عبقرية الماضي.. وتطلعات المستقبل: أسوان والأقصر.. رحلة للزمن القديم

تصوير: طالب الحسيني

تقع محافظة أسوان جنوب جمهورية مصر العربية ويحدها من الشمال محافظة قنا وشرقاً محافظة البحر الأحمر وغرباً محافظة الوادي الجديد وجنوباً جمهورية السودان عند خط عرض 22 شمال خط الاستواء، وتقع مدينة أسوان عاصمة المحافظة على الشاطىء الشرقي للنيل حيث يقع جزء منها على السهل الذي يحف بالنيل والآخر على التلال التي تمثل حافة الهضبة الصحراوية الشرقية، وترتفع مدينة أسوان حوالي 85 مترا فوق سطح البحر وهي تبعد 879 كم عن القاهرة وتبلغ مساحة المحافظة 34608 كم2.

هنا.. على أرض صعيد مصر.. تلتقي عبقرية الماضي، وأمجاد الحاضر، وأحلام المستقبل..

إن النيل الذي نسير الآن فوق شطآنه، كان دائما صاحب الكلمة العليا. هو الذي صنع الحضارة، وسقى الأرض، وأحيا الشعب.. فعلى هذه الشواطىء قامت الحياة، ونما الزرع، واخضرت الأرض، وتوالت أجيال وراء أجيال، تشّيد أعظم حضارة صنعها الإنسان طوال أكثر من سبعة آلاف عام.. نشهد أبرز مظاهرها هنا خلال رحلتنا بين أسوان شرق السد العالي.. والأقصر.. طيبة ذات المائة باب، وتوشكي.. أمل المستقبل الجديد.

قال الجاحظ: إن عجائب الدنيا ثلاثون منها في سائر الدنيا سبعة والباقي بمصر نذكر منها: الأهرام بالجيزة حيث قال قائل: ليس من شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الأهرام فأنا أرحم الدهر منها، ومنها صنم الهرمين الذي يقال له عند العوام أبوالهول وكان يقابله صنم آخر في بر مصر، ومنها معبدسمنود الذي ضرب سنة خمسين وثلاثمائة، ومعبدأخميم بما فيه من الصور والعجائب، ومعبددندره وبه ثمانون كوة تدخل الشمس كل يوم من واحدة، ومنها بنحاس أصفر كأنه الذهب الأبريز، وكانت تضيء في الليل، ومنها المسلتان في عين شمس، ومنها مدينة منف، وما كان بها من العجائب والرخام، وفيها سنطة من الشجر إذا تهددت بالقطع تذبل وتجمع أوراقها فإذا قيل لها عفونا عنك من القطع تتراجع أوراقها كما كانت، ومنها على قصر باب الشمع عند الكنيسة المعلقة صنم من نحاس أصفر على خلقة جمل وعليه شخص راكب وله عمامة مثل العرب، ولما فتح عمرو بن العاص مصر أخفى القبط هذا التمثال، ومنها النيل وهو من أعظم عجائبها، وبها ما بها".

وأضيف بعد أن رأيت، وشاهدت وتأملت، ودرت في هذا الوادي من الشمال إلى الجنوب، عابرا تخوم التاريخ الذي يتجلى أمامك في الحجر، والأبنية القديمة، والمناخات، وسحن الخلق أولاد بحري، وصعايدة، وسواحلية، وعرب سمر، وناس أتراك ومماليك، وبقايا فراعنة، وعادات وتقاليد، وعبر الشوارع والأزقة العتيقة. أضيف أعجوبة مدينة الأقصر.. مدينة المائة باب.

لكن لماذا تجعلنى أبدأ من الآخر؟

لنبدأ من البداية. أعني من أول الرحلة. من أول عبور للزمن من هنا.. من الشمال، إلى هناك الجنوب.

كان علينا أن نغادر القاهرة في الفجر،

مشهد قبل المغادرة:

كان علينا أن نغادر القاهرة في الفجر، القاهرة في الليل، غيرها في النهار، تلك حكمة الأيام والسنين، وما أتت به المقادير.

في النهار مدينة بلا قلب قد فارقتها الرحمة، وتوحشت بدرجة تدفعك للرعب. وتجعلك تلوذ بظل الجدران هاربا من يوم الحشر هذا.

أقول القاهرة في الليل غير القاهرة في النهار. في الليل تسكن القدم، وتخف الزحمة، وتتألق بالنور، يخترقها النيل جاريا تحت ضوء غامض ملتبس يلتمع من جنبات الشاطىء، وتلوح من قريب البنايات التاريخية في سكون الماء بألفة لا تفارق روحك. ليل القاهرة يأخذك إلى أماكن عرفتها وشكلت عندك ذكريات لا تنسى وقلت عنها ذات مرة إنها "أماكن في القلب". عندما تقف في شرفة حجرتك على النيل ويأتيك من بعيد صوت المراكبي راحلا على النيل يحمل أغاني عن الفراق والهجر بينما يجيبه صوت أم كلثوم منبعثا من مسام الليل بشدوه الآسر، وأنت تسير على أرض الجزيرة من عند تمثال سعد باشا، عابرا كوبري قصر النيل حتى ميدان التحرير "الإسماعيلية زمان" مخترقا شارع "طلعب حرب" لا يسألك إنسان عن هويتك، ولا يحتك بك محض شخص. وأنت تتوسط مدينة كانت في الثلاثينيات والأربعينيات يشبهون لندن وباريس بها.

مدينة الماء والوجوه الطيبة

تهبط الطائرة مطار أسوان بعد أن تكون تركت خلفك خضرة الوادي، وغرقت في رمل الصحراء. يضيق بك وادي النيل حتى يصبح شريطا أخضر يحتل شاطىء النيل بينما تكسو الرمال وجه الجنوب. للهواء لفحة ساخنة تذكرك بأنك عند باب إفريقيا، وسخونة شبيهة بسخونة الصحاري العربية، ومدى متوج بالرمل والحجر، وقمم جبال، وسفح ريح أبريل الترابية.

الوجوه التي تستقبلك تشيع بها سمرة هادئة، وتلاحقك بعيونها السمراء التي تذكرك بعيون شاهدتها يوما تتوسط وجوه التماثيل بالمتحف المصري بالقاهرة. يقولون إن أهل أسوان هم الجدود الأوائل لفراعنة مصر، وأن المدينة التي أمدت مصر بحجر الأهرامات والمعابد والمسلات والتماثيل هي التي أمدت مصر بالرجال الأشداء الذين صنعوا حضارتها القديمة.

أسوان مدينة مسكونة بالماء. بحيرة السد العالي، والجنادل والشلال. تسم وجهها الخضرة وتتوج رأسها حديقة النباتات، ويعلو صفحة ماء البحيرة مراكب بأشرعة بيضاء مثل الحمام يحملها التيار مثل البجع، تمرح في النهار، وفي الليل تبدو كمشهد من حلم.

ما كل هذه البهجة التي تثيرها في نفسك هذه المدينة الاستثنائية والتي تمثل بوابة مصر على إفريقيا؟!.

اسم أسوان في القديم "سوونت" ومعناها السوق، وكتبها اليونانيون "سيبين". كانت عاصمة للإقليم في العصر الفرعوني. في جزيرة الفنتين، وكانت قوافل التجارة تصل إلى الشاطىء الشرقي أمامها فأصبح المكان سوقا تجارية. نجد أهم آثارها في جزيرة الفنتين وفي الجبل الغربي أمام المدينة وهي مقابر أسوان، أما في المدينة نفسها فلا نجد إلا معبدا صغيرا لم يكتمل بناؤه وهو من عصر البطالمة شيدوه تكريما للمعبودة إيزيس هو معبدفيله شيده بطليموس الثالث خليفة الإسكندر الأكبر اليوناني. وفي أسوان نقوش وكتابات على الصخور الجرانيتية وعلى الصخور التي تتوسط النيل أو في المحاجر التي خلف المدينة لأن أسوان كانت منذ أقدم العصور أهم مصادر للجرانيت الذي كان يحتاج إليه القدماء في تشييد معابدهم ومسلاتهم وأجزاء من أهرامهم وبعض توابيتهم وتماثيلهم.

ومنذ أواخر القرن 19 أخذت هذه المدينة في الازدهار بعد أن أصبحت مركزا مهما لبعض الصناعات، وبعد استغلال ماضي المنطقة الأثري وبعد اكتشاف معادنها، واستخدام مياه الشلال في الحصول على القوى الكهربية، وأخيرا بعد تشييد السد العالي الذي زاد من أهميتها.

وفي محافظة أسوان يعيش النوبيون والبشارية، فأما البشارية فهم من القبائل الحامية ولهم لغتهم وتقاليدهم الخاصة، ويعيشون بين النيل والبحر الأحمر حتى حدود السودان، وأما النوبيون فهم فريقان: الكنوز والفيادكة ويتكلم كل منهم لغة خاصة به وهم يعيشون على مجرى النيل ابتداء من شمال مدينة أسوان بقليل، وفي بلاد النوبة السفلى. وقد غمرت مياه السد العالي جميع قراهم، وانتقل من كان يعيش منهم جنوب موقع السد العالي إلى الشمال واستقروا في القرى التي أنشأتها الحكومة لهم في منطقة كوم أمبو.

والنوبي لا ينسى بلده الغارقة، ويعيش بحنين من ضياع وطنه. يعتز بلغته وينظر لذاته باعتبارها تنتمي لوطن غير مصر، له حضارته واستقلاله، ويذكرك دائما بأن جنسه حكم مصر ردحاً من الزمن، وهزم فراعينها الأشداء، وبالتالي يتمسك بفنونه وأغانيه ولغته وثقافته، وهناك الكثير منهم يعيش في الوادي، لهم نواديهم النوبية وجماعاتهم المستقلة ومقاهيهم الخاصة.

قابلني أحد النوبيين كان شابا جميلا، وكنا في منطقة الجنادل على الشاطىء وأمامنا بحيرة السد، وعلى البعد تلوح حديقة النباتات بأشجارها المتنوعة المنقولة من بيئات مختلفة وأجواء مغايرة جلبها الخديو الذي بناها من عشرات السنين، وفي الناحية الغربية تجثم مقبرة أغا خان الإسماعيلي الأسطورية. أغا خان أحد عشاق أسوان الكبار، الذي كان يأتيها كل شتاء هو وزوجته البيجوم "أم حبيبة" وحين مات كان قد أوصى ببناء المقبرة التاريخية المقامة على تلك الرمال تطل على النيل في صيرورة لا تنتهي.

قال لي الفتى النوبي صاحب الملامح التي تنطق بفرح طفولي، وبعينيه اللتين تشعان ألفا من الشمس مثل الضياء، وعلى رأسه عمامة بيضا وهائلة، وقد هذا كان الفتى النوبي يحدثني والدموع في عينيه:

"عندما شح ماء النيل في الثماني سنوات العجاف، ونقص ماء البحيرة طفت قرانا الغارقة على السطح، وعاد وطننا إلى البعث من جديد. عدوت ناحية قريتي في الكنوز. وجدت البيوت على حالها، حتى بيتي وبيت أجدادي كان قائما. كانت أمامه شجرة من كافور قبل أن يغرق، والغريب في الأمر لن تصدقني أنني وجدت الشجرة ذاتها مازالت خضراء.. تصور".

ثم انخرط في البكاء.

وتتواصل الجولة في صعيد مصر.. لنشهد أمجاد الحاضر في أسوان.

إن الصورة المثلى لهذه الأمجاد التي صنعتها الأيدي والعقول تبدو ماثلة في أبهى ملامحها، ونحن نطل إلى بحيرة ناصر.. أشهر بحيرة صنعها الإنسان لتخزين مياه الحياة التي غمرت أرض الذهب والعنبر.

البحيرة كما تصورناها شاسعة الأطراف ممتدة إلى الجنوب بسعة 162 بليون متر مكعب، على منسوب 182 مترا وبطول 500 كيلو متر وعرض عشرة كيلو مترات مغطية مساحة خمسة آلاف كيلو متر مربع وراء السد.

هذا السد العالي هو الصورة الرائعة الثانية من دلائل أمجاد الحاضر.. حيث تنطلق من عيون أنفاقه أكبر الطاقات لتضفي الخير والقوة والري والماء والحياة على أرض مصر.

ومن فوق سطح السد نطل إلى الإنشاءات الضخمة التي صحبت قيامه وتشييده منذ قرر جمال عبدالناصر دراسة فكرة إنشاء سد عال للتخزين على منسوب مرتفع يكفل تزويد مصر سنويا بتصرف ثابت من مياه النيل، ويسمح بالتوسع الزراعي في مساحات جديدة، ويقي البلاد غوائل الفيضانات العالية، وتزويدها في الوقت نفسه بطاقة كهربائية كبيرة تكون الركيزة الأساسية للتنمية الزراعية والصناعية في البلاد.

وبرغم معوقات كثيرة واجهت إنشاء السد، فإن التنفيذ كان لابد منه، حيث بدأت جهود كبيرة لإقامته، وتم تحويل مجرى النهر في عام 1964 وحفرت قناة بالجانب الشرقي للنيل لتصريف المياه، مزودة بستة أنفاق رئيسية، يتفرع كل منها إلى فرعين مركب على كل منهما توربينة لتوليد الكهرباء، مشكلة 12 توربينة قدرتها الكلية تزيد على مليوني كيلوات وتولد سنويا عشرة مليارات كيلوات ساعة.

ويبلغ ارتفاع السد من متوسط سطح النهر إلى القمة 111 مترا وطوله من السد إلى نهايته أربعة كيلومترات. وهو يأخذ شكل القوس حتى لا تشكل كمية المياه المخزونة في البحرية ضغطا على جسم السد الذي يقف على قاعدة صلبة جدا مساحتها عند القاع 980 مترا بحيث تتحمل أي ضغط عليها، كما تتحمل جسم السد والأنفاق وقناة التمويل.

يقولون هنا في أسوان إن السد العالي أدى إلى طفرة وتطور كبيرين، وأصبح دعامة أساسية للنهضة الصناعية والزراعية والاقتصادية الحديثة في مصر، وهو يعد حجر الزاوية في المشروعات الإنتاجية جميعا، كما أنه وحيد نسجه بين جميع مشروعات الري الكبرى في العالم، بل إن العائد منه يفوق أي مشروع آخر، ويكفي أن إجمالي تكاليف إقامة السد ومحطة الكهرباء والمشروعات المترتبة على مرور خطوط الكهرباء قدرت بمبلغ 450 مليون جنيه، وقد أتى بتكاليفه في أقل من عامين، إذ بلغ العائد الاقتصادي خلال عشر سنوات منذ إنشائه ما لا يقل تقديره عن عشرة آلاف مليون من الجنيهات، أي عشرين ضعفا لما أنفق عليه.

مجتمعات جديدة

يقول محافظ أسوان اللواء صلاح مصباح: الواقع أن السد العالي ينفرد بظاهرة عجيبة، هي أنه مشروع يعم أثره ويفيض خيره على أرض مصر جميعها ويتعدى ذلك ليعم السودان أيضا. وهو متعدد الأغراض لا تقتصر أغراضه على الري وزيادة الرقعة الزراعية فحسب، ولا على توليد الطاقة الكهربائية فقط، وإنما تمتد لتشمل فوق ذلك القوى الكهربائية وتحسن الملاحة وتأمين محاصيل البلاد في جميع السنين. ولاشك أنه كان وراء خلق مجتمعات جديدة، لأنه لولا الكهرباء وقوة العمل التي أمكن استغلالها، ما كان من الممكن إنشاء المصانع في المجتمعات والمدن الجديدة خاصة أنه أدى إلى تحديث وتطوير القوى المصرية، كما كان من فوائده تحويل ري الحياض إلى ري دائم مع زيادة الأراضي الصحراوية المستصلحة، كل ذلك بخلاف زيادة الثروة السمكية، حيث تعطي بحيرة ناصر ما يزيد على 35 ألف طن من السمك سنويا.

وقد كانت هناك بعض الادعاءات المضادة للسد.. ولكن ثبت للرد على هذه الادعاءات أن أرض مصر لم تفقد خصوبتها، ولم ينحر قاع النهر، ولم تتهالك جوانب السد، ولم يتصدع أو يهبط جسمه، ولم تتسرب مياهه أو يضيع مخزونه بخرا أو تسربا.. وكل ما تركه السد العالي من آثار وما صاحبه من ظواهر كان أمرا طبيعيا في حدود المسموح به دون المقدر بكثير، حتى أن نجاحه حتى الآن قد بدد أوهام المتشائمين.

فيلة.. وحكاية إيزيس

عليك لكي ترى معبد إيزيس "معابد فيلة" لؤلؤة مصر، أن ننتقل إليها عبر قارب بخاري يأخذنا إلى أرض جزيرة إيجيليكا حيث تقوم معابد ايزيس بعد إنقاذها من مياه النهر عند إنشاء السد العالي، ومن قبله خزان أسوان!.

معابد فيلة ترتبط في الواقع بأسطورة مصرية قديمة هي أسطورة إيزيس وأوزوريس التي سجلت وقائعها على جدران المعبد بالهيروغليفية وراح مرافقنا يحكي لنا تفاصيلها وهو يقرأ ما سجل على الجدران.

تقول الأسطورة إن أوزوريس كان ملكا طيبا خيرا، علم المصريين طرق الزراعة والري وكانت تساعده في اجتذاب قلوب الناس زوجته إيزيس. غير أن أخاه ست الذي ولاه أبوه أرض الصحاري الفاصلة حقد على أخيه ودبر خديعة ضده.. وفي وليمة أقامها على أرض جزيرة فيله نفذ ست مؤامرة على أوزوريس حين صنع صندوقا من الذهب بحجم ومقاسات أخيه وأعلن أنه يهديه لمن يتسع له. وحين جرب أعوانه من المتآمرين الدخول في الصندوق وأظهروا فشلهم أقنع ست أخاه بأن يجرب حظه. ولم يكد أوزوريس يستلقي في الصندوق حتى أسرع ست فأمر رجاله بإغلاق غطائه وإلقائه في النيل. وتقاذفت أمواج النهر الصندوق حتى بلغ مصب رشيد ثم تناقلته أمواج البحر حتى بلغت به شواطىء ببلوس في لبنان حيث كان قد توفى اختناقا وهو داخل الصندوق. وجدت إيزيس في البحث عن زوجها بما كان لديها من علوم السحر حتى عرفت المكان واستطاعت ان تقنع ملك ببلوس بتسليمها جثة زوجها. وعندما عادت إلى مصر اختفت ومعها جثمان أوزوريس في جزيرة فيلة خوفا عليه من أخيه ست. ولكن الأخ الشرير تمكن من الوصول إلى جسد أوزوريس وانتهز فرصة غياب إيزيس وقطع الجثة إلى ستة عشر جزءا بعثرها في جميع مقاطعات مصر. وعادت إيزيس تواصل البحث حتى استطاعت ان تجمع الأجزاء جميعا عدا جزء واحد هو قدم أوزوريس اليمنى التي كانت قد استقرت في جزيرة بيجه المقابلة لجزيرة فيلة وكانت المياه تنساب من بين أصابعها محملة بالخصب والطمي لتنمو ربوع مصر بالخير من فيضان النهر.

أبو سمبل.. زيارة لإله الشمس "رع"

نواصل طريقنا بعد ذلك إلى الجنوب من أسوان لأبي سمبل، ثلاثمائة كيلو متر تقريبا، تقطعها الطائرة في نصف ساعة وتقطعها السيارة في أربع ساعات. على يمينك الصحراء، وعلى يسارك بحيرة ناصر أكبر بحيرة صناعية في العالم.

يكمن معبدأبوسمبل في بلاد النوبة إحدى عبقريات الماضي، كان هذا المعبد ستغمره مياه بحيرة ناصر لولا أن تضافرت جهود شعوب العالم لإنقاذ هذا الأثر الجليل واشتركت عن طريق منظمة اليونسكو في دفع نفقات مشروع أساسه تقطيع صخور هذين المعبدين إلى أجزاء يسهل نقلها، ثم إعادة تشييدها كما كانت فوق ربوة مرتفعة على ضفة البحيرة الجديدة في مكان لا يبعد كثيرا عن الموقع الأصلي.

والمعبدان منحوتان من الصخر من أيام الملك رمسيس الثاني. يمتاز أكبر المعبدين بواجهته التي يجلس أمامها أربعة تماثيل لرمسيس الثاني منحوتة في صخر الجبل ارتفاع كل منها 20 مترا وهي من أهم وأجمل الآثار في مصر، لقد تمكن جيل الحاضر بالعلوم الحديثة إنقاذه قبل أن يغرق في مياه بحيرة ناصر بتكليك صخوره ورفعه وإقامته من جديد ليشهد العالم إحدى معجزات الماضي التي أنقذها الحاضر.

هناك أعجوبة هندسية وفلكية ترتبط بهذا المعبد، فأشعة الشمس تدخل من بابه وتخترق القاعات التي ضبطت على محور واحد يتفق فلكيا مع خط عرض معين، بحيث تتعامد عليه الشمس مرتين في السنة يوم 21 فبراير ويوم 21 أكتوبر حسب تعامدها على مداري السرطان والجدي. وعندما تتعامد الشمس على خط المحور يدخل أول شعاع لها من الباب عند الشروق ويستقر على تماثيل الآلهة الأربعة في صدر قدس الأقداس في قلب المعبد. وتسقط أشعة الشمس أولا على وجهي آمون وبتاح، ثم على وجهي بتاح ورمسيس، وتنتقل بعد ذلك إلى وجهي رمسيس و"رع حور أختي" ويستمر الانتقال خطوة خطوة لفترة تمتد إلى 25 دقيقة من شروق الشمس..!.

أهم ملامح المعبد واجهته التي ترتفع 32 مترا بعرض 35 مترا، حيث تقوم تماثيل أربعة لرمسيس الثاني يرتفع كل منها حوالي 20 مترا. وهي منحوته في صخر الجبل. وعلى جانبي كل تمثال وبين الأرجل نرى تماثيل للملكة نفرتاري. وكل من المجموعات الأربع تقوم على قاعدة عليها صف من القرود رافعة الأذرع إلى أعلى وهي تعبدالشمس، وفوق المدخل يقوم تمثال للإله رع حور اختي برأس الصقر الذي كرس المعبد خصيصا له.

على جدران المعبد من الداخل تقوم تماثيل للملك رمسيس ومناظر ونصوص دينية مع رسوم لأعمال الملك الحربية في معاركه ضد الحيثيين في سوريا والكوشيين في السودان، كما تمثل انتصاره في معركة قادش. أما قدس الأقداس فيتصدره تماثيل جالسة نحتت من الصخر تمثل معبودات المعبدوهي بتاح وآمون ورع حور أختي ورمسيس نفسه هي التي تسقط عليها أشعة الشمس في الموعدين المحددين، وإن كان الموعد قد تغير يوما واحدا بعد رفع المعبد بمساعدة اليونسكو وبأيدي أبناء مصر من العمال والمهندسين.

معبد نفرتاري

على مسافة غير بعيدة شمالي المعبد الكبير نحت رمسيس الثاني معبدا صخريا صغيرا للملكة نفرتاري "جميلة الجميلات" وكرس المعبد لعبادة صخور ربة الجمال والحب والرقص والموسيقى.

واجهة المعبد الصغير على شكل بايلون، وكانت تنتهي أصلا على شكل كورنيش. وعلى جانبي المدخل أربعة تماثيل ضخمة بطول عشرة أمتار، اثنان منها للملك واثنان للملكة. ونلاحظ هنا أن تمثال الملكة بنفس حجم وطول تمثال "الملك".

وهي أول مرة في التاريخ الفرعوني والحضارة المصرية القديمة يكون فيها تمثال الملكة في حجم تمثال الملك.

المعجزة الرئيسية هنا هي ما تم في العصر الحديث، وما فعله المصريون لا يقل عظمة عما فعله الأجداد.. وهو ما يشرحه لنا المهندس عطية رضوان الأثري ـ المقيم ـ فقد كانت عملية إنقاذ معابد أبو سمبل معجزة بكل المقاييس، سواء في ذلك إزالة الجبل وتقطيع أجزاء المعبد الصخري أو إعادة رفعه وبنائه بنفس المسافات والمقاييس وبدون أن يفقد منه حجر أو نقش واحد. يضاف إلى ذلك إقامة قبة خرسانية تعتبر معجزة وحدها. وكان الغرض منها حماية المعبد وإعادة شكل الجبل الذي كان موجودا قبل عملية الإنقاذ.

فقد كان من المستحيل إعادة بناء الجبل فوق المعبدين، لأن ذلك يمثل خطورة من الناحية الجيولوجية والطبيعية، خاصة أن هذه المنطقة منطقة زلازل قد يؤدي حدوثها إلى سقوط المعبدين وانهيارهما. فكان لابد من الاستعاضة عن ذلك بإنشاء هذه القبة الخرسانية فوق المعبدين. وتمتد القبة 56 مترا وارتفاعها من أسفل إلى أعلى يصل إلى 83 مترا،وسمك الخرسانة من المركز 140_ سنتيمترا ومن الجانبين حوالي مترين. وقد تم تركيب ستين جهازا في سقف القبة وأنحائها لإعطاء كل القياسات المطلوبة للمحافظة على القبة.

وهكذا تعاون الحاضر مع الماضي في إبراز العبقرية المصرية القديمة.

طيبة مدينة المائة باب:

دخلت السفينة من باب النهر ورست إلى الشاطىء. حمدا لله على السلامة وأهلا بكم في الأقصر. قال الصعيدي مبتسما.

عندما نظرتُ للأقصر في أول تباشير الصباح تذكرت النشيد التاسع من إلياذة "هوميروس" اليوناني الذي قال فيه: "هناك في طيبة المصرية حيث تلمع أكوام سبائك الذهب، طيبة ذات المائة باب حيث يمر في مشية عسكرية أربعمائة من الرجال الأبطال بخيلهم وعرباتهم من كل باب من أبوابها الضخمة". وتساءلت بين نفسي: أين ذهب كل هذا الذهب الآن؟.

وعادني قول "شهاب الدين الحموي" في كتابه "معجم البلدان" عندما قال: الأقصر إنها جمع قصير، وإنها أزلية.

أطلال هائلة، وما تبقى من حضارة تعبر عمن بنوها، ومسلات تلوح من بعيد، وتماثيل من حجر، ضخمة ومروعة، وشارع الكورنيش بالمدينة ينتمي للطراز الحديث بينما بقية شوارع المدينة تعيش إهمالها وقدمها وتخلفها وغموضها. فنادق على النهر عائمة، وفنادق بشارع الكورنيش أقيمت أول القرن، وحناطير تجرها خيول ضامرة فارقتها فروسيتها منذ وقعت من أسر اللجام، وباعة جائلون يحملون ملابس شعبية وأنتيكات مقلدة، وأغطية رأس ملونة، وبازارات لتحف من نحاس وفضة ورخام وبازلت وجرانيت أحمر وأزرق. ومئات من سحن وافدة لشعوب جاءت لتشاهد التاريخ الحي على أرض طيبة.

ما إن استقرت حالي في "الونتر بالاس" حتى صدح بداخلي صوت من كتاب "الموتى الفرعوني": "الجلال لك يا من أتيت يا كل آلهة الروح الذين يزنون الأرض والسماء في الميزان".

"الونتر بالاس" المقام الذي شهد مقام زعماء العالم ورؤسائه، والشخصيات التاريخية، ولصوص الآثار، والنهابين ونابشي المقابر، والمعتدين على حرمات محياوات الملوك. هذه مدينة رأت حركة الدنيا رأي العين.

من أين جاءت كل هذه الآثار التي تزدحم بها؟

لقد عرفت الأقصر، أو طيبة القديمة منذ العصور الأولى واستطاعت أن ترتفع إلى مكان مرموق في القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد، غير أن عظمتها الحقيقية ظهرت في القرن السادس عشر قبل الميلاد عندما أصبحت مركز الدائرة من العالم المتمدين.

وتقع آثار الأقصر في البر الشرقي حيث قامت مدينة الأحياء وفي البر الغربي حيث كانت مدينة الأموات، وأهم ما في الأقصر معبد الكرنك في الشمال ومعبد الأقصر في الجنوب حين كان يربطهما طريق فخم يقوم على جانبيه مئات الكباش التي تمثل الإله آمون.

مدينة الأحياء

نبدأ مسيرتنا من الأقصر صاحبة الاسم الذي دوى في العالم القديم باسم طيبة.. حيث الحياة موت، والموت حياة. ومنذ أولى خطواتنا نحس بأننا نغوص في عمق التاريخ، وأن الهواء الذي نتنسمه يختلط بعبق مصر القديمة، يحمل إلينا همسات زاخرة بألوان كثيرة من الأحداث ومظاهر العادات والتقاليد.. عاشها المصريون لعدة آلاف من السنين.. ومازال الناس في الأقصر يواصلون الحياة على بقاياها وذكرياتها ومنابع كنوزها حتى اليوم.. لا يختلف شرق نيلها حيث مدينة الأحياء وآثار المعابد، عن غرب نيلها حيث مدينة الموتى وآفاق الأبدية".

إن عبقرية الماضي تبدو واضحة فوق الضفتين الشرقية والغربية من نيل الأقصر.. حيث أعظم وأشهر معابد الدنيا وآثارها في الشرق، وأروع مظاهر العالم الآخر وأسرار الحياة الثانية في الغرب.

الشرق مدينة زاخرة بالحياة.. يختلط بين حناياها الحديث والقديم، وتنهض في أنحائها صورة رائعة بفنادقها الفاخرة ومبانيها الحديثة وحدائقها الزاهرة ومعالمها المتطورة.. وإذا كان ذلك لا يختلف في كثير أو قليل عن أي مدينة حديثة متقدمة، فإن الذي يميزها عن كل مثيلاتها من المدن، هو تلك الآثار التي تؤكد عبقرية الماضي وأمجاد المصري القديم الذي شيدها بيديه وجهده وفكره وعلمه وإبداعه.

وإذا كانت الحضارة الفرعونية تنسب للملوك والحكام بأسمائهم، فليس من الحق أن نبخس حق الشعب الذي صنع وبنى وشيد وأقام وعرق وجاهد، بما يتميز به من العبقرية والكفاح والإبداع في العلم والفن والصنعة طوال آلاف من السنين.

قمة العلوم والفنون

نشهد كل ذلك ونحن نخوض أبهاء المعابد وننتقل بين معالمها الممتدة على ذراع النيل على طول الضفة الشرقية لنتعرف على عبقرية المكان والزمان والإنسان.

صورة الماضي نتتبعها ونحن نجوس أنحاء خلية المعابد المقدسة في الكرنك. مجمع الهياكل والصروح ذات الأبواب والجدران والمسلات والأعمدة المزينة والمحفور عليها رسوم الملوك وأخبار حروبهم وتقدماتهم لإلههم.. آمون!.

وعند مداخل الكرنك نرفع أبصارنا إلى أعلى الصرح الكبير، فوق هذا الصرح شرفات كانت تنطلق منها شعاعات العلوم والفنون والمعارف، وتقوم أجهزة مذهلة لتنظيم الكون، يديرها علماء فلك يرصدون مسارات النجوم وحسابات شروق الشمس وأطوار القمر، ويقسمون السنة إلى شهر وأسابيع وأيام. وإلى جوار الأجهزة تقوم أنواع متقدمة من الأفران يشتغل عليها علماء متخصصون يخرجون الذهب والفضة لينتجوا سبائك الالكتروم يصنعون منها رقائق لامعة يكسون بها وجه المسلات.

ونتابع مظاهر عبقرية الماضي ونحن ندور بين المعابد والهياكل التي كان يقيمها كل فرعون لتقديس الإله، ويقيم أمام مدخل الهيكل تمثاله إلى جانب مسلتين مرتفعتين من الجرانيت المنقوش بالهيروغليفية يسجل عليهما أعماله وأخبار انتصاراته وأنواع عطاياه للإله. هذه المسلات شواهد للتاريخ تعرف المؤرخون من خلال قراءتها على أعمال الفراعنة على مدى آلاف السنين.

ونقف في قلب بهو الأعمدة الكبرى الذي أقامه سيتي الأول ورمسيس الثاني، ويحمل سقفه 134 عمودا في 16 صفا يبلغ ارتفاعها حوالي 21 مترا وقطرها 3،5 متر. للأعمدة تيجان بعضها بشكل زهرة البردي والبعض الآخر ناقوس بشكل زهرة اللوتس، وتتم الإضاءة عن طريق فتحات في فرق المنسوب في الارتفاع حيث إن الممرات الجانبية أقل ارتفاعا، ويصل ارتفاع العمود بها إلى حوالي 12،5 متر بقطر حوالي مترين ونصف المتر، وله تاج بشكل زهرة البردي المقفلة. ويعطي الفراغ الداخلي الشعور بوجود غابة من الأعمدة، وأنه فراغ من دون نهاية. والأعمدة والسقف مزينة بكتابات ونقوش كلها تثير في النفس الإحساس بالعظمة.

غير تلك الأمثلة من عبقرية الماضي في معبدالكرنك.. نشهد الكثير منها في معبد الأقصر الذي يفصله عن الكرنك طريق طويل تحوطه تماثيل الكباش. هنا نلتقي أيضا بأروع آثار طيبة التي لا تزال محتفظة برونقها وأبرزها تماثيل رمسيس في الواجهة. على الواجهة نتابع نقوشا محفورة أمر بتسجيلها الفرعون أمنحتب الثالث ليؤكد حقه في التتويج باعتباره من نسل الإله آمون الذي ضاجع أمه (أم أمنحتب) فحملت منه ليكون هو مولودها من الإله. وثمة نقوش أخرى تحكي احتفالات "أوبت" ورحلة الإله آمون من معبد الكرنك لزيارة زوجاته.

محتويات هذا المتحف تؤكد أيضا عبقرية الماضي. وفور الدخول إلى أولى صالاته وأبهائه نجد أنفسنا أمام عرض فني حديث ومبتكر. هنا آلاف القطع الأثرية كلها مما تم العثور عليه في مناطق المعبدين وسائر أنحاء الضفة الغربية في الدير البحري ووادي الملوك ومقابر الأشراف ودير المدينة والمناطق الأثرية الأخرى بغرب طيبة مثل العساسيف ودراع أبو النجا والقرنة وشيخ عبدالقرنة وغيرها.

وبالإضافة إلى جماليات العرض المتحفي تقول المدير العام لمتحف الأقصر السيدة مادلين الملاح إن أهم ما "يميز متحف الأقصر اتباع اسلوب العصر العلمي لما يحتويه من قطع أثرية تمثل مختلف العصور بدءا من عصور ما قبل التاريخ ومرورا بجميع العصور التاريخية المصرية. ومن أجمل المعروضات تمثال رائع للملك تحتمس الثالث منحوت من جسر الشست المائل للاخضرار، يصور الملك في أروع ملامح النبل والعظمة. وهناك مجموعة من الأواني ذات أشكال مختلفة مصنوعة من الفخار الملون يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، غير مجموعة أخرى من الودائع المصنوعة من الخزف والبرونز عثر عليها مدفونة تحت أساس معبدالملك أمنحتب الثاني" وكان قدماء المصريين هم أول من ابتكر فكرة دفن بعض الودائع التي تمثل العصر تحت أساس مباني المعابد والمباني التذكارية المهمة بصفة عامة.

وادي الملوك.. أفق الأبدية

أفق الأبدية والعالم الآخر أحد دلائل العبقرية الماضية نتابعها حتى نعبر إلى الضفة الغربية لنيل الأقصر. نلحظ ذلك المعنى خلال تجوالنا في مملكة الموتى.

مع بداية تحركنا وراء الحقول ومزارع قصب السكر، نلتقي بتمثالين عملاقين كانا يرتفعان في الأصل أكثر من عشرين مترا فوق السهل. وكل منهما منحوت من كتلة واحدة من الحجر الرملي أقيما تكريما للملك أمنحتب الثالث والد الملك الموحد أخناتون.

إنهما تمثالا ممنون اللذان يواجهان الشرق وكانا يعدان من عجائب الدنيا في العالم القديم.

يبلغ ارتفاع كل تمثال نحو 15 مترا من دون القاعدة. وفي عام 27 ق.م حدث زلزال هز شرق طيبة وغربها وأثر على الكثير من آثارها كما أدى إلى انشطار التمثال الشمالي إلى نصفين عند وسطه، الأمر الذي أدى بالتالي إلى إحداث شق داخلي أدى إلى تغييرات داخلية تبعا لتغير درجة الحرارة في الفجر وعند بزوغ الشعاعات الأولى لشمس الصباح.. فكانت تخرج من التمثال ذبذبات صوتية منغمة كأنها الأنغام الموسيقية الحزينة. ولعل ذلك كان وراء الأسطورة التي تحدث بها الإغريق والرومان القدامى وقالوا إن التمثالين للبطل "ممنون" الذي سقط شهيدا في حرب طرواده، فحزنت عليه أمه "أورورا" ربة الفجر، واستأذنت الإله جوبتر لتقوم بزيارة ابنها صباح كل يوم جديد. وفي هذه الزيارة كانت تصدر آهات الأنين كالأنغام الموسيقية الحزينة.. ولهذا سمي التمثالان بتمثالي ممنون..!.

ولكن حين أمر الإمبراطور الروماني هوريان بإصلاح التمثالين سددت الشقوق فاختفى صوت الموسيقى ولم يعد أحد يسمعها بعد!.

معبد الدير البحري

قبل أن ندخل إلى غمار وادي الملوك نتجه إلى أحد المشاهد الرائعة التي يتحدث عنها كل الناس وتشهد ساحته أحد المعالم الفنية في العصر الحديث وهو عرض أوبرا عايدة.

معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت من أهم المعابد الجنائزية التي لا تزال قائمة على أطراف الصحراء هي معابد القرنة والرمسيوم ودير المدينة ومدينة حابو.. المعبدمتفرد في طرازه. بني من ثلاث طبقات تعلو إحداها الأخرى قام بتشييده "سنموت" أحد أهم المهندسين في ذلك العصر. وقد كرس المعبد لتقديم العبادة والقرابين إلى أشهر ملكات مصر حتشبسوت وسمي "جنة آمون" نسبة إلى الآله آمون وألحق به هياكل الإلهين من آلهة الحيانة هما نوبيس وصحور. لعل أبرز ما يبرزه المعبد تفاصيل رحلة البعثة الملكية إلى بلاد بونت.. أرض البخور والأخشاب والعجائب الخفية. فعلى الجدران في المدرج الثاني تبدو سفن البعثة وقد ألقت مراسيها على الشاطىء لتجلب كميات وفيرة من الأخشاب المقطوعة من أشجار الغابات كالأبنوس الأسود والأخضر واللدائن المعطرة وكميات أخرى من جلود الفهود والنمور والقرود العجيبة والكلاب النادرة. ونقش سمنوت أيضا في نهاية الرحلة تفاصيل استقبال البعثة عند عودتها محملة بكل ما طلبته الملكة.

على أن أبرز الرسوم هو ما حاولت الملكة أن تؤكده من خلال إقامة المعبد. إنها مشاهد تمثل حياة الملكة منذ ولادتها حتى تتويجها وتهدف إلى البرهان على أن حتشبسوت ليست ابنة تحتمس الأول بل هي ابنة الإله آمون رع بالذات الذي ضاجع أمها لينجب منها المولودة التي تنتسب إلى الإله ويتأكد لها شرعية توليها العرش!.

بداية وادي الملوك

ونذرع الصحراء والهضاب إلى وادي الملوك.. إنه واد غير ذي زرع.. يقع بين الجبال الصخرية بقرب طيبة، بدأ تاريخه بفكره طرأت في ذهن الملك تحتمس الأول من ملوك الدولة الحديثة الأسرة الثامنة عشرة ـ حين أراد أن يدفن في مكان خفي مجهول يتقي به شر لصوص المقابر.. وهي فكرة تتناقض تماما مع كل الفراعنة السابقين الذين جلسوا على عرش مصر على مدى 1700 سنة قبل عصره.. فهم كانوا يشيدون أهراماتهم ومقابرهم في أماكن ظاهرة ومعروفة، ويشيدون بجانبها أفخر المعابد الجنائزية التي كانت تدل عليها وتسهل الأمر أمام لصوص المقابر.

وهكذا كلف تحتمس الأول مهندسه المعماري "اينني" ليختار له مكانا قصيا خفيضا وسط الجبال بقرب طيبة ليكون مقرا أبديا للملك حين عودته، فقام "ايتما" بالبحث بين تلك الجبال الصخرية إلى أن عثر على هذا الوادي الذي يتميز بالهدوء والعزلة، وبني في بطن الجبل أول مقبرة ملكية في الوادي، وجعلها على شكل ممر طويل يهبط إليه بعدة درجات، ويمتد في عمق الجبل حتى يصل إلى غرفة الدفن، حيث يسجى جثمانه داخل تابوته الحجري الذي يضم توابيته الذهبية الأخرى.

قصة العالم الآخر

الملاحظة الرئيسية التي تنبهنا إليها ونحن ننتقل بين مقابر الملوك هي أن المقبرة عبارة عن صورة مصغرة لما يجري في العالم الآخر.

تعبر المقابر المليئة في وادي الملوك عما تصوره المصريون القدماء للعالم السفلي الذي يدعونه "دوات" بجميع أجزائه. لذلك حفروا مقابر ملوكهم على هيئة أنابيب مستطيلة ضيقة على مثال ما تصوروه عن الطريق المظلمة التي توصل إلى هذا العالم، والتي تسير فيها الشمس في رحلتها. وقد اعتقد المصريون أن الملك إذا مات اتحدت روحه مع الإله رع "الشمس" ولازمته في رحلتيه النهارية والليلية. وبذلك تتجدد حياة المتوفي كلما أشرقت الشمس، وتلك هي الولادة الجديدة التي ورد ذكرها كثيرا في نصوصهم. كما اعتقدوا أن الشمس تسير في سفينتها النهارية حول سماء الدنيا. فإذا غربت، فمعنى ذلك أنها بدأت رحلتها الليلية في سفينة الليل عبر العالم السفلى. وفي تلك الرحلة يجتاز إله الشمس اثنتي عشرة منطقة في هذا العالم. لكل منها باب تحرسه أفاع وآلهة وأرواح طيبة.

ففي الاثنتي عشرة ساعة من الليل يختار له العظيم تلك المناطق واحدة بعد الأخرى متخطيا أخطارا عديدة، تحمي الآلهة سفينته المقدسة من مهاجمة الأعداء الذين يمثلون في أشكال مسوخ وأرواح شريرة وحيوانات وزواحف خطره.. ولكي تمر روح الميت بتلك المناطق بسلام في صحبة الشمس يجب عليها أن تتلو تعاويذ طويلة وصيغا خاصة أمام كل باب من أبواب تلك المناطق كي يفتح لها. وقد جمعت تلك التعاويذ في عدة كتب منها "كتاب ما في العالم السفلي" وقد قسم إلى اثنى عشر فصلا. ثم كتاب البوابات" وترى نصوصه منقوشة على جدران كثير من المقابر الملكية.

ومعظم هذه المقابر متشابه في تصميمه. ويتكون من عدة سراديب متتابعة، ومن مجرات جانبية أعدت لوضع الأثاث الجنائزي والأدوات الخاصة بالميت. ونهاية تلك السراديب عادة رحبة تؤدي إلى قاعة ذات أعمدة، هي مجرة الدفن حيث يوضع التابوت في قسم منخفض منها.. ويكون عادة من الحجر الصلب وبداخله توابيت أخرى تحتوي على مومياء الملك.

أمثلة ما يجري في العالم الآخر وفي أفق الأبدية هو ما شاهدناه في مقبرة سيتي الأول ومقبرة توت عنخ آمون ومقبرة رمسيس السادس ورمسيس الثالث والتي تكاد مقبرته أن تكون أبرز هذه الأمثلة.

كتاب الموتى والحساب

تتميز مقبرة رمسيس السادس بالنقوش الرائعة التي تزين سقفها وتمثل موكب مراكب الشمس وهي تجتاز قسمي السماء في رحلتي النهار والليل. النصوص المنقوشة على جدار الفرقة الرابعة منقولة من كتاب الموتى وتتضمن الاعترافات الإنكارية، حيث تتمثل روح المتوفي أمام محكمة الآلهة التي يرأسها الإله أوزوريس يساعده اثنان واربعون عضوا من الآلهة. وقد نصب الميزان ووقف الإلهان أنوبيس وتحوت يزنان قلب المتوفى أمام إلهة الحق "ماعت" ويسجلان حسناته وسيئاته ثم يبدأ المتوفى في إلقاء اعترافاته ليتم الحساب.

وفي قاعة الدفن حيث كان التابوت الخاص بجثة الملك نجد الجدران مزينة بالنقوش التي تمثل الشمس في العالم السفلي، وعلى سقفها مناظر فلكية تمثل السماوين رمزي طرفي اليوم. وتبدو صورة السماء نوت" ممثلة مرتين على هيئة امرأة عارية منحنية فوق السقف، رجلاها عند طرف من طرفي القاعة وتستند بيديها عند الطرف الآخر بينما تسبح في بطنها الشمس بشكل قرص أحمر داخلة في فمها "وقت الغروب" لتولد من الناحية الأخرى "عند الشروق"!.

لا نستطيع أن نغادر مدينة الموتى قبل أن نلتقي بجميلة الجميلات.. الملكة نفرتاري في مقبرتها الرائعة التي تحكي نوعا آخر من أجمل الفنون، حيث لمحة جمال تطرب القلب..!

كانت نفرتاري أحب زوجات رمسيس الثاني إليه، وكانت من أجمل نساء عصرها. ومقبرتها تعد أجمل المقابر الأثرية على الإطلاق. إن أجمل النقوش التي تبرز جمال الملكة وتنطق بملامحها هي صورتها وهي تقف في عظمة مرتدية ملابس تكاد تكون من طراز عصرنا الحديث. فحلية رأسها الذهبية على شكل عقاب، وقرطها يتدلى من أذنيها بشكل ثعبان.. وضفيرتا شعرها تتدليان على كتفيها من تحت التاج. وما ترتديه من لباس شفاف مصنوع من الكتان تظهر من تحته تقاطيع جسمها. وهناك حزام يلتف برشاقة حول خصرها وقد تدلت أطرافه المزركشة بالذهب. أما أكمامها القصيرة فتظهر من تحتها محاسن ذراعيها، وتبدو أظفارها مصقولة لامعة كأنها عولجت بالمانيكير.. أما صورتها مع الإلهة إيزيس بملابسها التقليدية الضيقة والأساور التي تحلى زنديها ورسغيها والعقد الكبير الذي يلتف حول عنقها والصولجان التقليدي في يدها فتعطي صورة رائعة بالغة حد الكمال والجمال والإتقان خاصة أن كل الرسوم في المقبرة زاهية الألوان وكأنه لم يمض عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام..!.

مقبرة الملك توت عنخ آمون

تتساءل وأنت تزور المقابر: أين تلك المقبرة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، مقبرة الملك الصبي.. توت عنخ آمون؟ وعندما تصلها تقول: تلك هي مقبرة الذهب والتحف التي لا توصف.

وفي اللحظة تتذكر "كارتر" مكتشفها في 4 نوفمبر 1922 لحساب اللورد كارنارفون الإنجليزي بكل محتوياتها التي لا تقدر بثمن، من الكنوز الأثرية ومجموعات الحلي، والأثاث الجنائزي من الذهب. تلك المجموعة التي بهرت العالم حتى اليوم. كانت المقبرة تمتلىء بكل ما كان في قصر الملك الصبي، إذ كرس الأثاث والكراسي والأسرة والطاولات والحلي بشكل يفوق الوصف.

وهوارد كارتر Howard Carter الأثري الإنجليزي الذي كان يعمل لحساب اللورد كارنارفون Carnarvon، حيث أمضيا سنوات في البحث لا يساعدهما الحظ في كشف ذي أهمية حتى أفلسا لآخر سنت يملكه الورد، وتسولا معاً في مدينة الأقصر يسألان خلق الله في ثمن الدخان، وارتديا ملابس مرقعة وساءت سمعتهما حتى بين الحكومة المصرية.

وفي يوم، وبينما كان كارتر في وادي الملوك لاحظ أن شكل الجبل كأنما يد إنسانية اشتغلت فيه، وبإحساس باحث الآثار الخبير أمر العمال بأن يحفروا في هذا المكان. وبعد تعب عثر العمال على أول درجات السرداب الذي يقود إلى المقبرة، وعندما وصلوا إليها وجدوا الباب مزينا بعين الحياة الفرعونية فعرف كارتر أن المقبرة لم تنهب مثل المقابر الأخرى. فتح كارتر الباب وأشعل شمعة ومدها في الظلام، وعندما شح النور برقت عيون التحف والتماثيل بفعل الضوء الذي يطل عليها بعد مرور آلوف السنين. ظل كارتر يحدق وقد أصابه الخرس وظن أنها عيون لأحياء. كان "كارنارفون" خلفه يدفعه في ظهره متسائلا: ما الذي تراه؟ وعندما استجمع كارتر جأشه أجابه: كأنني أرى جنوني.

دخلا المقبرة يمشيان بين الكنوز، وبين أثاث الآلهة يجمعان ما خف وزنه وغلا ثمنه قبل مجىء الحكومة المصرية بقيادة سعد زغلول، والذي ظهر أخيرا مدفونا في جدار بيت حفيد "كارنارفون" والذي رفض تسليمه لمصر بحجة أنه إرث جده اللص، ولا دخل لمصر في الأمر، وعلى الله العوض.

نعود إلى مدينة الأحياء "الأقصر" وقد خيم عليها المساء، وأشعت أنوارها تستقبل القادمين الجدد. مدينة تحاول تجديد نفسها، تخرج من رماد أزقتها البالية، وتجارتها الفقيرة، وناسها المعوزين، ومظاهر الفقر بين أهلها.

تحزن عندما تتذكر أن مدينة مثل باريس يزورها كل عام ستون مليونا من السواح، والأقصر لا يزورها إلا هذا العدد القليل من السائحين. وتتساءل عن الخلل أين يكمن؟

حقيقة تحاول الحكومة عمل ما يهب المدينة وجها جديدا. أقامت جسرا على النيل يربط البر الغربي بالشرقي، وهناك خطر التلوث على المقابر نتيجة إنشاء القرى السياحية بالبر الغربي. وهناك عمل لإنشاء قرية القرنة الجديدة التي ستكون نواة لتطوير الأقصر الجديدة. كما أعطت الحكومة خصوصية ذاتية واستقلالا إداريا للمدينة وأعطت لرئيس مجلسها سلطات الوزير وسمحت له بميزانية خاصة. إنهم يحلمون بمدينة أخرى تليق بتاريخ المدينة القديمة بها القرى السياحية، وملاعب الماء، وبازارات جديدة، وفنادق عديدة، وإصلاحات بالكورنيش.

لعل وعسى

حتى يعود للأقصر ألقها القديم لتعبر عن روح حضارة مضت يوما ولكنها باقية في ذاكرة الزمان، وحيز المكان.

 

أنور الياسين

 
  




صورة الغلاف





عبقرية الماضي وتطلعات المستقبل





فندق كتراكت القديم أحد معالم أسوان السياحية





حديقة النباتات في أسوان





واجهة معبدرمسيس الثاني في أبوسمبل





واجهة المعبدالصغير للملكة نفرتاري





معبدرمسيس الثاني في أبوسمبل من الداخل





مقبرة الأغاخان على حافة النيل في اسوان





شباب الجامعات المصرية في جولاتهم





اللواء صلاح مصباح محافظ أسوان





معبدفيلة في أسوان





الصوت والضوء داخل معبدفيلة





مياه النيل تحيط بمعبدفيلة





معبدالكرنك في الأقصر





مادلين الملاح مديرة متحف الأقصر





تمثالا ممنون في مدخل البر الغربي من الأقصر





معبدحتشبسوت في البر الغربي





طريق الكباش وعلى جانبيه تماثيل الإلة آمون





معبدالأقصر يتصدره تمثال رمسيس الثالث





تابوت يضم مومياء أحد الفراعنة





نقوش داخل مقبرة نفرتاري





الجسم الأساسي للسد العالي





النيل في لحظة غروب





بحيرة ناصر





الملكة نفرتاري وهي ترتدي التاج





بين المسلات وأعمدة الجرانيت مازال الزوار يتجولون





الحارس الصامت على أبواب معبدجزيرة فيلة





فرعون مصر متعاقد الذراعين





إلى أن نلتقي أيتها الأعمدة