شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

صرخة الحق تعلو على زئير الخونة!

تراجع مولاي الحسن عن نافذة القصر ، وضرب الأرض بقدمه وهو يصيح : " الخونة .. الخونة .. لقد قبضوا الثمن .. ولكن الشعب يعرف أعداءه .. ولن ينسى لهم هذا أبدا ".

والتفت ، فإذا ولده السلطان محمد الخامس يجلس في هدوء، وقد طوى البيان الذي تلقاه من " الجنرال جلوم " المقيم الفرنسي ، دون أن يظهر على وجهه أي أثر للثورة المكبوتة بداخله.. وأطل الفتى ليقرأ ما جاء في البيان فإذا هو إنذار تقول كلماته : " إذا لم يصلني قبل ظهر اليوم ما يفيد بتنازلكم عن العرش لولدكم الأصغر مولاي عبدالله فإننا سنضطر إلى نفيكم من البلاد ."

حدث هذا في صباح العشرين من أغسطس 1953م . وكانت هتافات مدفوعة ترتفع في " المشور " وهو الساحة المواجهة للقصر الملكي بالرباط، حيث تجمع حوالي ثلاثمائة من رجال قبيلة تهامي الجلاوي باشا مراكش ومعهم مئات من المتعاونين مع قوات الاحتلال الذين عملوا من قبل مع الجيش الفرنسي، بالإضافة إلى عشرات آخرين من المستوطنين الفرنسيين، وقد تلقوا الأوامر بالمناداة بخلع السلطان.

وكان الجلاوي والكتافي وعدد من رجالهما قد اجتمعوا قبل ذلك بعدة أسابيع مع المقيم الفرنسي واتفقوا على العمل على خلع السلطان محمد الخامس لإسكات الأصوات التي تنادي بالاستقلال، ولقي الاتفاق تأييدا كبيرا من المستوطنين المقيمين بالجزائر واللوبي الفرنسي في باريس، حيث كانت الحكومة الفرنسية مع قيام الجمهورية الرابعة تعاني من حيرة وارتباك شديدين.

في ظل هذا الارتباك قام جلوم ومعه المارشال ألفونس جوان المقيم الفرنسي السابق والمولود في الجزائر بتجميع الآلاف من قبائل البربر قرب " أرزو " في وسط جبال الأطلس، وبينهم كثير ممن كانوا من الجنود المحاربين في القوات الفرنسية الذين خدموا من قبل تحت قيادة جلوم وجوان في ساحات القتال الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، وكانوا على علاقة وطيدة مع المستوطنين الفرنسيين، واتخذ هؤلاء مسيرتهم من " أرزو " إلى فاس والرباط مع رجال الجلاوي باشا مراكش، الذي أدعى أمامهم أنهم سيذهبون إلى الرباط للمشاركة مع القادمين من فاس في احتفالات عيد الأضحى التي يرأسها السلطان. ولم يكادوا يجتمعون في حشود أمام قصر السلطان في انتظار نزوله لحضور احتفال العيد وتقديم الأضاحي حتى تزعم رجال الجلاوي في قلب هذا التجمع إطلاق الزئير بخلع محمد الخامس.

وكان المقيم الفرنسي قبيل تنفيذ المؤامره قد أقنع رئيس الوزراء الفرنسي بإعطائه الضوء الاخضر بدعوى حرب داخلية ولكن وزير الداخلية فرانسو ميتران رفض اقتراح المقيم الفرنسي وتقدم باستقالته من الحكومة الفرنسية.

اقتحام القصر ونفي السلطان
بدأت الأحداث تجري بسرعة .. أحاط الجنود الفرنسيون بدباباتهم يحاصرون القصر الملكي. واقتحم الجنرال جلوم بوابة القصر وانطلق إلى غرفة الملك ووجه إليه إنذاره الثاني قائلا : " لقد انقضت المهلة التي حددناها لك. فلم تبلغنا بتنازلك عن العرش ولا بالكف عن تأييد الوطنيين المنادين بالاستقلال" .

وأجاب السلطان في اعتزاز : " لست أنت الذي تطلب مني أن أتنازل عن العرش إلا نزولا لرغبة الشعب نفسه وليس الخونة والمتآمرين.

وبكل العنف حمل الفرنسيون السلطان محمد الخامس وأسرته كلها في الساعة الثالثة بعد الظهر في الطريق إلى المنفى . ويصف الملك الحسن الثاني الذي كان وقتها ولياً للعهد ما حدث في ذلك اليوم في كتاب " ذاكرة ملك" فيقول :

" لم يكن من اللائق أن يقتاد رجل مثل والدي محروماً ولو من كوب ماء في طائرة " دي سي 3 " دون تدفئة وذات مقاعد خشبية صغيرة معدة أصلا لجلوس المظليين عليها قبل القفز . وقطعت الطائرة المسافة في سبع ساعات إلى أن وصلت إلى أجاكسيو في جزيرة كورسيكا. وطوال الرحلة لم يسمح لجلالته ولو بحبة من الأسبرين أو قطعة خبز. وظل طيلة مدة التحليق حاملا مسبحته في يده ولم يفه بكلمة. وكان معنا وحولنا عدد من رجال الأمن الفرنسيين من غير أن ينظروا إلينا وهم يتناولون سندوتشات تحتوي على لحم الخنزير. لقد كان الجو في الطائرة تعمه الرائحة العسكرية وتشم منه رائحة جلوم .. المقيم العام .. وعندما حطت الطائرة بمطار أجاكسيو كان التغيير جذريا . فالوالي كان ينتظرنا بلباسه الأبيض عند سلم الطائرة بعد أن قطع خصيصا إجازته وحضر لاستقبالنا. وقدمت لنا تشكيلة عسكرية. لقد كان الرجل طيبا وقيل له من باريس إنه قامت ثورة على سلطان المغرب، وأنه احتراما لمعاهدة الحماية التي تنص على الحفاظ على حياة السلطان تقرر إرساله إلى كورسيكا في انتظار عودة الحالة إلى سابق عهدها". لم تمض أيام بعد ذلك حتى نقل محمد الخامس إلى مدغشقر حيث عومل في منفاه الجديد معاملة كلها مضايقات حيث كان المقيم العام الفرنسي يتجاوز في تشديد الرقابة على السلطان وأسرته وعاش السلطان في منفاه بطمأنينة نسبية . وكان لا يفتأ يقول لأبنائه : " تمسكوا بالصبر .. إن الحق ينتصر دائما في النهاية".

السلطان الدمية.. بن عرفة
في هذا الوقت رشح الخائن الجلاوي للفرنسيين بديلا للسلطان هو محمد بن عرفة . وهو رجل في السبعين باعتباره يمت بصلة قرابة بعيدة لعائلة السلطان. ولكنه يصلح دمية تافهة على عرش المغرب.. ورد المواطنون في المغرب على هذه الحركة بتشكيل جيش التحرير الوطني المغربي الذي قاد الكفاح المسلح ضد الفرنسيين، وأعلن الالتفاف حول السلطان المنفي.

ولم تمض أسابيع ثلاثة حتى كان السلطان الزائف بن عرفة قد تعرض للاغتيال ونجا بأعجوبة عندما انقض على موكبه شاب وطني اسمه علال بن عبدالله وطعنه بسكين. واستمرت الثورة المسلحة التي قادها جيش التحرير، وسارت من نصر إلى نصر، بعد أن تخضبت قصة الكفاح بالدماء.

وانفجرت القنابل في المقاهي والبارات والأسواق التي يرتادها الجنود الفرنسيين في مساء عيد الميلاد بالدار البيضاء.. ووضع شاب اسمه محمد زيتوني قنبلة في سلة قتلت مع انفجارها عشرين فرنسيا واصابت ثمانية وعشرين من الجنود. وكانت إجابته في التحقيق إنه فعل ذلك في عيد الميلاد الذي يحتفل به الفرنسيون ردا على نفي السلطان واعتقاله في عيد الأضحى الذي يحتفل فيه المسلمون.

وفي نفس اليوم، وفي مدينة " واد زيم " جنوب شرقي الدار البيضاء، انقض الثوار على المستوطنين وذبحوا خمسين فرنسيا وكان رد القوات الفرنسية غاية في العنف عندما انقضوا على المواطنين في مختلف المدن حيث سقط أكثر من ألف وخمسمائة شهيد ..

وفي باريس حاول رئيس الوزراء أدجار فور البحث عن وسيلة لحل الأزمة خاصة بعد أن اندلعت ثورة الريف بقيادة عبدالكريم الخطابي وتراجعت قوات الاحتلال أمام الثائرين . وحاولت الحكومة الفرنسية تشكيل مجلس وصاية على العرش، ولكن أحد من المغاربة لم يقبل المشاركة في هذا المجلس سوى الخائن الجلاوي. ولم يكن بد بعد ذلك لحل الأزمة سوى عودة السلطان محمد الخامس من منفاه إلى عرشه.

واضطرت فرنسا أمام قوة صمود الشعب المغربي إلى الاعتراف بالاستقلال. وعاد محمد الخامس مع نهاية عام 1955 مرة أخرى إلى الرباط. وعندئذ تساقط الخونة .. بن عرفة والجلاوي وأمثالهما.. كما تتساقط أوراق الخريف .. وانتصرت إرادةو الشعب وصيحة الحق على زئير الخونة.

 



 
  




محمد بن عرفة غارقا في دمائه بعد محاولة اغتياله