أرقام
أرقام
مثلث الخطر يبدو أن ديمقراطية الفقراء تختلف عن ديمقراطية الأغنياء.. قد يتساوى الفريقان في امتلاك أشكال دستورية وهيئات برلمانية ونظم انتخابية.. لكنهما يختلفان بعد ذلك في حقيقة ما يجري.. حقيقة المضمون الديمقراطي!. وقد كنا نتحدث دائما عن أن الفقر لا يوفر تربة صالحة تنمو فيها الديمقراطية فصوت الناخب يزداد حرية كلما زادت قدرته الاقتصادية.. وعلى العكس ـ وكما تقول بعض الأدبيات السياسية ـ فإن من لا يملك قوت يومه لا يملك صوته، ذلك أن أصحاب الثروة في المجتمع يكونون أكثر قدرة على التأثير وامتلاك صناديق الانتخاب. أيضا، كنا نربط بين الفقر ودرجة الوعي، فكلما كان الفقر أكثر انتشارا.. كان التعليم أقل انتشارا أيضا وكانت الأمية حائلا دون انتشار الوعي والمعرفة واللذين يمثلان ركيزة أساسية للمشاركة السياسية. أشياء كثيرة كنا نعزوها للأسباب الاقتصادية حتى باتت المشاركة ولعبة الديمقراطية كأنها في ذيل الاهتمامات عند الفقراء.. برغم أن الديمقراطية قد تكون هي المفتاح للتقدم وحل مشاكل الفقر وانخفاض مستوى المعيشة. كنا نفعل ذلك، لكننا لم نكن ننطلق من قاعدة إحصائية أو بحثية تحسم ما نقوله، حتى جاءت أرقام أخيرة نشرتها منظمة اليونسكو في يناير 1997 وربطت فيها بين الديمقراطية والفقر، متخذة أمريكا اللاتينية نموذجا واضحا للقضية. الأرقام، التي تضمنتها النشرة الشهرية للمنظمة الدولية ليست كثيرة ولا تتناول كل شيء لكنها تضع أيدينا على ما يمكن تسميته "مثلث الخطر".. ذلك الذي يتخذ الفقر قاعدة له، كما يتخذ العنف وغياب الديمقراطية ضلعين من أضلاعه!. أكثر فقرا وأكثر عنفا تقول الأرقام إن أمريكا اللاتينية ليست الأكثر فقرا في العالم. إنها ليست أكثر فقرا من إفريقيا أو معظم بلدان آسيا.. ومع ذلك فإن من هم تحت خطر الفقر ترتفع نسبتهم إلى حد كبير. في بوليفيا يعيش "86%" من سكان الريف تحت خطر الفقر.. وفي جواتيمالا "80%" وبيرو "72%" والبرازيل "66%".. وتهبط النسبة إلى "30%" أو ما دونها في الأرجنتين وأورجواي وكوستاريكا. إنه الفقر يجد سبيله إلى قوم تحسبهم أغنياء والسبب: سوء توزيع الدخل.. والذي يتم قياسه طبقا للقاعدة المشهورة.. قاعدة شريحة العشرين بالمائة العليا من الدخول وشريحة العشرين بالمائة الأدنى في الدخول.. وطبقا لليونسكو "أو تقرير التنمية البشرية لعام 96" فإن كل دولار يكسبه أصحاب الشريحة الدنيا يقابله عشرة دولارات لأصحاب الشريحة العليا.. وأمريكا اللاتينية ـ على هذا النحو ـ كما تقول المنظمة الدولية ـ هي رائدة عدم المساواة في العالم.. فالنسبة التي نتحدث عنها تهبط في الهند إلى "1:4،7"، وفي ألمانيا "1: 5،8" وفي اليابان "1:4،3".. وفي الولايات المتحدة "1:8،9". أمريكا اللاتينية أكثر فقرا، وشعوبها أيضا هم الأكثر غنى والأرقام تشير إلى ذلك. في تقرير لبنك التنمية الأمريكي "1996" أن نسبة جرائم القتل في أمريكا اللاتينية تتراوح بين "5" و"77" لكل مائة ألف من السكان. الحد الأدنى في برجواي، والحد الأقصى في كولومبيا والتي تقترب فيها نسبة الجرائم إلى 8% من عدد السكان بينما تهبط إلى 2% في المكسيك و2،4% في البرازيل.. وكلها أرقام هي الأعلى في العالم حتى أن أحد الخبراء قدر تكلفة الجريمة في كولومبيا بـ "15%" من الناتج المحلي، وهو رقم قياسي دون شك!. وبين الضلعين، ضلع الفقر وضلع العنف والجريمة علاقة وثيقة. في بلدان فقيرة وكثيفة السكان تبرز سيكولوجية الفرصة المحدودة، وفي ظلها يحدث التكالب على فرصة العمل وفرصة الرزق وفرصة السكن ويلجأ البعض إلى العنف أو الجريمة.. ترتفع نسبة البطالة، وتزدحم المساكن غير الصحية بالبشر وتنتشر مع الاثنين: جرائم المال والنفس.. بل وجرائم الشرف والعرض كذلك. إنه مجتمع السخط والغضب يصنعه الفقر، ويشكله العنف مما جعل الخبراء يصفون أمريكا اللاتينية بأنها الأكثر فقرا، والأكثر عنفا في العالم كله، كما أسلفت. السؤال: ما هي علاقة الديمقراطية بذلك؟.. وهل يكون غياب الديمقراطية سببا أم نتيجة؟ السخط بالأرقام حاول مركز للأبحاث في أمريكا اللاتينية أن يقيس درجة الرضا والسخط عن الأوضاع الديمقراطية في القارة فأجرى دراسة نشرتها مجلة الإيكونومست البريطانية في الأسبوع الأول من ديسمبر "96" وكانت النتائج ذات دلالة واضحة. إن نسبة الذين عبروا عن رضاهم عن الأوضاع الديمقراطية لا تزيد على "20%" ممن شاركوا في الاستقصاء.. أي أن هناك "80%" قد عبروا عن عدم رضاهم بدرجات متفاوتة.. وذلك بالرغم من وجود برلمانات وأحزاب ومجتمع مدني!. إنها الديمقراطية الشكلية التي تلقي الضربات من عدة اتجاهات.. فالذين يسيطرون اقتصاديا يسيطرون سياسيا، والغائبون اقتصاديا يغيبون سياسيا.. وبينما يأتي العنف كنتيجة للفقر، فان أجهزة السلطة تتخذه ذريعة لإجراءات غير ديمقراطية، وهو ما جرى في نماذج أخرى حيث امتد قانون الطوارىء في مصر خمسة عشر عاما متتالية بحجة الإرهاب، وسيطر الجيش على الحكم في الجزائر بنفس الحجة.. وساد حكم "الرجل الواحد" في بلدان أخرى تحت حجة أن البلاد في أوضاع انتقالية أو غير طبيعية. ولم تكن الحجج صحيحة في معظم الأحيان فقد تكون الديمقراطية علاجا للعنف لأن المشاركة تربط خلايا المجتمع ولا تفجرها.. بل إن الديموقراطية قد تساهم في علاج الخلل في توزيع الدخل لأن اقتراح سياسات أكثر عدلا سوف يكون منوطا بالأغلبية التي تحكم وهي أغلبية فقيرة. الأهم أن هناك تلازما بين الفساد وغياب الديمقراطية، فليس من صالح الطبقات الفاسدة والمستغلة في العالم الثالث أن تتمتع مجتمعاتها بدرجة من الشفافية تفضح تصرفاتهم. إنهم يعملون في الظلام، ويثرون عن طريق الربح الحرام، ويمتلكون استهلاكا استفزازيا للآخرين ومن ثم فإن غياب المعرفة، وتجنب الرأي العام هما الطريق لاستمرار هذه الطبقات.. وعلى العكس فإن تداول السلطة يساعد على تعرية الفساد، بل إن الكثير من الحكام تنكشف فضائحهم فور ابتعادهم عن السلطة حتى يمكننا القول إن السلطة الحرام والمال الحرام شيء واحد. إنها حلقات متكاملة، وأرقام كاشفة.. لمثلث: الفقر ـ العنف ـ الديمقراطية، وإن كان النموذج قارة واحدة.