واحة العربي

واحة العربي

النَّمل

هذه الدويبة الدءوب المنظمة الشجاعة، ومملكته الواسعة

كان المخرج السينمائي سيسيل دي ميل مفتونا بالمشاهد البانورامية المتسعة التي يبدو فيها البشر يسعون كالنمل، ولاسيما خلال الحالات الدينية التي يهيمن على الناس فيها التبتل والامتثال في اتجاه واحد. ولم تكن صورة النمل الكثيف الدءوب تفارقني خلال العمل في مشروع السد العالي جنوب مصر. كانت الساحة رحبة شاسعة مفعمة بالدقائق المتحركة، وعندما كنا نوغل في الصحراء بحثا عن موقع مناسب ليصبح محجراً لاستخراج رمل ذي مواصفات خاصة كان النمل أول ما يظهر فور الاستقرار، وكان النوبيون والأسوانيون الذين يشاركوننا العمل يتفاءلون بظهور النمل، إن ذلك يعني أن المكان صالح، مع أن ذلك يعني- من ناحية أخرى - أن " الطريشة" تقبع في مكان غامض، وهي نوع من الثعابين الخطيرة التي تظل مدفونة تحت سطح التربة، ثم تقفز رأسيا إلى حيث تصيب العابر في وجهه إصابة قد تؤدي به. ولعل هذا النوع من الثعابين هو أخطر ما كان يواجهنا في الصحراء المصرية الغربية، والإبل ترتعب وتفر هاربة حين تلمحها، ويقال إنها تشم رائحتها قبل أن تراها، وفي الحالات التي تتعرض "الطريشة" للموت فإن النمل يتجمع حول جسدها في دأب وصفوف منتظمة يسترشد بها من لهم الدراية بتطهير الموقع من الثعابين والعقارب. إلا أن الأمر يتطور بعد ذلك، فبقدر ما يمنحنا هذا الكائن تفاؤلاً لسلامة المكان أو هكذا نتصور - فإن النمل لا يلبث أن يتكاثر دون أن يترك شيئا بستعصى عليه من ملابس أو أغلبة أو مشروبات أو حبوب، وأي مادة قد تكون فيها رطوبة أو عناصر السليلوز، حيث يكون النمل حينذاك - سببا مباشراً للهجرة من الموقع، ولاسيما أن لبعض أنواعه ولعاً بالخشب، وهو الأمر المشهور بواجعه في العالم كله: قرية كاملة في الأرجنتين، وبيوت الفيوم "في مصر"، ثم تلك القرية في السودان التي انهارت على ساكنيها. إن النمل بنخر الخشب في دأب وإصرار، وكلما كان الموقع مظلما أصبح أكثر تلاؤما للتخريب. وقد رأيت قاعة جلسات مجمع اللغة العربية المتألفة والمصنوعة كلها من الخشب الفاخر الذي تم إعداده وتخهيزه على طراز الأرابيسك العربي الدقيق، الجدران والمقاعد والسقف، كل القاعة، والتي من باب الحرص على نظافتها وصيانتها ثم إغلاقها، وبعد شهر تحولت إلى ركام أخشاب، والذي قام بذلك التخريب هو النمل الأبيض "الأرضة"، وا لذي يعتبره علماء الحشرات نوعا مستقلا لا صلة له بالنمل المعروف، وفي الصعيد المصري يعيش نوع من النمل الأسود الكبير نطلق عليه "أبو العقبص، له قدرة فائقة على محاضرة عيدان القصب واستحلاب المخزون فيها من عصير السكر، وأعتقد أنه النوع الذي يرسمه كثيرون على أكتافهم وأذرعهم بطريقة الوشم. كما أن البعص يزعم أن حكاية سيدنا سليمان مع النمل كانت مع أبو العقبص" هذا، والتي كان النمل فيها يخشى سيدنا سليمان بعكازته الشهيرة، وكانت أول اختبار يجرب فيه النبي سليمان نعمة الله عليه لأنه يعرف لغة الإنس والجن والحيوانات، ولعل ما ورد في كتب المستكشفين والرحالة عن النمل يفوق ما نعرفه عنه، في النظام والعمل والقدرة الفائقة على إنجاز الخطة السرية أو البرنامج الذي أودعه الله له في عقله أو كيانه أو قلبه، ودعك من المعلومات المدرسية عن نظام مملكة النمل بما فيها من الملكة والعمال والذكور، وانظر إلى ما ورد في فيلم سينمائي ضخم قام بتمثيله الأمريكي هيوستون " الغابة "، والذي دحر فيه أهلها وسكانها في منطقة الأمازون بأمريكا الجنوبية، وبدأ يقيم مستعمرة من خشبها وسط أشجارها، فإذ به يكتشف أن الأرض تخرج من جوفها جيوشا من النمل المداهم الذي أحال المستعمرة إلى خراب، وهو مااستفاد به والت ديرني في أحد مشاهد فيلم "الأميرة والأقزام السبعة". ويذكر لورنس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" شيئا عن أطلال قرية في جنوب شبه الجزيرة العربية ويشير إلى احتمال أن يكون النمل وراء تخريبها. كما أن كثير من القصص العربية القصيرة واجهت ما يحدثه النمل في نصوص لعبدالله الطوخي وجبرا إبراهيم جبرا، ويشغى الشعر الحديث- والحداثي- بالنمل الخاص به يسعى ولممط نثار النثر، لكن الذاكرة لا تستطيع الإمساك بالفتافيت "أو الفتات أصح"، حتى لو كانت ممالك النمل الشعرية هي البديل المجازي لإمبراطوريات البشر.

 

محمد مستجاب

 
  




النمل