أحمد البشر الرومي.. قراءة في أوراقه الخاصة

عرض: خليل علي حيدر

صباح يوم 29 أبريل ،1948 أذاعت إحدى المحطات العربية خبراً عن تطور القتال في فلسطين. جاء في النبأ أن إمدادات قد وصلت إلى يافا، وأن حامية يافا مهدت لدخولها، حيث نجحت هذه التعزيزات فيما بعد في إجلاء "اليهود عن مواقعهم داخل مدينة يافا، وقد أخذوا الآن يصلون تل أبيت بنيران مدافعهم".

كان المرحوم أحمد البشر أحد الكويتيين الذين تابعوا المحطات الإذاعية العربية وتغطيتها لأخبار الحرب في فلسطين، مع ملايين العرب الآخرين. وهو مثل الكثيرين منهم، شعر في النهاية بأن عدم الدقة في نقل الأحداث، والمبالغة في وصف الأحداث، لايخدمان الإنسان العربي، ولا يدعمان حقه. وهكذا، نراه يكتب في مذكراته متألما في اليوم نفسه، "أصبحت لا أثق بما تذيعه المحطات العربية التي ترى أن من واجبها، لتقوية الروح المعنوية، أن تخلق من الحبة قبة. وهذا حسن، غير أن عيبه الوحيد أنه يخدع العرب في جميع جهاتهم. يجب أن تذكر المحطات الواقع ليعلم العرب إلى أين هم صائرون".

التراجم الشخصية.. والمذكرات

يشكل أدب الترجمة الشخصية والمذكرات جانباً مهما في المكتبة الأوربية الأمريكية. وكثيرا ما يشترط الناشر في تلك البلدان على من يريد بيع سيرة حياته أو عرض مذكراته عن مرحلة ما، ألا يحذف منها ما يتعلق ببعض الأمور الحساسة، أو أن يشرح في ترجمته الذاتية لماذا فعل كذا ولم يفعل كذا. ذلك أن الحضارة الغربية تؤمن بفردية الإنسان وقدراته المتميزة، وأن تميز وارتقاء أي مجتمع، إنما هو كذلك حصيلة نضالات أفراده في وجه الظروف الصعبة والمعقدة، ومحاولاتهم الارتقاء بأنفسهم وبما يتولون من مسئوليات.

وبالرغم من وجود نماذج جيدة من هذا الأدب في الثقافة العربية، فإننا لا نزال في بداية الطريق، وهي لا تزال عموماً بعيدة في محتوياتها عما تحتويه تراجم ومذكرات الغربيين من اعترافات شجاعة وإقرار بالقصور وتحمل لمسئولية الأخطاء.

وإذا كان هذا النوع من الكتابة والأدب شحيحاً وناقصاً في المجتمعات العربية الكثيفة السكان ذات التاريخ الفكري الممتد، فهي من باب أولى، أقل وأندر في مجتمع صغير كالكويت، يعرف فيه معظم الناس بقية السكان، ويتهيب فيه الكاتب عن ذكر الأسماء والأحداث، ولا يستطيع بحال أن يعزل الذات عن الموضوع.

ولهذا يدعو العديد من الكتاب والمثقفين الكويتيين كبار رجال الدولة وأعلام الفكر والفن والسياسة إلى أن يكتبوا مذكراتهم، ويترجموا لحياتهم، ويكشفوا الغطاء عن الكثير من الأمور التي لا مجال لمعرفتها إلا من خلال قناة التراجم والمذكرات. فلعل مثل هذه الدعوة في نهاية الأمر تستجاب.

نهضوي بارز.. من الكويت

أحد المثقفين المستنيرين الكويتيين الذين بادروا إلى كتابة مذكراتهم من تلقاء نفسه، وربما لنفسه، كما يقول د. يعقوب الغنيم، جامع أوراقه، هو الأستاذ المرحوم أحمد البشر الرومي "1905 ـ 1982" أحد رواد النهضة الثقافية في الكويت، وأحد الذين ولدوا وترعرعوا في مرحلة حساسة، وأرسوا أسس الحياة الثقافية في هذا المجتمع الناشىء، وأعطوا في مجالات الكتابة والفكر والفن والثقافة والتراث، فكأن يداً قدرية خفية كانت تساندهم وتدفع معهم في همة ونشاط عجلة النهضة في عقود التأسيس خلال ما يزيد على نصف قرن 1920 ـ 1970.

لعب أحمد البشر الرومي دوراً مهما في مختلف الأنشطة المتعلقة برقي البلاد وتحديثها. لقد دفعه حبه لوطنه، يقول د. الغنيم، إلى "التنقيب عن الماضي في الكتب أو من أفواه الرجال، وبهذا الجهد حفظ لنا شعر صقر الشبيب، وأمثال الكويت "الشعبية".

وأفادنا بجهده الكبير في حفظ المصطلحات البحرية الكويتية، وفي كتابة مقالات عن الكويت سجل الكثير من تاريخها قديما وحديثا حتى أخبار الأوبئة التي مرت بالبلاد، وهو الذي لفت نظرنا إلى تاريخ الكويت القديم حين كتب عن الفرزدق وكاظمة والمقر، وهو الذي سجل لنا صوت الفنان الكويتي القديم يوسف البكر فحفظ بعمله هذا للفن الكويتي كنزاً مهماً يرجع أصله إلى أكثر من مائة وعشرين سنة".

كان البشر واسع الإطلاع متنوع الاهتمامات متابعا للكثير من المشاريع النهضوية ومساهما بها في الوقت نفسه. وقد عمل بالتجارة والسفر والغوص والتدريس والوظائف الحكومية المختلفة، وشارك في لجان عديدة إلى أن تقاعد في بداية عام 1969.

وكان يحب الجمع بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، وما نطلق عليه عادة البحوث الميدانية، في الحدود التي تتيحها ظروفه. ويقول الأستاذ عبدالرزاق البصير، الأديب الكويتي المعروف وهو من معاصري البشر الرومي إنه كان متعدد المواهب. ويقول في رسالة خاصة بعثها لنا عندما سألناه عن البشر عندما أخبرناه عن نيتنا بتقديم كتاب د. الغنيم إن البشر خصص غرفة لممارسة هوايته في التصوير واقتنى كل ما يمت بصلة لآلات التصوير والتحميض، كما أنه بذل كل ما بوسعه من جهد "حتى استطاع الحصول على أسطوانة ليوسف البكر". (رسالة في 11 مايو/ آيار 1997 من الأستاذ البصير).

ولم يتردد البشر في الاستعانة بالبصير، عندما أراد إعداد بحث عن مصطلحات الحدادة، حيث وفر الأستاذ البصير المعلومات المطلوبة عن طريق طرف ثالث هو السيد صالح الحداد سنة 1971. (انظر ص23 من الكتاب).

كان البشر حر التفكير، واضح الرأي، صادق التعبير. وقد ساند بقوة تعليم الفتاة وسط مجتمع محافظ، كان بعض رجال الدين يعترضون فيه حتى على مناهج التعليم العام للذكور، وبخاصة إدخال العلوم الطبيعية والجغرافيا واللغات الأجنبية. وكانت الفتاة الكويتية يومذاك لا تستطيع الخروج من منزلها بعد سن الرابعة عشرة. وحتى بعد الزواج، يقول د. الغنيم "ليس لديها الحرية الكاملة في الخروج من بيتها، وكانت البنات في أكثر الأسر الكويتية يوصين بحاجاتهن من السوق لعدم تمكنهن من الذهاب إليه". وربما كانت مجتمعات شرقية إسلامية كثيرة على هذه الحال.

مكتبة زاخرة.. وشاهدان

كان اهتمام البشر الأكبر ينصب على القراءة، فكون لنفسه مكتبة زاخرة كانت عزيزة عليه، إذ كان يحرص على تصوير بعض الميكروفيلم من لندن في الوقت الذي كان فيه تحت العلاج.

وفي يناير ،1981 في خطوة لا يقدم عليها الكثيرون، ذهب إلى المحكمة الكلية بدولة الكويت، "وأقر وهو في حالة صحته وكمال عقله قائلاً إني أوصي بأن تقدم مكتبتي الخاصة للمكتبة العامة التابعة حاليا لوزارة التربية والتعليم أو أي جهة تئول إليها المكتبة العامة وتشتمل المكتبة على الكتب والأفلام والكتب المصورة وكذلك المخطوطات المصورة وآلة لقراءة الأفلام وخرائط برية وبحرية وكل ما يمت إلى مكتبتي بصلة كالفهارس والبطاقات بأدراجها ويستثنى من ذلك الأرفف التي عليها الكتب".

وكان ممن شهد على صدور هذا "الإعلام الرسمي" من المحكمة، صباح 5 يناير 1981 عبدالعزيز علي المجرن وعباس سيد طالب عبدالنبي مصطفوي.

اهتم الرومي كذلك باللاسلكي، حيث دون في كراساته رموز الاتصال وطرق الاستعمال منذ سنة ،1949 وكان ملاحظا للدواجن والحيوانات، ومحباً كذلك للتجارة والزراعة وصيد الأسماك وعلم الفلك وفنون الملاحة. وبلغ من اهتمامه بالتراث الشعبي أن حرص على تجميع أهازيج الحدادين و"الحمّارة"، ممن كانوا ينقلون مياه الشرب على ظهور الحمير لبيعها داخل المناطق السكنية والبيوت.

من اليوميات

بذل د. الغنيم جهداً مضنيا في تجميع أطراف نشاطات إنسان واسع الاهتمامات متنوع الاتصالات، حيث نجح في تصوير تلك الحياة العريضة في نحو 600 صفحة. ويشمل الكتاب عرضاً لشخصية البشر ويومياته وتقارير رحلاته وبحوثه، مع قدر وافر من المصورات والفهارس.

ويعتقد د. الغنيم أن البشر بدأ كتابة يومياته سنة 1939. "ولم نجد من المفكرة التي كتب فيها يومياته في هذه السنة إلا وريقات قليلة.. ويبدو من هذه الوريقات أنه عين مدرساً في 25 سبتمبر 1939 وهو اليوم الذي تسلم فيه العمل بالمدرسة الشرقية الابتدائية".

وقد تناول كاتب المذكرات أيام حرب فلسطين عام 1948 في كراس خاص تبدأ يوم 24/4/1947 وتنتهي في 5/1/1949. كما خصص جزءا من مذكراته لرحلات علاجية إلى لندن. ويلاحظ د. الغنيم وجود فجوة ملحوظة في المذكرات لبعض السنوات إذ فقدت في أثناء العدوان العراقي ونهبت مكتبة الكويت المركزية والتي لم تسترجع دولة الكويت محتوياتها جزئيا إلا بعد التحرير.

ولنستعرض الآن بعض ما جاء في هذه اليوميات. يقول في 18 يونيو: سافر تشرشل إلى أمريكا، مثلت المدرسة القبلية روايتها في مساء هذا اليوم. وفي 22 يونيو "احتل الألمان مرسى مطروح بعد ثلاثة أيام من احتلال طبرق".

ويقول يوم 9 يناير ،1943 "ابتداء من صباح هذا اليوم تركت التدخين". ويقول يوم 8 أبريل 1943 "أُلصق إعلان تلفت فيه مديرية الصحة العامة نظر الناس إلى طرق الوقاية من حمى التيفوس". ويكتب في 6 يونيو ،1943 "أقامت ليلة هذا اليوم المدرسة الأحمدية على مسرحها رواية "في سبيل التاج"، وهي بالطبع العمل المعروف الذي ترجمه الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي. وفي 6 يوليو 1943 يكتب "ذهبت للقنصلية لإخراج جواز. هجوم الألمان على الروس".

ويسجل في فبراير ومارس 1945 خبراً عن ولادة بنت لصديقه القطامي وزواج في إحدى العائلات. ويذكر في مايو 1945 أخبار استسلام الألمان واندحار هتلر حيث "أقام الشيوخ "حكام البلاد" الزينات على الدوائر وأولم "الشيخ" عبدالله المبارك "الصباح" وليمة للناس في المديرية. أقيمت العرضات "نوع من الرقص الشعبي الرجالي" حول المديرية. اصطدم حصانان في العرضة ومات أحدهما وصاحبه".

ويكتب في مطلع يونيو 1945 "اعتدى الفرنسيون على سوريا وقذفوا دمشق بالمدافع الثقيلة وقنابل الطائرات.. وسلبوا الدكاكين والحوانيت". وفي أغسطس 1945 يكتب: "أعلنت روسيا الحرب على اليابان. منذ يومين استعملت القنابل الذرية ضد اليابان وحسب بلاغات الحلفاء أن أضرارها بليغة".

القلم المسافر

وتستغرق تقارير ويوميات الأسفار الرسمية والشخصية العلاجية 241 صفحة من صفحات الكتاب. وقد شملت هذه الرحلات الإمارات العربية المتحدة واليمن والقاهرة ورحلات عديدة إلى بريطانيا.

يقول في وصف رحلة إلى الإمارات في ربيع عام ،1953 حيث دعاه الشيخ راشد بن مكتوم حاكم دبي إلى مشاهدة سباق الإبل في موضع يبعد ساعة ونصف الساعة عن دبي. "وقد ركبنا السيارة من الفندق وتوجهنا إلى رأس الخيمة وكان الطريق حقاً ممتعاً إذ أخذ في بادىء الأمر قريبا من الساحل، ثم دخل في البر وابتعد عن الساحل مسافة نصف ميل ولم يكن البر في أول خروجنا من الشارقة يلفت النظر، غير أننا بعد أن سرنا مسافة ساعة تحول إلى غابات من شجر القاف، وكانت للتلال الحمر روعة، وكانت الأرض مكسوة بالعشب الأخضر.. وقد وصلنا رأس الخيمة بعد ساعتين إلا ربعاً.. وقد وجدنا أمير رأس الخمية في انتظارنا أمام مقر الإمارة.. وقد أبدى لنا من كرم الضيافة وحسن الاستقبال مادل على طيب عنصره".

وكانت له من الشارقة شكوى طريفة "فمن أشق الأمور هنا في الشارقة ـ وخصوصا علينا ـ التخلص من دعوات القهوة من وجهاء البلدة، وعندهم أن عدم الاستجابة لمثل هذه الدعوة أمر ليس بالسهل. والمشكلة أن تكون هذه الدعوات بعد الغداء مباشرة، ويطلب منك أن تأكل من الحلوى وغيرها الشيء الكثير. فكأن الأخوان يعتقدون أن بطوننا مخازن للاستيداع".

ويرسم قلم البشر كذلك الظروف الصعبة التي مرت بتلك الدولة الشابة خلال فترة الخمسينيات، والتضحيات التي تحملها المدرسون العرب فيها. فعندما "ذهبت أنا إلى المدرسة وجدت الأستاذ مصطفى طه وزوجته وليس لديهما إلا غرفة فرشت بالحصر وستة أكواب شاي وأربع كئوس وسطل واحد فقط".

وقد بذل البشر ما في وسعه من جهد لحل هذه المشكلة وغيرها.

ونقلته رحلة أخرى في أغسطس 1963 إلى اليمن حيث طاب له مناخ صنعاء. فهذه المدينة "باردة حتى أنك لا تستطيع أن تنام في الظهيرة إلا بغطاء صوف".

وشاهد في مكتبة مسجد "أروى بنت أحمد"، باليمن، رفوفاً مليئة بالكتب والمخطوطات، كما "وتملأ قاع هذه الغرفة أكياس من الخيش مملوءة بالكتب، وهذه الكتب قد صودرت من قصور سيوف الإسلام"، يريد أئمة وحكام اليمن قبل الثورة.

وعند الاجتماع بالمسئولين اليمنيين حول المساعدات الكويتية، يوم 3/8/،1963 لاحظ البشر أن "جميع من حضر مشروعات حكومة الكويت قبل 26/9/1963 لتكون من ضمن مواد خطاب المشير السلال في عيد الثورة ليشعر اليمنيون أن الثورة انتجت شيئا وأن ما كان يقوله المسؤولون فيها ليس كلاما، كما كان يقول الإمام المخلوع.. وقد دخل معهم في مناقشة هذا الموضوع الأخ عبدالله إسماعيل وشرح لهم مدى خطورة الارتجال".

ويسجل البشر في مذكرات رحلته إلى اليمن أنه في يوم 13/8/1963 صباحاً، "أقلتنا الطائرة الهليوكبتر إلى "رادع" وفور نزول الطائرة في المطار خرجت المدينة برمتها إلى المطار، فلا تكاد ترى وأنت تبصر الطريق إلا الناس، لم يخرج هذا الجمع الغفير احتفاء بنا أبداً، إنما خرج لحب الاستطلاع ليرى الطائرة".

وفي جولة الوفد في أرجاء اليمن، توجه ذات مرة إلى "يريم"، بعد أن أرسل إلى المسئولين فيها "برقية" لتجهيز لوازم الاستقبال.

"وكان البرق لا ينقطع والرعد كذلك، وعندما وصلنا إلى دار الضيافة لم يكن أحد يعلم بوصولنا على الرغم من أننا أرسلنا برقية من رادع نقول فيها سنصلكم، أعدوا العشاء. غير أن البرقية لم تصل إلى ذمار ولم نعلم ما السبب، إلا أن بعضهم قال إن الموظف المسئول عن التليغراف قد يكون غادر الدائرة في أثناء سقوط الأمطار لأنه لا يمكن التقاط البرقيات في أثناء المطر".

ولما كان البشر عارفا بتفاصيل فن اللاسلكي فقد تقبل الوضع كاتبا في مذكراته، ورأيي أن هذا التفسير صحيح، "لأن خط التليغراف الذي يربط الألوية بالعاصمة مقام على عيدان الأشجار ولا يرتفع أكثر من القامة على سطح الأرض ومربوط بعيدان الاشجار دون عزل، فعندما يتساقط المطر وتبتل عيدان الأشجار تتسرب الكهرباء إلى الأرض فينقطع الاتصال".

ولحسن الحظ، وكما هو متوقع أنقذ كرم اليمنيين وحسن وفادتهم البشر ورفاقه، "وفي الساعة السادسة قدموا لنا العشاء وهو كما طلبنا منهم أشياء لا تتطلب طبخا طويلا فقد قدموا رزاً وبعض المقليات من الفاصوليا وبعض المربيات وثلاثة أنواع من الخبز. تعشينا وبقينا نتحدث حتى الساعة الثانية عشرة ثم نمنا إلى الصباح".

الشاعر الضرير يرحل

اتجه أحمد البشر والوفد المرافق من اليمن إلى القاهرة، فنزل خلال شهر أغسطس 1963 في فندق شبرد على النيل، والتقى في صباح أول يوم بصديق نقل إليه خبراً صاعقاً في وفاة صديق عزيز من أصدقائه، وهو شاعر الكويت صقر الشبيب.

"ولا تسل عن شدة تأثري لهذا الخبر. وقد كنت أنوي أن أقوم بعدة أشياء في القاهرة خلال اليومين اللذين أمكث فيهما في القاهرة فألغيت كل شيء وبقيت كأن في صدري حجراً، تائه البال، شارد الذهن".

وازداد حزنه عندما عرف أن "الشبيب" سأل عنه وهو على فراش الموت بالاسم، فقيل له إنه مسافر.. فصمت. وقد طلبت منه أن يبدي حاجته فقال "بَسْ.. بَسْ" بمعنى "كفاية.. كفاية" وبعد قليل توفى يوم 10/8/1963.

رحلات إلى لندن .. للعلاج

عانى البشر لبعض الوقت من ورم في الحلق. وحملته رحلات عديدة إلى إنجلترا للعلاج. يكتب في 18/5/1968_، "شعرت بالنتوء داخل الحلق"، وأجريت له عملية قرر الأطباء بعدها ضرورة استكمال علاجه في الخارج.

وما إن طمأنه الأطباء قليلا، بانتظار وصول "العينة" من الكويت حتى استعد في اليوم التالي لزيارة أحد متاحف لندن.

"زرنا هذا اليوم متحفا من أكبر متاحف لندن. ففي هذا المتحف جميع أنواع السيارات والمكائن بأنواعها والدراجات والقطارات والصواريخ والسفن وأدوات البحار وسفن الأعماق، وأنواع الحيوانات مُصبرة "أي محنطة" والطيور والأحجار وسفن جميع أقطار العالم مصغرة وحتى "بعض الأنواع من السفن المستعملة في الكويت مثل" البتيل والبقارة".

ولم تمنعه هذه الرحلات العلاجية من متابعة اهتماماته الثقافية وبخاصة اهتمامه بتاريخ الكويت، حيث تعاون في لندن مع الباحث المعروف في مجال تاريخ دولة الكويت الدكتور أحمد أبوحاكمة: "ذهبنا إلى جامعة لندن في الوقت المحدد، فوجدنا أحمد أبوحاكمة في انتظارنا، ثم دخلنا داخل المكاتب، واطلعنا على آلة الميكروفيلم، وقد وافقنا على شرائها.. مع إضافة ثلاث لمبات".

اقتصاديات الغوص

تضم أوراق المرحوم أحمد البشر المنشورة مجموعة من البحوث القصيرة كتبها على فترات متعددة من حياته، وردودا على أسئلة وتعليقات على كتب وغير ذلك. من بين هذه الأوراق كذلك "تقرير بعثة معارف الكويت إلى ساحل عمان"، وهو الاسم القديم لدولة الإمارات. وقد جاء فيه أن "استعداد التلاميذ العقلي جيد، وذكاؤهم الفطري واضح، ورغبتهم في المزيد من التعليم بينة". وكان إجمالي تلاميذ الإمارات بموجب ذلك التقرير، عام ،1953 حوالي820 طالباً.

في بحثه عن مهنة الغوص للبحث عن اللؤلؤ يدون البشر أنها بدأت بالتدهور منذ عام 1930. كما أن قلة الإنتاج زاملت هذا الهبوط في أسعاره. "ومن سوء حظ سكان الخليج ـ الذين لم يكن لهم سبب آخر للرزق ـ أنهم لم يقلعوا عن ممارسة هذه المهنة وكانت تكلفهم في كل عام مبالغ طائلة مما أضاع عليهم ثرواتهم التي كانوا قد جمعوها من هذه المهنة فأخذ الغوص ما أعطى".

وهذه، كما لا يخفى، ملاحظة أصيلة قلما يصادفها القارىء في البحوث العادية عن هذه المهنة التي عرفها أهالي المنطقة على امتداد سنوات طويلة. ويضيف البشر أن الغوص بلغ الأوج عام ،1920 حيث بلغت سفنه في الكويت تسعمائة سفينة يعمل عليها أكثر من 25 ألف إنسان. وربما كان "ما يدره الغوص على الكويت يبلغ اثنين وعشرين مليونا وثمانمائة روبية هندية". (نحو مليون و800 ألف جنيه إسترليني".

ومن أغرب ما كتب البشر، وهو ما يختتم به د. يعقوب الغنيم بذكاء وتلميح الكتاب، ما خطه يوم الاحد 25/8/1968.

يقول: "بعد أن استيقظت في الخامسة، عدت فنمت، فحلمت أن العراق احتلت الكويت، وأن ضابطين بمكان ما جالسان مع أكثر من خمسين شخصا من أعيان الكويت.

وقد أرسلوا بعض الجنود لشراء ساعات لهم".

ولاشك أن هذا من أغرب الأحلام التنبؤية، وبخاصة أن الحلم نفسه كان كذلك في شهر أغسطس شهر الاحتلال عام ،1990 بعد نحو ربع قرن!.

رسائل وصور.. وشهادات

انتقى د. الغنيم مجموعة معبرة من الرسائل والصور والشهادات من متعلقات المرحوم البشر كي يكمل بها هذا الكتاب الوثائقي القيم عن أحد رواد الثقافة الكويتيين البارزين.

من هذه الوثائق صفحة من كراس تحضير بعض الدروس يوم 14 يناير ،1940 وتذكرة مرور وإثبات شخصية صادرة عام ،1942 ورسالة شكر لمؤلف كتاب "كاظمة"، وهو نفسه مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا، ورسالة شكر أخرى من مكتب سمو ولي العهد ومجلس الوزراء عام 1967 يشكر فيها المؤلف البشر على إهدائه الجزء الأول من كتاب تاريخ الكويت.

جهد مشكور

لقد كان المرحوم أحمد البشر الرومي شخصية كويتية ثقافية رائدة، وعقلاً معطاء، وروحاً حية، ويدا باحثة على الدوام عن كل ما هو جديد ومبتكر. وقد رأينا من خلال نوافذ يومياته التي عرضها لنا د. الغنيم في هذا الكتاب التوثيقي القيم، كيف تنوعت اهتمامات البشر ما بين القراءة والكتابة والبحث ورصد المصطلحات في مختلف الحرف والفنون، وممارسة الغوص والتجارة والنجارة والزراعة والتصوير، بل وكما ذكر لي عبدالرزاق البصير في رسالته، كانت للبشر مساهمات في الدفاع عن مؤرخ الكويت البارز عبدالعزيز الرشيد، عندما أهدر دمه أحد شيوخ الدين المتزمتين.

لقد بذل الأستاذ د. يعقوب يوسف الغنيم جهداً كبيراً في جمع هذه المادة وتقديمها بشكل يليق بمكانة وعطاء أحمد البشر. ولا شك أنه بهذا الجهد المشكور قد سد فراغاً مهما في مجال حفظ التراث الوطني وتعريف الأجيال الحالية والقادمة به. كما نرجو أن يكون هذا الكتاب بداية عودة قوية للباحث د. الغنيم في مجال الكتابة والتحقيق والنشر. كما يستحق مركز البحوث والدراسات الكويتية والمشرفون عليه عظيم التقدير على الجهود المستمرة والمعروفة في مجال البحث والترجمة والتأليف.

 

يعقوب يوسف الغنيم

 
  




غلاف الكتاب





أحمد البشر الرومي