الانتماء الوطني، وتعدد الولاءات

الانتماء الوطني، وتعدد الولاءات

ظهرت أصوات تدعو الناس إلى انتماءات أخرى ذات طبيعة طائفية وعرقية وسياسية، حتى وصل الأمر ببعض المرجفين إلى تسفيه فكرة الوطنية باعتبار الوطن في زعمهم (لا يزيد عن كونه قطعة من تراب أو طين)!!.

كانت لهذه الدعاوي الشاذة انعكاساتها السلبية على ساحة العمل الوطني في البلدان التي شاعت فيها هذه الدعاوي، بل وعلى أمن الوطن ومواطنيه، حتى وصل الأمر إلى انتهاك حرمات الوطن والمواطنين من أرواح وممتلكات عامة وخاصة على أيدي أبنائه، كما نرى ونسمع اليوم مع الأسف في بعض البلدان العربية والإسلامية كالجزائر والصومال وأفغانستان وغيرها من البلدان التي تتهددها هذه الظاهرة الخطيرة، وكانت مصر ساحة لها حتى عهد قريب ثم تمكنت أجهزة الأمن من الحد منها.

وقد أرجع بعض المحللين الاجتماعيين والسياسيين في تفسيرهم لهذه الظاهرة المرضية ـ ضعف أصرة الولاء والانتماء الوطني ـ إلى صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الناس ـ مثل مشكلة البطالة، وفشل الحكومات في حل مشاكل الأقليات، كما ذهب البعض إلى أن ذلك يرجع إلى انعدام الديمقراطية والافتقاد إلى مشروعات قومية يمكن أن يتجمع الناس حولها وتستقطب جهودهم. وقليل هم الذين اكتشفوا حقيقة السبب وراء ذلك المرض العضال الذي أصاب الكثير من الشعوب العربية والإسلامية، وأصبح يفت في عضدها وأوصال جسدها، والذي يرجع في الأساس إلى شيوع أيديولوجيات فاسدة تسللت إلى عقول الكثيرين، تتستر تارة بشعارات دينية، وتارة ثانية بشعارات طائفية، وثالثة بشعارات عرقية أو قبلية وعشائرية، معظمها من صنع أعداء الوطن في الخارج والداخل، تستهدف القضاء على روح الانتماء والولاء الوطني في نفوس أبناء الوطن، ليتحولوا من خلايا حية نشطة تمد الوطن بالطاقة والحيوية إلى خلايا سرطانية مدمرة تقتل وتخرب تحت شعارات براقة تظهر عكس ما تبطن، حتى بلغ الأمر في بعض هذه البلدان إلى ارتكاب بعض هذه الجماعات والتنظيمات الضالة مذابح جماعية لأبرياء من مواطنيهم بلا أدنى قدر من رحمة أو شفقة أو إنسانية، وهم يعتقدون في نفوسهم المريضة أنهم يحسنون صنعا. بل لقد وصل الإجرام بالبعض ممن غسلت عقولهم بهذه المفاهيم الباطلة إلى قتل آبائهم وأمهاتهم لمجرد الاختلاف معهم في معتقداتهم وآرائهم.

الانتماء والولاء

قبل أن نستطرد في الرد على المفاهيم الباطلة التي تفسد أصرة الولاء والانتماء الوطني ـ وهو هدف مقالتنا هذه، وإزاء ما نراه من استخدام موسع لكلمتي الانتماء والولاء، فإن الأمر يستدعي أولا أن نحدد حقيقة ما يعنيه هذين المصطلحين، ونؤصله علميا:

أ ـ فالانتماء: هو شعور ذاتي لدى المواطن، يدرك من خلاله أنه جزء من هذا الوطن، ينتمى إليه بحكم الميلاد على أرضه، وارتباطه بأهله بوشائج كثيرة أبرزها وشيجة الانتماء في العقيدة، بالإضافة لوشائج اللغة والجنس والتاريخ والقرابة والمصاهرة والمصالح المشتركة. وأن هذه الأرض التي تضم رفات آبائه وأجداده، هي التي ستضم في المستقبل أيضا رفاته وأبنائه وأحفاده من بعده. ومن ثم فإنه يدرك تماما أن ماضيه وحاضره ومستقبله هو وأهله وذريته من بعده، يرتبط ارتباطا وثيقا بصالح وطنه ونموه وإزدهاره، ورفاهية أهله الذين ارتضوا بإرادتهم ومشيئتهم الحرة أن يعيشوا في جماعته، وأن يتضامنوا فيما بينهم بغية الحياة المشتركة، وأن يشكلوا فيما بينهم وحدة سياسية متكاملة لها آلياتها وقيادتها التي ارتضت أغلبية الشعب أن ترأسهم. وهذه الوحدة السياسية هي ما يسمى بالدولة، ولها تعبير مادي ومعنوي يرتبط بالماضي ويتصل بالحاضر ويتطلع إلى مستقبل أفضل. لذلك فإن المواطن الصالح يشعر بقوة الانتماء لوطنه، لأنه يدرك أهمية ارتباطه به، وأن كل ما فيه خير الوطن وصالحه، هو في حقيقة الأمر خير له وفي صالحه وصالح أهله وذريته من بعده. وفي المقابل، فإن كل ما يسيء إلى وطنه يسيء في ذات الوقت إليه وإلى أهله وذريته من بعده.

ب ـ أما الولاء: فهو يعني ترجمة الشعور بالانتماء على أرضية العمل والسلوك الفردي والجماعي للمواطنين، وبما يعني الإخلاص في العمل للوطن والتفاني في ذلك لأقصى درجات الإخلاص والتفاني، كل مواطن في تخصصه.. الزارع في حقله، والصانع في مصنعه، والمدرس في فصله وبين تلاميذه، والتاجر في تجارته، والجندي في موقعه.. وهكذا، وبما يعني دفاع المواطن عن وطنه، مع استعداده للتضحية في سبيل ذلك بدمه وروحه عندما يتطلب الأمر ذلك، وأن يفضل المواطن مصلحة وطنه على مصلحته الذاتية إذا ما تعارضت معها. هذا إلى جانب احترام قوانين الدولة، والالتزام بالقيم المعنوية والأخلاقية والأعراف السائدة التي تحكم علاقات المواطنين في المجتمع، وعدم الخروج عليها، بل حمايتها والذود عنها بالإضافة للاعتراف والتسليم بسيادة الدولة، وما تمثلها من قيادة سياسية وأجهزة تنفيذية وتشريعية وقضائية، وأنها المرجع الأعلى فيما يطرأ بين المواطنين من نزاعات، وأنها المصدر الوحيد لفرض القوانين التي تحكم المجتمع، والتي تستند إلى الدستور وقواعد الشرعية السائدة التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وارتضاه الجميع منهجا لهم.

فك التصادم

ومن الأمور البديهية أن الوطن كيان يشمل الأرض والشعب والثروة وسائر الحرمات من مقدسات وأعراض.. وغير ذلك، فعلى أرض الوطن يقيم المسلم دينه وشعائره، والدين علاقة بين الإنسان وربه الذي يعيده، تنعكس في معتقده وسلوكه مع نفسه والآخرين من أهله وعشيرته، بحيث يأتيها كما أمر المولى عز وجل ورسوله بذلك. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هناك تناقض أو تعارض أو تخاصم بين الانتماء للدين، والانتماء للوطن كما يزعم البعض?! ثم إذا ترك المسلمون أوطانهم وهجروها تحت أي زعم من المزاعم أو الدعاوى الباطلة التي تروج لها بعض الجماعات المتطرفة، إلى الجبال والكهوف لكي يفروا بدينهم، فلمن يتركون أوطانهم حينئذ? إنهم يتركونها مستباحة لأعداء الوطن يحتلونها في غيبة أهلها المفروض أنهم المدافعون عنها، فهل هذا مما يأمرنا به الدين? حاشا لله. إن من الثابت تاريخيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة لم يأمر كل المسلمين بترك مكة والذهاب معه إلى المدينة، بل ترك فيها مسلمين يقيمون دينهم على أرضها رغم سيطرة المشركين عليها، ومن الثابت تاريخيا أيضا أن حضرته لم يأمر كل القبائل التي آمنت به ودخلت في الإسلام أن تترك أراضيها وتهاجر إلى المدينة، بل بقوا في أوطانهم يقيمون فيها شعائر الإسلام، وأرسل الرسول إليهم من الصحابة من يرشدهم إلى دين الله.

ولو رجعنا إلى تاريخ الأمة الإسلامية في زمن تكوينها خلال القرن الأول الهجري، فسوف نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة وصالح بين قبيلتي الأوس والخزرج، لم يلغ هويتهما أو زعاماتهما، بل أبقاها كما هما. كذلك عندما تم فتح بلدان الشام والعراق ومصر في عهد الخلفاء الراشدين، لم يسع أي منهم إلى إذابة الهوية الوطنية لشعوب هذه البلدان التي دخلت في الإسلام، أو حتى القبائل التي انضوت تحت لوائه. بل حفظوا لكل شعب هويته وكيانه ونظامه في الحكم الذي ارتضاه، بل وزعامته أيضا طالما التزم بتعاليم الإسلام ولم تحاربه. ولم يحل ذلك الاستقلال الوطني لكل شعب من هذه الشعوب الإسلامية دون أن تتعاون فيما بينها في أمور الدفاع والأمن والسياسة والاقتصاد والثقافة تحت القيادة المركزية للدولة الإسلامية عندما كان مركز الخلافة في المدنية إبان حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. ثم عندما تحولت الخلافة بعد ذلك إلى ملك عضد مركزه في دمشق إبان الدولة الأموية، ثم بغداد إبان الدولة العباسية، ثم القاهرة إبان الدولة الفاطمية، وأخيرا إستانبول إبان الدولة العثمانية. وحتى بعد أن استقلت كل البلدان الإسلامية استقلالا كاملا على النحو الذي جرى في نهاية القرن الماضي ومازال قائما، وأصبح لكل منها كيان ذاتي وهوية خاصة مستقلة، مما يتطلب تعزيز وتقوية أواصر الولاء والانتماء بين أبناء الوطن الواحد دفاعا عنه، ودرءاً للتهديدات الأمنية التي تواجهه، فإن ذلك لا ينتقص من إيمان وإسلام شعوب هذه الدول شيئا، بل على العكس، فإن في تعزيز أواصر الولاء والانتماء الوطني في كل بلد إسلامي، تعزيزا وتقوية لكل البلدان الإسلامية في مواجهة المخاطر والتحديات التي تتهددها، ناهيك بالطبع عن كون ذلك تنفيذا لكل ما أمر به الله ورسوله من حض على الدفاع عن الأوطان والذود عن حياضها، بل هو عيني الجهاد في سبيل الله، حتى يتمكن شعب كل بلد من أن يعيش آمنا داخل حدوده، قادرا على إقامة شعائر دينه، وحتى يحفظ كل فرد على نفسه تقواه.

مظلة الوطن

وفي هذا الصدد ينبغي إدراك أنه لا ضرر من أن يكون للمسلم انتماءات قبلية وطائفية أو عشائرية وعرقية، فلا خطر من تعدد هذه الانتماءات، ولكن لا ينبغي أن تتعارض أو تعلو فوق الانتماء الوطني الذي يظلل الجميع بمظلته وحمايته.

أما إذا دخلت النعرات الطائفية والعرقية والسياسية في تصادم مع الانتماء والولاء الوطني، فإن في ذلك كارثة على الوطن بسبب ما سيترتب عليه من تفسخ أواصر المجتمع الواحد، وتهديد لوحدته وتماسكه الوطني، بل وتهديد لأمن الوطن في بعديه الداخلي والخارجي، خصوصا في ضوء ما برز في الكثير من البلدان العربية والإسلامية من تيارات سياسية متعددة، بعضها ذو تبعيات خارجية، تتصارع على السلطة وتتخذ من الأغطية الدينية والعرقية والقبلية ستارا في محاولة لفرض إرادتها على المجتمعات في هذه البلدان.

فإذا ما ترسخت مفاهيم الانتماء الوطني في ضمير ووجدان كل مواطن في الدولة، فسوف يدرك بفطرته أهمية انتمائه وعمله بولاء من أجل وطنه، وهنا تصبح قضية الدفاع عن الوطن قضية حياة أو موت بالنسبة له تهون وتزول بجانبها كل القضايا والاهتمامات الأخرى. وإذا ما حانت ساعة الجهاد في سبيل الله والوطن، فسوف نجد مثل هذا المواطن ـ المدرك لهذه الحقائق والسالك فيها بإيمان ويقين - يقاتل في سبيل الدفاع عن أرضه وماله وعرضه بشراسة وعنف.

تدعيم القيم الدينية

ومما لاشك فيه أن تدعيم هذه المفاهيم بالقيم الدينية التي تحض على العمل بولاء من أجل الوطن، سيزيد من ترسيخها في نفوس المواطنين، خصوصا إذا ما اقترن ذلك بتوضيح الدولة لجماهير الشعب بغاياتها وأهدافها القومية العليا، والتهديدات والمخاطر الحالية والمستقبلية التي من الممكن أن تعيق الدولة عن تحقيق هذه الغايات والأهداف حتى يكون الشعب على بيِّنة من أمره، كذلك بالخطوط العريضة لفلسفة الدولة وسياستها في الدفاع عن الوطن، وتعريف المواطنين بالهدف المطالبون بالدفاع عنه، وبمشروعيته وعدالته، وبأن سياسة واستراتيجية الدولة لمواجهة هذه التهديدات هي أفضل ما يمكن عمله في ظل الظروف القائمة من أجل ردع العدائيات، والتصدي لها في حالة عدوانها.

وهنا حقيقة ينبغي التوقف عندها والتنويه عنها، ذلك بأننا لا نميل لأولئك الذين يدعون بأن الشعوب العربية والإسلامية بشكل عام بعيدة عن الأنظمة التي تحكمها ـ ونعني هنا الأنظمة المعتدلة وليست الأنظمة الديكتاتورية المرفوضة أصلا من شعوبها ـ فذلك في تقديرنا غير صحيح. أما الصحيح والحقيقة أن معظم حكوماتنا ـ إما نتيجة إهمال أو سوء استخدام ما لديها من إمكانات وقدرات واسعة ـ فشلت في الوصول إلى شعوبها، واستنفار طاقاتها لمواجهة قضاياها الملحة، وبث روح الانتماء والولاء فيها. لذلك تجمدت هذه الشعوب، وبالتالي أصبحت سلوكياتها تتسم بالسلبية واللا مبالاة تجاه القضايا الوطنية المهمة، أو وقعت فريسة حرب نفسية عاتية يشنها عليها أعداء الوطن في الداخل والخارج بينما أجهزة الدولة عاجزة عن التصدي لها، فضعفت بالتالي إرادة هذه الشعوب، وتفسخت قواها، وتبعثرت جهودها بعد أن ضاعت آمالها. لذلك فإنه لا يمكن إعفاء أجهزة الدولة من هذه المسئولية وما يترتب عليها من سلبيات.

تبقى نقطة مهمة ترتبط ارتباطا وثيقا بقضية الولاء والانتماء، وترسيخه في نفوس الشعب. فلكي يؤتي عمل أجهزة الدولة وجهودها التي تبذلها في هذا المجال ثمارها المرجوة من حيث كسب الإجماع الوطني خلف القيادة السياسية للدولة، وتحقيق تماسك المجتمع معها، ولكي يقوى الشعور بالولاء والانتماء الوطني في وجدان جميع المواطنين، فلابد أن يرتبط كل ما يقال وينشر عن ذلك، ويقترن بأن تكون النخبة الحاكمة والمسئولون في جميع مواقع العمل الوطني بمثابة قدوة طيبة ومثل صالح يُحتذى به لجماهير الشعب في سلوكياتهم وأقوالهم، حتى لا يكون هناك تناقض بين ما يدعون إليه وما يفعلونه، فلا يصدقهم الشعب ولا ينفعل بسياسات الدولة وتوجيهاتها.

 

حسام سويلم