمزاً للتعبير عن أحوال مصر, لم يرد لنا أن ننسى أن العروسة مجرد دمية, أوجدتها الأعراف الشعبية.. غير أن الأمر يختلف عنده عندما يستخدم الإنسان وسيطا للتعبير, عندئذ ترتفع نبرة السرد الحكائي, والرأي المساند للتوجهات الأولى لثورة يوليو, مثل مطروقة (شجرة الحكم) التي تمثل شجرة عاتية, تتعلق فيها كل موبقات النظام الملكي, ويظهر الفلاح عملاقاً, ورمزاً للشعب المصري, وهو يسقط الشجرة بساعدين مفتولين. توازيها مطروقة أخرى تمثل بصمة قدم ساحقة في وجه ملكي!.

أشرعة النيل

عاش (السجيني) إلى جوار النيل, ولا يزال بيته قائماً في مكانه. وبرغم عشقه لهذا الجار الخالد, فلم يظهره صراحة في أعماله, بل كان يسمح له بالتسلل عبر الإشارات والرموز, فتارة يستعير الشكل الزجزاجي الذي ظهر في الرسوم المصرية القديمة إشارة لحركة سطح النيل, وتارة يظهره لنا عبر إشارات الأشرعة التي تتراوح بين (الاقتراب) من الواقع, والانغماس في درجة من درجات التجريد (الموندرياني) ـ نسبة إلى (موندريان) ـ حيث يحتفل بتشابكات الخطوط الهندسية للأشرعة, وإن اتسمت تلك الاشتباكات الخطية واللونية بطابع عاطفي دافىء, على النقيض من هندسيات (موندريان) الذهنية. وللنيل حكاية حزينة مع (السجيني), ففي فورة من فورات غضبه على وضعه, ووضع الفنان الحقيقي في مصر, قذف بمجموعة من تماثيله إلى جوف النيل. ومع الأسف لم يحفل بهذا الفعل غير الصمت والإهمال!.

تنبيه ختامي!

بقدر سعادتي وأنا أشاهد أهم المعارض التي أقيمت في مصر منذ سنوات, شعرت بحزن وأنا ألمح العلامات الحمراء على بعض الأعمال المهمة, لأن العلامة الحمراء تعني أن العمل قد بيع, وبصيغة أدق: تاه. وكان الواجب أن يقام لهذا الفنان العظيم متحف, مهما تكلف من مال. ومع الأسف ـ أيضاً ـ حدث, ويحدث, أن فنانين كانوا يمتلكون من المال أكثر مما كانوا يمتلكون من الموهبة, واستطاعوا بالمال أن يقيموا لأنفسهم متاحف تحمي أعمالهم, وأهدوها للدولة. ولم يكن (السجيني) رجل مال, بل رجل فن.. وظل لفترة طويلة يذهب إلى الكلية على دراجة في الوقت الذي كان يركب بعض تلاميذه عربات فارهه!.

 

محمود بقشيش

 
  




الفنان جمال السجيني





عمارة تجريدية





دعوة إلى اقتحام المستقبل





أحد أعمال السجيني





العروسة والثعبان للفنان جمال السجيني