تركيا... الأبعد... الأقرب

تركيا... الأبعد... الأقرب

حديث الشهر

لو أننا القينا نظرة متأملة على العلاقة التركية العربية التي امتدت لأربعة قرون تقريبا، وكانت علاقة هيمنة وتأخر، تجاهل العرب تركيا لفترة طويلة، وتجاهلتهم. لم يكن هذا التجاهل المتبادل عن سابق إصرار، لقد اعتبر العرب أن تأخرهم في القرون الأخيرة القليلة كان ناتجا مباشرة من الهيمنة التركية العثمانية، واعتبر بعضهم أن تقاعس الإمبراطورية العثمانية في الأخذ بالجديد من وسائل التقدم هو الذي مهدت الأجواء للسيطرة الأجنبية الأوربية على بلادنا، واعتبر الأتراك المحدثون أن تخلف بلادهم كان أحد أسبابه هو تعلقهم بالعرب الذين أثقلوا كاهل الإمبراطورية. تلك صور ليست بالضرورة صحيحة أو قطعية، ولكنها صور عالقة في الذهن العربي وفي الذهن التركي على السواء.

السؤال: ماذا يجعل العرب من جهة يهتمون بالشأن التركي اليوم? في تصوري أن هناك عدة اعتبارات لهذا الاهتمام المفاجىء على رأسها اثنان:

أولا: التجربة التركية في الحكم السياسي الديني (تجربة حزب الرفاه)

ثانيا: العلاقة التي أصبحت خاصة جداً بإسرائيل.

هذه أهم الاعتبارات وليس كلها، فهناك اعتبارات أخرى، منها الجوار الجغرافي والتداخل التاريخي، إلا أنني في هذا الاستعراض سوف أميل أكثر إلى محاولة فهم الأتراك بصورتهم المعاصرة دافعه الاعتبار الأول على وجه الخصوص، وسوف أتعرض بطبيعة الحال إلى الاعتبار الثاني، في محاولة مني للتعرف على مدى التناقض والانسجام في تلك الاعتبارات التي سقتها وهل كانت في حجمها الطبيعي أم أن الأمر قد تعدى ذلك إلى درجة المبالغة?.

بدأ الاتصال الأولي بين العرب والأتراك ولم يمض على الهجرة النبوية الشريفة إلا حوالي نصف قرن، عندما عبر عبدالله بن زياد والي خراسان ـ في زمن معاوية بن أبي سفيان ـ نهر جيحون، واستولى على مقاطعات من بلاد الترك في ما وراء النهر، ثم تتابعت الفتوحات العربية حتى استتب الأمر السياسي للعرب في الثلث الأول من القرن الهجري الثاني 321هـ، (الثلث الأول من القرن الميلادي الثامن) 837م، على يد القائد العربي نصر بن سيار، ولكن الأتراك لم يدخلوا الدين الإسلامي إلا اعتبارا من النصف الثاني للقرن التاسع الميلادي، ويقول لنا المؤرخون إن سبب دخول الأتراك الإسلام، تسامح المسلمين من جهة، وتجنيد أعداد كبيرة من الأتراك في جيوش المسلمين، من جهة أخرى حتى بلغت سلطة الأتراك في المجتمع السياسي العباسي حدا أصبح فيه الخليفة العباسي (خاصة في عهد المعتصم ـ الذي كانت أمه تركية ـ ومن جاء بعده) تحت سيطرتهم.

بداية من القرن العاشر الميلادي اتخذ الأتراك الأبجدية العربية خطا لهم، بعد أن استخدموا العديد من الأبجديات منذ عرفوا التاريخ(1)، ومالبثت أن أصبحت اللغة العربية لأربعة قرون تقريبا لغة الإدارة والعلم، وهو زمن غير هين بكل المقاييس، إلا أنه بدءاً من القرن الميلادي الثالث عشر أخذت اللغة التركية تحل تدريجيا بدل العربية، وإن كانت المعاجم العثمانية تدل بوضوح على تأثر اللغة التركية بالعربية، وقدرت في سنة 47 بحوالي 20% من الكلمات.

ثورة اتارتوك .... مفترق طرق

تاريخ العلاقات التركية العربية تاريخ طويل، خاصة في القرون الأربعة الأخيرة المنتهية ببداية القرن العشرين، فقد سيطر الأتراك على المقدرات العربية نهائيا منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي حينما دخل العثمانيون إلى دمشق ثم القاهرة وأصبحت السلطنة لهم والخليفة منهم، حتي مطلع القرن العشرين، إلا أن الفاصلة في هذا التاريخ كانت هي الثورة الكمالية، التي قادها مصطفى كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، ومن ثم إلغاء الخلافة، وقد باعدت الثورة التركية بين التاريخ العربي والتاريخ التركي بحيث قطعت روابط الاشتباك التي دامت قرونا، فوقع بعض العرب تحت سيطرة الحماية الغربية، وقد سارت تركيا مساراً آخر بعدما فقدت الإمبراطورية دون أمل في استعادتها أمام أعدائها الغربيين من الحلفاء، واعتقد قادة الثورة التركية أنه كي تلحق تركيا بالغرب لابد لها أن تأخذ بكل ما أخذ به الغرب من تنظيم سياسي واجتماعي ولغوي، فبدلت الكمالية الأبجدية العربية المستخدمة في اللغة التركية وقتها بالأبجدية اللاتينية، وتبنت نظرية (الشمس) التي تؤمن بأن التركية هي أصل اللغات جميعا، كما تبنت الطرق الغربية كوسيلة للدخول إلى الحضارة الغربية، وتبنت أيضاً النظم الاقتصادية والاجتماعية الغربية، فيما عرف لاحقا بالعلمنة. إلا أن تأثير اللغة العربية في التركية مازال قائما، كما أن الدين في المجتمع التركي هو الإسلام، فالزعماء يمكن أن يأمروا ولكن الواقع قد لايستجيب.

لقد أصبح الأتراك والعرب بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية على مفترق طرق، والأدبيات العربية تؤكد الفعل الاستقلالي للعرب عن الأتراك، ولم تكن العلاقة التاريخية كلها سمنا وعسلا، فقد فرض الأتراك على العرب حكما ـ خاصة في القرنين الأخيرين من سيطرتهم ـ متخلفا ومنعزلا في آن واحد، حتى أصبح الحكم العثماني احتلالا ثقيلا، ومما يلفت النظر أن التراث التركي لم يبق منه في البلاد العربية باستثناء الطربوش وربما بعض الأمور العقارية، وأنظمة المساحة وقوانيين المحاكم الشرعية أي شيء يذكر. لقد سقطت أربعمائة سنة من الحكم العثماني من الذاكرة العربية دون ممانعة تذكر، وأعاد العرب وصل ما انقطع بينهم وبين تراثهم في عصوره المزدهرة، يبحثون وينقبون، ولم يترك الاتصال بالاتراك أية ممانعة لتلك العودة، ربما لأن الأتراك لم يقدموا شيئا يذكر للعرب حضاريا، لقد كانوا جباة في الغالب للفائض البسيط من الأرض والكدح اليومي، في مقابل وعد بالحماية الخارجية الهيمنة المباشرة في القرنين الأولين على الأقل.

لذلك فإن الصورة التركية في ذهن العرب المحدثين ليست بالضرورة هي الصورة الإيجابية، لقد انحاز الطرفان إلى الفكر القومي كما جاء في فلسفة الغرب، فكانت القومية العربية تدعو إلى العروبة بعيدا عن وشائج الخلافة الإسلامية، خاصة إذا كانت هذه الوشائج تستخدم لصالح هيمنة عرق من الأعراق، واعتقد الأتراك في نهاية إمبراطوريتهم قبل الحرب الأولى ومابعدها أن العرب قد تخلوا عنهم في مواجهة الغرب، كما تبنى الأتراك القومية (الطورانية) وهي اللفظة التي أطلقها الغربيون على الأقوام التركية التي تقطن المنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط حتى منغوليا، وتمتلىء الأدبيات العربية والتركية في معظمها، منذ الحرب الأولى وما بعدها بلهجة عدائية بين القوميتين، الأتراك ينظرون إلى العرب كأعداء وخونة طعنوا الأتراك في ظهورهم ـ كما عبر عنها المتعصبون الأتراك خاصة في عهد أتاتورك ومابعده ـ والعرب ينظرون إلى الأتراك على أنهم سبب تأخرهم وعجزهم عن اللحاق بالعصر، فضلا عن تسليمهم لقمة سائغة للاستعمار الغربي.

إلا أن الأمر لم يحسم حتى اليوم في الجدل الدائر بين دور الأتراك والعرب في التاريخ المشترك، هناك من الأتراك من يقول بتوليفة قومية معتدلة بين الإسلام وبالتالي العرب في تصور وفاقي، ينظر إلى المصالح المشتركة، وهناك من العرب من يقول إن الأتراك قد صدوا تاريخيا الهجمات العديدة من الغرب على المنطقة العربية، وأبلوا بلاء حسنا في توسيع رقعة الإسلام، إلا أن كل ذلك هو جدل حول التاريخ، وتفسير معاصر لحوادث انتقائية منه، والتركيز على زماننا اليوم هو الأجدى لمعرفة الهوامش المشتركة برغم اختلاف المصالح أحيانا، حيث لايجدي التاريخ فتيلا عندما تتغير الظروف غير آخذ العبرة مما حدث وكان.

صورة العربي لدى التركي المعاصر

لا أحد يستطيع أن يضع تصورا لتعميم كامل يرصد العلاقة بين شعب وآخر، غير أن الدارسين المنهجيين يمكنهم أن يقدموا لنا ولو إطارا عاما عما يسمى اليوم بالصورة النمطية، والصورة النمطية للعرب لدى الأتراك المعاصرين ليست مبهجة، ولقد زادها قتامة ما تضخه وسائل الإعلام الغربية في ذهن التركي المعاصر، بجانب الإرث التاريخي السلبي المتراكم، وتصور بعض القصص الشعبي التركي العرب وقد ألصقوا بهم صفات السرقة والاحتيال، وبتشويه صورتهم الجسمية (ضخام الجثة غلاظ الشفة)، وأنهم ميالون دوما للثأر لتحقيق أغراضهم، غير مؤتمنين، ومن الأمثلة الدارجة (صب أكلة الرز أمام العربي بعد موته) كإشارة لشراهة العربي وحبه للأكل والشرب والكسل، أما الكتب والمناهج المدرسية، فإنها تتعرض للعرب خاصة موقفهم من الحرب العالمية الثانية بشكل سلبي، ولاتتردد هذه المناهج عن وصف الموقف ذلك بالخيانة، وذلك مما يؤكد فكرة الغدر لدى العربي، وخيانته لمؤسسة الخلافة والتي هي في الأساس عربية (2).

أما في وسائل الإعلام فإن تحليل المضمون الذي أجراه الدكتور الدقوقي لمجموعة من الصحف التركية لثلاثة أشهر في الفترة الأخيرة بين آخر 39 و أول 49 في مقارنة بين موقفها من العرب وموقفها من إسرائيل وجد أن الصحف الكبرى والصحف القومية المتطرفة تعادي العرب وتبرر أعمال إسرائيل وتكيل المديح لها، ويشير الكاتب إلى أن تلك الصحف أوردت سبعين صفة رديئة حول العرب، في حين لم تورد أية صفة رديئة حول إسرائيل أو الصهيونية، ومقابل صفتين حميدتين للعرب، فقد كالت تلك الصحف سبعا وعشرين صفة حميدة للإسرائيليين(3)، أي أربعة عشر ضعفا للصفات العربية الحميدة، وبلغة الأرقام فإن صورة الإسرائيليين في تلك الصحف أفضل سبعين مرة من صورة العرب فيها، لأن مواد تلك الصحف إما دفاعاً عن إسرائيل أو إعجابا بها أو تعاطفا معها، في حين قدمت العرب في صورة قاتمة لأن العربي إرهابي ومتخلف ومتحايل وجبان وعدو لتركيا والأتراك، يدعم هذه الصورة السلبية بعض برامج التلفزة والإذاعة، أما الإسرائيليون فقد حولوا الصحاري إلى واحات خضراء وهم شعب مليء بالحيوية.

في ظل وجود صورة كهذه يمكن حل التناقض في ذهن العربي العادي الذي يدهشه أن تكون الأغلبية المطلقة للشعب التركي مسلمة، وأن تقوم تركيا في نفس الوقت بإقامة علاقة أكثر من ودية مع إسرائيل.

إن الصور النمطية السلبية لدى كل من الأتراك والعرب عن بعضهما البعض تعطل أي محاولة للتقارب الجاد بينهما، ومما يزيد هذه الصورة النمطية سوءاً هو التداخل السياسي في السنوات الأخيرة، والذي فتح ملفات عديدة كانت مغلقة حتى وقت متأخر، وكان من المأمول بعد صعود القوى التركية الجديدة في مجتمعات المدن الكبرى، ومشاركة القطاع الإسلامي التركي في الحياة السياسية بشكل ملحوظ، وامتلاك بعض العرب العديد من بيوت المال والشركات العاملة في تركيا أن تتحسن الصورة، إلا أن ذلك النشاط بحد ذاته قد أثار القوى صاحبة المصلحة المضادة كي تنشط في دعم الصورة النمطية التقليدية حول العرب نكاية سياسية في المنافسين لها في المجال الاقتصادي على الأقل، لذلك فإن العرب في نظر هذه الفئة هم الذين يستثمرون الدين الإسلامي للإضرار بالأمن القومي التركي، ويطمحون في المياه التركية، ويثيرون الأكراد، ويؤيدون الإرهاب، ويسيئون معاملة الأقليات التركية في بلادهم، فقط هذه عينة مما تتناقله الصحف وبعض وسائل الإعلام التي تسمم العلاقات التركية العربية.

الحركة الإسلامية في تركيا المعاصرة

تركيا دولة علمانية ولكن شعبها شعب مسلم. في هذه المعادلة تكمن أزمة الدولة وخلاصها في نفس الوقت، فالتيار العلماني الذي استندت إليه الثورة الكمالية وتابع خلفاء أتاتورك من العسكر ترسيخه كان بين مد وجزر، فقد اضطرت بعض الحكومات التركية أن تعيد التعامل مع الإسلام الشعبي في الوقت الذي حاولت فيه قوى أخرى ذات نفوذ سياسي تقليم أظافر أحزابه، وهكذا إلى يومنا هذا. لقد عمل أتاتورك بكل قوة نتيجة إيمانه بأهمية أن تلحق تركيا بالغرب على فصل الدين عن الدولة، وإخفاء الوجه الإسلامي لتركيا، وكانت فترة حكمه بين 1923 و 1938 هي المد الأعلى لمحاولة إنهاء المظاهر الإسلامية فقد ألغى الخلافة، والمحاكم الشرعية ألغتها الثورة المصرية بعد ذلك في سنة 1952، وعدل الدستور لإلغاء الدين من نصوصه (4)، وحظر نشاط كل الفرق الصوفية التي كانت منتشرة بكثرة في المجتمع التركي، وألغى الطربوش والحجاب والأبجدية العربية والتقوم الهجري وعطلة الجمعة، ولم يكتف بذلك، بل أجبر الأتراك على لبس القبعة واستخدام الحرف اللاتيني والتقويم الميلادي والتعطيل يومي السبت والأحد. لقد أراد أتاتورك من هذه التغيرات التي يسميها الفكر التركي اليوم (إصلاحات) أن يحاكي مظاهر البناء الفوقي الغربي الرأسمالي، وقد تزامنت الإصلاحات مع إصلاحات أخرى اقتصادية(5) غيرت من معالم الاقتصاد التركي.

فرض أتاتورك العلمانية في الدستور وأنشأ مؤسسات تابعة للدولة للإشراف على الشئون الدينية وراقب حركة الأئمة والوعاظ الذين تحولوا إلى موظفين لدى الدولة، وألغى الدروس الدينية في المدارس، كل هذه التغييرات كانت على سطح المجتمع التركي، فقد اقتصر الاقتناع بها على فئة عليا في المجتمع، كما أنه لم يستطع ترسيخ القيم الغربية التي أراد أن ينشرها، وبقيت الأكثرية التركية مرتبطة بالإسلام، بل قامت عدة انتفاضات شعبية اتخذت طابعا إسلاميا.

بعد رحيل أتاتورك سنة 1938 وجد خليفته "عصمت أينونو" أن معاداة الدين تتناقض مع المشاعر العامة، ومع إقرار التعددية الحزبية بعد الحرب العالمية الثانية والتنافس بين الأحزاب التركية لكسب أصوات .العامة بدأت مرحلة جديدة بين الدين والدولة في تركيا، وقد استفادت القوى الدينية من التعددية، فدخلت تحت مظلة أحزاب سياسية منافسة لحزب الشعب الجمهوري، ووجد هذا الحزب نفسه وهو المدافع عن العلمانية ولأسباب انتخابية يخطب ود الإسلاميين، واعتبر لأول مرة منذ قيام الجمهورية في مؤتمره العام سنة 7491 أن الدين (غذاء روحي للمجتمع)، وبدأ يعيد تدريجيا التدريس الديني، ويسمح بالسفر لأداء فريضة الحج، في هذا الوقت بدأت الطرق الصوفية التي اختفت تحت الأرض زمن أتاتورك تظهر تدريجيا مرة أخرى على السطح، وجاءت انتخابات 0591 لترجح كفة الحزب الذي تبنى التسامح مع المظاهر الدينية وكان هو حزب عدنان مندريس (الحزب الديمقراطي) والذي سيطر على الحياة السياسية طوال الخمسينيات، فقام بعدة إجراءات تصالحية مثل السماح برفع الأذان باللغة العربية، وتلاوة القرآن في الإذاعة وبناء الجوامع، ولابد من التذكير بأن هذه الإجراءات لم تكن حبا في نشر الدين بل سعياً لكسب الأصوات ولكنها كانت أيضا إحدى الطرق المجربة لمحاربة الأفكار الشيوعية التي وجدت لها مرتعا بين العمال والفقراء الأتراك، ولكن مندريس رفض رفضا قاطعا ظهور أي شكل من أشكال التنظيم الحزبي السياسي الديني، أمام تحذيرات الأحزاب الأخرى المنافسة خاصة حزب الشعب الجمهوري، وقد أدت ضغوط هذا الحزب إلى قيام الجيش التركي بأول انقلاب في مايو 0691 تحت شعار حماية العلمانية، الأمر الذي تكرر تقريبا بتفاصيله في كل مرحلة من مراحل تاريخ تركيا الحديث كلما اقترب الإسلاميون من السلطة بشكل حرج، تكرر ذلك في انقلاب مارس 1791 وكذلك في انقلاب سبتمبر 0891، ولم تنج التجربة إلا في عام 7991 عندما أخذ الانقلاب مظهراً دستوريا، فتحت مظهر تبادل السلطة تخلى أربكان عن الحكم لصالح شريكته في الائتلاف فطارت السلطة من الاثنين، وكلف رئيس الجمهورية حزب يلماظ بدلا منها لتشكيل ائتلاف جديد.

الإسلام السياسي ينتظم في أحزابه

بعد كل انقلاب يرجع الجيش السلطة للمدنيين، وتقبل هذه القوى بتنظيم الأحزاب والتعددية والديمقراطية، وبعودة الديمقراطية تعود الأحزاب للتنافس في لعبتها المألوفة للحصول على الأصوات، في الستينيات بدأ المجتمع التركي يتغير أيضا، وبدأت المدينة التركية تستقبل أعداداً أكبر من الريف، مهاجرين فقراء لم تلوثهم لعبة السياسة ومازالوا متمسكين بعقيدتهم الإسلامية المتأصلة، وشكل نجاح نجم الدين أربكان مهندس الماكينات الذي تعلم في ألمانيا في انتخابات 1969 كنائب مستقل مدخلا لاحقا له وأنصاره لتشكيل أول حزب إسلامي الميول وهو حزب النظام الوطني، وقبل ذلك كان أربكان عضوا في حزب العدالة الذي رفض ترشيحه، وبرغم الميل الواضح في حزب النظام الوطني الذي شكل في يناير سنة 1970 للإسلام، فلم تذكر كلمة الإسلام في وثائق الحزب، وذلك لحظر قانون الأحزاب التركي تأسيس الأحزاب على أسس دينية، وتمثل الحزب الجديد من ثلاثة: أربكان وانضم إليه اثنان من حزب العدالة، وجدا أن ذلك الانضام يحقق طموحاتهما الشخصية، ولكن الحزب لم يبق طويلا إذ ألغاه الانقلاب العسكري الثاني سنة 17، وبعد سنة 1972 أسس أربكان إثر عودة الديمقراطية الحزب الثاني تحت مسمى حزب السلامة الوطنية، وشارك في انتخابات 1973 وفاز ب 84 مقعدا من جملة 450 هي عدد مقاعد البرلمان التركي وقتها وقد زاد مجموع أعضاء البرلمان بعد ذلك إلى 550 نائبا، بعد انتخابات عام 1990.

واعتبر ذلك في حينه نصرا غير مسبوق، وشارك حزب السلامة في ائتلاف حكومي لأول مرة، تولى أربكان منصب نائب رئيس الحكومة التي كان يرأسها بولند أجاويد، زعيم حزب الشعب الجمهوري، وتولى رفاق أربكان وزارات أساسية مثل الداخلية والصناعة والعدل، وساعدت هذه المشاركة على تعزيز دور الإسلاميين، فزاد فتح المدارس الدينية، واعترف لخريجي هذه المدارس بحق الانتساب للجامعات (عدا المؤسسة العسكرية).

وقد أتاح انقسام المجتمع السياسي التركي الحاد في السبعينيات بين يسار متطرف ويمين متطرف، أتاح الفرصة للإسلاميين السياسيين للتوسع، وساهمت مشاركتهم في السلطة لتقديم خدمات حكومية لأنصارهم، ومع أن الأصوات التي نالها حزب العدالة في انتخابات 1977 قد انخفضت، إلا أنه استمر ـ مع أحزاب صغيرة أخرى ـ بمثابة المفتاح الائتلافي الذي لاغنى عنه لعدم قدرة الأحزاب الأكبر على الحصول على أغلبية مريحة في البرلمان، واستمر الأمر حتى الانقلاب العسكري الثالث في سنة 1980، ويمكن القول إن الأسباب المباشرة للانقلاب العسكري التركي الثالث كانت هي ذلك المهرجان الذي أقامه حزب العدالة (أربكان) في السادس من سبتمبر 80، وحمل شعار (تحرير القدس)، لذلك كان أول إجراء لقائد الانقلاب كنعان إيفرين حظر نشاط كل الأحزاب السياسية وقرر محاكمة زعمائها، إلا أن المفارقة الأخرى أن النظام العسكري الذي كان معاديا للشيوعية أتاح للإسلاميين هامشا أكبر بكثير مما أتاحه النظام السابق للحركة، وبصدور دستور 1982 غيرت تركيا الرسمية نظرتها إلى الدين، ومع إجراء انتخابات 38 العامة، لم تنته سيطرة العسكريين بتاتاً فقد تركوا ثلاث مؤسسات راعية للسلوك السياسي التركي، الأولى مجلس الأمن القومي الذي نص عليه الدستور، ويضم قادة القوات المسلحة والأمن ورئيس الحكومة والوزراء الأساسيين في الحكومة، والأداة الثانية هي رئاسة الجمهورية التي استمر كنعان بالاحتفاظ بها، وشاركه في السلطة حزب الوطن الأم الذي تأسس بقيادة تورجت أوزال رجل الاقتصاد المسلم، فقد كان أوزال أحد كوادر حزب السلامة المنحل، وأصبح بعد ذلك أول رئيس وزراء تركي في العهد الجمهوري يؤدي فريضة الحج، وكان يشارك بصورة منتظمة في صلاة الجمعة. لقد خلف أوزال كنعان إفرين كرئيس للجمهورية عندما انتهت الفترة الدستورية الأولى سنة 1989، وتوفي وهو في السلطة سنة 1993.

حزب الوطن الأم بقيادة أوزال بعد فوزه الكاسح في انتخابات 38 احتكر مرحلة الثمانينيات في تركيا خرج من السلطة في انتخابات 19، ولكن أوزال استمر رئيسا للجمهورية حتى وفاته المفاجئة في أبريل 39 ولكن الثمانينيات بما حملته من تغيير خاصة في إيران قد أعطت التيار الإسلامي السياسي التركي دعما معنويا كبيرا، كما لعبت مجازر التطهير العرقي في البوسنة في مطلع التسعينيات دورا بالغ التأثير في تأجيج مشاعر الأتراك المسلمين لما لمسلمي البوسنة من علاقات تاريخية بتركيا، وانهيار الحركة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق، وأوربا الشرقية، أضعف الحركة اليسارية التركية، وأصبح من الميسور نقد شعاراتها السابقة في العدالة والمساواة، ومستقبل أفضل للشعوب، بعد أن انكشفت المساوىء في تطبيقات الشيوعيين على الملأ.

حزب الرفاه.. حكم إسلامي أم ديمقراطي?

تأسس حزب الرفاه في يوليو 1983 بعد بدء المرحلة الثالثة من الديمقراطية التركية، ولد مع قياداته داخل السجن ثم أصبح أربكان رئيسا له في عام 1987، وهو يدعو إلى تغيير النظام العلماني التركي من الداخل وبالطرق السلمية، ويدعو أيضا إلى الابتعاد عن الغرب، ولكنه ليس كمثل الأحزاب الإسلامية في البلاد العربية أو باكستان، فأربكان مهندس تخرج في جامعة استنبول التقنية، وكان زميلا للزعيم التركي لاحقا سليمان ديميريل، ونال درجة الدكتوراة من ألمانيا، ويؤكد بعض زعماء الرفاه أنهم ليسوا مفتين دينيين بل حزب سياسي 6 منظم على طريقة الأحزاب الغربية.

ولأن الدستور التركي لايزال يحظر تنظيم الأحزاب علي أسس دينية، فإن حزب الرفاه يتحدث عن نظام عادل دون الحديث عن مفاهيم إسلامية وتنحصر مجمل فلسفة هذا المشروع السياسي في أنه يسعى إلى إقامة نظام عادل يستند إلى الحق لا القوة، ولأن الرسالات السماوية تستند إلى الحق، ولا تتوسل القوة فإنها تنصر الضعيف والمحتاج، كما يدعو برنامج الحزب إلى الاجتهاد لمسايرة العصر.

الهدف الرئيسي لحركة الرفاه هو المبادىء والأسس التي جاء بها أتاتورك وماتسميه الأدبيات السياسية التركية بمبادىء الكمالية، مبدأ العلمانية التي أقرها حزب الشعب الجمهوري في مطلع الثلاثينيات، وهو جزء من دستور 1937، والذي وإن عدل أكثر من مرة احتفظ بسمته الرئيسي في الدعوة للعلمانية في تركيا، والتي هي مستمدة من المبادىء الأوربية في عصر النهضة والتي تعتمد فصل الدين عن الدولة، فالفصل هذا في نظر حزب الرفاه غير مطبق في تركيا، إذ تقوم الدولة في تركيا ومن خلال الدستور والقوانين بالتدخل في الشئون الدينية، بمعنى أنها تمارس حظرا على النشاطات الدينية، بل ومن منطلق العلمانية يقول حزب الرفاه إن الدولة تمارس قمعا ضد الدين، مع أن الحرية الدينية في الغرب متاحة بل ومنظمة، ولا يستخدم أحد الإكراه أو العنف ضد النشاط الديني، فإن كانت تركيا علمانية بالمعنى الغربي فعليها أن تطلق حرية الاعتقاد، لذلك يطالب حزب الرفاه بإلغاء كلمة العلمانية من الدستور، وتسرد وثائق حزب الرفاه بعض مظاهر عدم تطبيق العلمانية بمعنى الحرية والمساواة مثل عدم منح جواز سفر للمرأة المحجبة الأدبيات الرسمية تقول إن السبب أمني، ووضع عراقيل لمن يريد أداء فريضة الحج السبب الرسمي بأن هناك أعدادا محدودة لكل دولة إسلامية لأداء الفريضة، وتشير بعض وثائق حزب الرفاه إلى أن أنصاره هم العلمانيون الحقيقيون لأنهم يقرون بممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين دون تقيد.

المسألة الثانية المهمة التي يختلف عليها بين حزب الرفاه وغيره من الأحزاب التركيه هي الديمقراطية، الرفاه يعلن التزامه الكامل باللعبة الديمقراطية، وقد شارك في العديد من الحكومات الائتلافية منذ النصف الثاني من الثمانينيات، والمراقبون المحايدون يرون أنه أظهر التزاما كاملا بها حتى الآن وقبولا بنتائجها وبتداول السلطة بشكل سلمي، ولكن البعض لايزال يشكك في جدية الرفاه القبول الدائم بلعبة الديمقراطية، لأن النصوص والخطب والبرامج التي يقول بها الرفاه ليست تعبيرا حقيقيا عما يفكر به الحزب، من ذلك أن التشريعات الدستورية والقانونية تقيد بل تحظر كل نشاط سياسي قائم على أسس دينية أو عرقية، لذلك فإن ماهو معلن ليس بالضرورة يعبر عما يريد الحزب تحقيقه، وإن عبر بصورة كاملة عن الأهداف والوسائل التى يسعى إليها قد يوقعه في المحاذير وربما الحظر والملاحقة.

تصريحات أربكان حول الديمقراطية تثير شكوك وقلق البعض، وإن كانت هذه التصريحات ـ إن حسنت النيات ـ يمكن فهمها على أنها نقد للممارسة الديمقراطية لا الديمقراطية ذاتها، فيقول مثلا عن الديمقراطية التركية إنها ليست ديمقراطية إنما هي نظام الحيلة خاصة عندما يتبين لديه كم من الممارسات غير السوية تستخدم باسم الديمقراطية، كما أن نقاد حزب الرفاه يشيرون إلى ممارسات الحزب التي ظهرت في أكثر من مناسبة، كالمسيرات ذات الجرس العالي والتصريحات غير المنضبطة من بعض القيادات، بأنها إشارة إلى عدم الإيمان بالديمقراطية ولاتنعدم الحجج والبراهين على ديمقراطية الرفاه وعلى عدم ديمقراطيته أيضا.

العلاقة الخاصة مع إسرائيل

والعلاقة بإسرائيل لاتبعد عن التجاذب الداخلي التركي، ويبدو أنها أيضا أحد مكوناته الداخلية، ولا يجوز المراهنة على أي من الأحزاب التركية لسبب عاطفي أو ديني والاعتقاد بإنها سوف تقف من إسرائيل موقفا سلبيا، ذلك يحتاج إلى أكثر من العاطفة أنه يحتاج إلى العمل السياسي والمصلحي الدءوب.

لقد كانت تركيا حقا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائىل. فقد تم هذا الاعتراف مباشرة في عام 1949 وبرغم أن العلاقات بينهما لم تأخذ طابعا مطرداً إلا أنها قد أضفت نوعاً من البرود على العلاقات العربية التركية. وبلغ البرود أقصاه إبان نكسة 76 وهو برود اقترب إلى حد الشماتة في سوريا التي ضاعت منها مرتفعات الجولان. ولعلها كانت بذلك ترد على مطالبة سوريا الدائمة بلواء الإسكندرونه وعلى التأييد العربي لليونان في أزمتها حول قبرص. ثم بدأت هذه العلاقات العربية التركية في التغيير قليلا مع بداية الثمنينيات ـ أي مع بداية صعود نجم النفط العربي ـ وبدأت في أخذ نوع من التقارب السياسي لعله يقود إلى تقارب اقتصادي تحصل خلاله تركيا من إخوتها في الدين على النفط بأسعار متهاودة. أي أن التقارب العربي/التركي كان دائما ضمن مجال الأمر الطارىء الذي تضطره الظروف إليه وليس ضمن إطار السياسة الثابتة.

ومن الغريب أن توثيق العلاقات مع إسرائيل والفلسطينيين تزامن في نفس الوقت، فبعد اتفاقيات السلام الأخيرة سارعت تركيا بإعلان تعاونها العسكري مع إسرائيل على رءوس الأشهاد في الوقت الذي اعترفت بالسلطة الفلسطينية ورفعت درجة تمثيلها مع كل منها في أواخر عام 1991.

ومما لاشك فيها أن هناك تاريخا طويلا حول التنازع على الأرض. والتنازع على المياه ـ التي يقال إنها سوف تصبح السبب الرئيسي في الصراع في الشرق الأوسط طوال القرن القادم ـ والتنازع على مصائر الأقليات العرقية التي تقيم على جانبي الحدود من كل الأطراف. كل هذه المسائل الحساسة دفعت تركيا لأن تجد لها حليفا من داخل منطقة الشرق الأوسط دون أن يكون عربيا. ومن سوء الحظ والمفارقة أنها وجدت هذا الحليف من بين أعدى أعداء العرب. ولايتوقف الأمر عند هذا الحد فط ففي سعي المؤسسة العسكرية التركية لكي تكون جزءاً أساسياً من المنظومة الغربية وجدت أن إسرائيل أقرب إليها في إطار هذه المنظومة من أي دولة عربية.

ولكن دعوني أعد إلى نقطة البداية. فلم أكتب هنا حتى أجسد مساحات الاختلاف بقدر ما حاولت أن أبحث عن نقاط التقارب أو بالأحرى عن أهمية البحث عن هذه النقاط. إن تركيا كتلة إسلامية ـ وغير عربية ـ مهمة. وهي تتوازى في أهميتها مع الكتل الإسلامية الأخرى مثل إيران وباكستان. وإذا كنا نريد أن نتعامل معها فعلينا أن نتخفف من أثقال التاريخ وأن نحاول أن نغير نظرتنا إلى الآخر. ففي عصر تزداد فيه وسائل الاتصال وتتفجر فيه ثورات المعلومات لابد من الوصول إلى صيغة تقترب من الحقيقة لفهم كل واحد للآخر. نفهم ذواتنا ونعطي صورة صادقة عنا. كما أن حقائق الجغرافيا تعلمنا أن حروبا جديدة مثل حرب المياه وحرب الأعراق مصيرها الفشل مثل بقية الحروب الأخرى التي عرفها التاريخ. ولايبقى إلا حقيقة الجوار ومحاولة استثمار مميزات الجغرافيا بدلا من اللعب على متناقضاتها. إن وجود تركيا ككيان شرق أوسطي لاينفي أن جزءا من أرضها وتوجهها هو أوربي.

وهوية تركيا الإسلامية لاينتقص منها اتخاذها العلمانية طريقا للحكم والتطور. فهذا التناقض بين الإسلامي والعلمانية هو تناقض مفتعل من أساسه.وكما يقول أربكان إنه مقدمة ضرورية لحرية الاعتقاد. يبقى أخيراً أن حقائق الاقتصاد يمكن أن تعلو فوق كل هذه الاستثناءات وأن تكتشف تركيا وهي التي امتلكت طويلا أراضي الغير أن المعادلة التي تقوم عليها إسرائيل لن تستقيم طويلا وأن التغيرات العالمية تقدم لنا فرصة علينا أن نستثمرها من أجل فهم أفضل وتعاون أوثق.

 

محمد الرميحي

 
 




قبعة وعمامة





تركيا بين الصفوة والبيرقراطية والحكم العسكري





صورة العرب لدي الأتراك