جمال العربية

جمال العربية

"المتجردة"
للنابغة الذبياني
هذا شاعر قديم دار من حوله كلام كثير, وشغل زمانه, ولا يزال يشغلنا بعد خمسة عشر قرنا من الزمان.

لقب بالنابغة لأنه نبغ في الشعر بعد أن كبر وتقدمت به السن, وقيل بل لأنه قال: (فقد نبغت لنا منهم شئون). أما الدكتور يوسف خليف الذي كتب عنه وعن عصره في كتاب "الروائع من الأدب العربي" فيغلب عليه الظن بأنه لقب به لنبوغه في الشعر وتفوقه فيه. بل هو في رأيه قمة شامخة من قمم مدرسة الصنعة الجاهلية التي سمي أربابها بعبيد الشعر ـ لعكوفهم الطويل على تجويد شعرهم ونخله وتهذيبه ـ شأنه شأن زهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة وعبيد بن الأبرص ـ حتى لقد ارتضاه شعراء عصره حكما بينهم في سوق عكاظ (حيث كانت تضرب له قبة حمراء متميزة, ويأتيه الشعراء من شتى القبائل ليعرضوا عليه شعرهم). وهو الذي حكم بتفضيل الخنساء على حسان بن ثابت في قصة له مأثورة.

ولا يذكر النابغة أو زياد بن معاوية ـ فهذا هو اسمه الحقيقي ـ إلا ويذكر فن الاعتذاريات في شعرنا العربي القديم باعتباره علمه الأول والرائد المبدع فيه. وقد أوقعه في هذه الاعتذاريات اتصاله المبكر بالنعمان بن المنذر حاكم الحيرة ـ والملقب بأبي قابوس ـ وسرعان ما أصبح النابغة شاعر بلاطه الأول, والأثير والمقرب إليه, والنعمان يقدمه عليه ويجزل له في العطايا والهبات. ويقربه أكثر فأكثر جاعلا منه نديمه في مجالس أنسه وسمره وشرابه. لكن النابغة يفاجىء الناس بمغادرة الحيرة عاصمة ملك المناذرة, متجها إلى أعدائهم وخصومهم التقليديين: الغساسنة في الشام, مادحا الملك عمرو بن الحارث الأصفر ملك الغساسنة.. وهو الأمر الذي سيكرره المتنبي بعد ذلك بقرون, حين يهجر سيف الدولة الحمداني, وبلاطه في حلب ـ عاصمة ملك الحمدانيين ـ ويتجه إلى مصر حيث كافور الإخشيدي.

وكان النابغة ـ فيما يقال ـ يصف المتجردة زوجة النعمان وصفا أفحش فيه, مما أثار غيرة المنخل اليشكري الذي كان يهواها بدوره فوشى به إلى زوجها النعمان. وعندما أحس النابغة بتغير النعمان أسرع بالفرار من الحيرة.

أياً ما كان الأمر, فإن قصيدة المتجردة للنابغة أصبحت أشهر قصائده على الإطلاق, وأجلبها للقيل والقال, خاصة بالنسبة لأبياتها الأخيرة التي أفحش فيها النابغة وتبذل, وهي أبيات سنسقطها ـ آسفين ـ لأن توقر (العربي) لا يسمح بذكرها ونحن نتكلم عن جمال العربية فناً وإبداعا. وإن كان ذلك لا يحول بيننا وبين النظر إلى النابغة في قصيدته هذه وفي سائر شعره على أنه شاعر صناع, (يجود صنعته ـ أي الشعر ـ ويتقنها, ويظل عاكفا عليها يعيد فيها النظر, ويطيل البحث والتأمل والتهذيب والتشذيب. حتى يخرج فنه على الصورة الدقيقة المحكمة التي يريدها له, في أناة شديدة, وتجويد بالغ, وحرص واضح على تنقية ألفاظه وعباراته وإحكام صوره.

والنابغة لا يختلف عن سائر شعراء عصره غرابة وبداوة ومعجما شعريا وصورا مستوحاة من بيئته ومنتزعة من واقعه. لكنه يختلف عنهم من حيث ذوقه الحضاري الرقيق المرهف الذي اكتسبه من خلال اتصاله الطويل بكل من المناذرة والغساسنة في الحيرة والشام, ومخالطته للبلاطين المقصودين من كثير من شعراء ذلك الزمان. من هنا يتمثل هذا الذوق الرقيق المرهف في انتقاء مفرداته واختيار زوايا صوره, وفي الطابع الحضاري الذي يكسو شعره, وينثر في ثناياه أفكارا وصورا مسيحية, خاصة عندما يكون الأمر متصلا بمدح الغساسنة الذين يدينون بالمسيحية. وفي البرهنة على سبق النابغة وابتكاره لفن الاعتذار في الشعر العربي ووضع تقاليده الفنية, كثر الاستشهاد بأبيات للنابغة تقف في فضاء هذا الفن الشعري باعتبارها منارات هادية ومعالم كاشفة, ومنها قوله:

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني

وتلك التي أهتم منها وأنصبُ

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً

وليس وراء الله للمرء مذهبُ

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش وأكذبُ

وقوله في قصيدة أخرى :

 

وعيد أبي قابوس في غير كنهه

أتاني ودوني راكس فالضواجع

فبت كأني ساورتني ضئيلةُ

من الرقش في أنيابها السم ناقعُ

ومنها البيتان اللذان يحفظهما الناس ويتداولونهما لما فيهما من صورة مفزعة افتن في إبداعها النابغة ـ على غير مثال سابق أو وضع مألوف ـ حتى ليتحسس كل من يستمع إليهما رأسه أو رقبته, مخافة أن تكون هذه الخطاطيف المقوسة قد أدركته وانغرست فيه لتجذبه وتشده.

يقول النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسعذ

خطاطيف حجن في حبال متينةٍ

تمتد بها أيد إليك نوازعُ

ثم البيت الذي يترافع به النابغة عن نفسه متهماً غيره من الظالمين الجناة:

أتوعد عبداً لم يخنك أمانةً

وتترك عبداً ظالماً وهو ضالعُ؟

ويفتن الرواة في إيراد بعض التفاصيل عن قصة قصيدة المتجردة, فيقولون إن النابغة في بعض دخلاته على النعمان قد فاجأته المتجردة, فسقط نصيفها عنها ـ والنصيف نصف ثوب أو نصف خمار (أي غطاء الوجه) ومن هنا فقد سمي بالنصيف لأنه نصف ـ فغطت وجهها بمعصمها, فقال النابغة ما قاله واصفا مفتناً, وقد كنى عنها حتى لا يشير إليها صراحة, لكن شعره فضحه, وتصويره الرائع خذل ذكاءه وكشف عن مراده, فكان من الأمر ما كان.

واللوحة التي يبدعها النابغة, تقدم للمتجردة صورة فاتنة, تستثير الخيال والحواس معا, وتنبض بقدرته الفذة على التصوير والاستقصاء وصولا إلى أدق التفاصيل. إنه يرى بعين العاشق الذي فاجأه مشهد لم يتوقعه ولم يحسب حسابه, فنطق بالسر وباح. والعاشقون إن ينطقوا بالسر أبيحت دماؤهم كما يقول المتصوفة. لكن النابغة لم يكن متصوفا ولا عرف التصوف. إنه مصور حسي المزاج, موغل في نظرته الفاحصة التي تغزو وتقلب وتتذوق.

إن نظرة المتجردة قد أصابت فؤاده بسهمها النافذ, وكأنها نظرة الغزال الذي اكتملت تربيته وتزيينه, فما أجمل عينيها وما أروع سوادهما وما أبدع طول عنقها, وهي منعمة تطلى بالزعفران وتتطيب به, نعيماً ورفاهية, وهي بضة ناعمة, كالشمس إشراقا ونورا, وهي درة مكنونة في صدفتها حين أطلعها الغواص ورآها هلل لها وسجد شاكرا, مستمتعا بروعة صفائها ورقة بشرتها, ثم هي دمية من مرمر, كأنها مرفوعة منصوبة على قاعدة من رخام, رعاية لها وحفظا وإثارة لجمال المشهد والمعاينة وحين نصل إلى البيت الذي يقول فيه:

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العوّد

نكون قد بلغنا ذروة الكشف عما كان يخالج وجدان النابغة وهو يصور لنا جمال المتجردة. إنها تنظر نظرا ضعيفا لا تقدر معه على الكلام, نظر خائف مراقب, وأرادت الكلام ـ وهو جوهر حاجتها ـ فلم تقدر خشية الرقباء والوشاة, فهي كالسقيم الذي ينظر إلى من يزوره من العواد بطرف فاتر ضعيف وهو غير قادر على الكلام!

والآن إلى قصيدة المتجردة للنابغة الذبياني:

آمن آل مية رائح، أو مغتد،

عجلان, ذا زاد, وغير مزوَّدِ

أفد الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا, وكأن قدِ

زعم البوارح أن رحلتنا غداً

وبذاك تنعاب الغراب الأسودِ

لا مرحبا بغد, ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة في غدِ

حان الرحيل, ولم تودع مهددا

والصبح والإمساء منها موعدي

في إثر غانية رمتك بسهمها

فأصاب قلبك, غير أن لم تقصدِ

غنيت بذلك, إذ هم لك جيرةٌ

منها بعطف رسالة وتوددِ

ولقد أصابت قلبه من حبها

عن ظهر مرنان, بسهم مصرد

نظرت بمقلة شادن مترببٍ

أحوى، أحم المقلتين, مقلدِ

والنظم في سلك يزين نحرها

ذهب توقد, كالشهاب الموقدِ

صفراء كالسيراء، أكمل خلقها

كالغصن, في غلوائه, المتأودِ

والبطن ذو عكن, لطيف طيهُ

والإتب تنفجه بثدي مقعدِ

محطوطة المتنين، غير مفاضةٍ

ريا الروادف، بضة المتجردِ

قامت تراءى بين سجفي كلةٍ

كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

أو درة صدفية غواصها

بهج، متى يرها يهل ويسجدِ

أو دمية من مرمر, مرفوعةٍ

بنيت بآجر, يشاد, وقرمدِ

سقط النصيف, ولم ترد إسقاطه

فتناولته, واتقتنا باليدِ

بمخضب رخص, كأن بنانه

عنم، على أغصانه لم يعقدِ

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العوَّدِ

تجلو بقادمتى حمامة أيكة

برداً أسف لثاته بالإثمدِ

كالأقحوان، غداة غب سمائه

جفت أعاليه، وأسفله ندي

زعم الهمام، بأن فاها بارد

عذب مقبله، شهي الموردِ

زعم الهمام، ولم أذقه، أنه

عذب، إذا ما ذقته قلت: ازددِ

زعم الهمام، ولم أذقه، أنه

يشفى بريا ريقها العطش الصدي

أخذ العذارى عقدها، فنظمنه

من لؤلؤ متتابع، متسردِ

لو أنها عرضت لأشمط راهب

عبدالإله، صرورة، متعبدِ

لرنا لبهجتها، وحسن حديثها

ولخاله رشداً وإن لم يرشدِ

 

فاروق شوشة