قصة شائقة من تاريخ العلم

قصة شائقة من تاريخ العلم

ولكن قبل أن أقصها على القارىء أود أولاً أن أذكر له أني كنت دائما أعتقد أن كثيرا من العلوم الاجتماعية قد ضلت الطريق بمحاولة تحقيق المزيد من الدقة ولو على حساب أهمية الموضوع الذي تبحثه.

أصبح البحث عن الثروة أكثر أهمية من البحث عن الفائدة والجدوى وهو اتجاه شبيه بما حدث للفن من اهتمام بالشكل على حساب المضمون.

فكثيرون من المشتغلين بهذه العلوم ينفقون أكثر من اللازم من وقتهم وجهدهم في سبيل أن تكون نتيجة أبحاثهم أقرب إلى اليقين، ولو كان الموضوع الذي يبحثون فيه عن اليقين غير مهم بالمرة. تأمل مثلا كم من الوقت والجهد ينفقه عالم الاجتماع في تصميم وصياغة قائمة الاستفسارات التي يقوم بتوزيعها على عينة مختارة من الناس، للحصول على إجاباتهم على عدد من الأسئلة ويعتقد أنه عن طريقها يمكن اكتشاف اتجاهات ومواقف هؤلاء الناس من قضية معينة، ثم يبذل وقته وجهده في محاولة اكتشاف هذه الاتجاهات وصياغتها الصياغة الدقيقة، دون أن يلتفت إلى أن السؤال الذي يحاول الإجابة عليه من البداية هو سؤال تافه، كلنا يعرف إجابته سلفا، بالبديهة، أو المنطق السليم، أو الملاحظة اليومية، فمثلاً الرجال في ظروف التضخم وارتفاع أعباء المعيشة يميلون إلى تفضيل الزواج من إمرأة عاملة أكثر مما كانوا في ظل ظروف اقتصادية أقل صعوبة، أو أن نسبة المتعلمين بين الفقراء أقل من نسبة المتعلمين بين الأعلى دخلا، أو أن أحد أسباب الفقر بين سكان الريف هو انخفاض ما بحوزة المرء من أرض زراعية!.. الخ.

لقد صادفت مرة اقتصاديا ينفق الساعات في جمع الأرقام المتعلقة بإنتاجية العمل، ثم ساعات أخرى أمام الكمبيوتر لكي يكتشف العلاقة بين إنتاجية العامل ومستوى التعليم، ليصل إلى نتيجة كنا نعرفها سلفا تمام المعرفة، وهي أنه كلما ارتفع مستوى التعليم زادت إنتاجية العامل، بشرط طبعا أن يكون التعليم محل البحث هو من النوع الذي من شأنه أن يرفع إنتاجية العامل! أي أن القضية كلها التي كان يحاول إثبات صحتها هي من قبيل تحصيل الحاصل، أي تنطوي مسلماتها على نتائجها!.

إن علم الاقتصاد الحديث ملىء بالأمثلة على هذا الميل إلى (التعبير عن الباطل بدقة!) فمثلا نظرية المستهلك كلها التي تقوم على افتراض أن المستهلك شخص رشيد وعاقل، يحسب كل قرار استهلاكي يتخذه بدقة ـ نفقاته ومنافعه ـ ويحيط علما بكل المعلومات اللازمة لاتخاذ هذا القرار، من أنواع المنتجات المطروحة، إلى صفاتها الحقيقية الظاهرة والدفينة، إلى مختلف الأسعار التي تباع بها هذه المنتجات في هذا المكان وذاك، ويتخذ قراره بناء على كل ذلك، من أجل (تعظيم المنفعة) التي تعود عليه من الاستهلاك. وينفق رجل الاقتصاد وقتا طويلا في محاولة تحديد الخطوات التي يتخذها المستهلك للوصول إلى هذه النتيجة، وهي تعظيم المنفعة، ليخبرنا في النهاية بما يسميه: (شروط توازن المستهلك، مع أننا نعرف جيدا من ملاحظتنا لأنفسنا ولتصرفات الأشخاص المحيطين بنا أن المستهلك نادرا جدا ما يكون إنسانا رشيدا، ونادرا جدا ما يكون محيطا بكل المعلومات اللازمة لاتخاذ قرار رشيد، ونادرا جدا ما ينجح المستهلك في تعظيم منفعته من الاستهلاك، ومن ثم فالدقة التي يصل إليها الاقتصاد هي دقة في التعبير عن الباطل بينما كان من الأجدى أن يحاول الاقتصادي أن يصف لنا مختلف العوامل التي تؤثر في سلوك المستهلك، وتجعله يتصرف على النحو الذي يتصرف به بالفعل، رشيدا كان أو غير رشيد، كتأثره برأي الناس فيه، أو مدى نجاح الإعلان في تشكيل نوع استهلاكه، أو أثر الظروف العائلية أو الاجتماعية أو السياسية في الاستهلاك.. الخ. صحيح أن النتائج التي سنصل إليها في هذه الحالة لن تكون دقيقة، إذ إن معظم هذه العوامل من الصعب قياسها بدقة، ولكن النتائج في هذه الحالة ستكون أقرب إلى الحقيقة وإن كانت تقريبية، وهذا أفضل، في رأيي، من الوصول إلى الباطل بكل دقة!.

اكتشاف مثير

تذكرت هذا عندما قرأت هذه القصة الشائقة عن عالم ألماني في الطب والتشريح، ولكنه أيضا وصل إلى نظرية مثيرة في علم النفس. امتدت حياته بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن التاسع عشر 1758 ـ 1828، وهو فرانز جوزيف جال F.J. Gall بدأت قصة اكتشافه المثير في علم النفس عندما كان صبيا صغيرا، إذ لاحظ بحزن وغيظ شديدين، أن من أقرانه في المدرسة من يحصل على درجات عالية جدا في الامتحانات يتفوقون عليه، إذ لا يستطيع هو الحصول على هذه الدرجات، لمجرد أنهم يتمتعون بذاكرة أقوى بكثير من ذاكرته، فقد كان يجد صعوبة بالغة في حفظ المعلومات عن ظهر قلب، مع اعتقاده الراسخ، أنه فيما عدا ذلك، أكثر ذكاء منهم بكثير.

شغلت هذه الظاهرة تفكيره، وحاول جاهدا الوصول إلى تفسير لها: لماذا كان بعض الناس أقدر على الحفظ والتذكر من غيرهم?.

وتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان لهذا أساس بيولوجي?. ثم انتقل إلى مدرسة أخرى وواجهته نفس الصعوبة ونفس الظاهرة، غير أنه لاحظ أن التلاميذ المتفوقين عليه في الحفظ وقوة الذاكرة لهم سمات جسمية معينة من أهمها اتساع العينين وبروزهما، ثم تذكر أن التلاميذ الذين كانوا يتفقون عليه في المدرسة السابقة كانوا يتسمون بنفس السمة: اتساع العينيين وبروزهما، فإذا به يستخلص من ذلك نتيجة آمن بها إيمانا جازما، وهي أن الصفات الذهنية والعقلية لها كلها أساس بيولوجي ثابت، توصل فيما بعد إلى أنها تتعلق بتكوين المخ وحجم تجويفاته المختلفة، وأن شخصية الإنسان كلها يمكن تحليلها إلى هذه الصفات والميول الذهنية والعقلية المختلفة التي يمكن ردها على هذا النحو إلى شكل المخ ومكوناته. وقضى بقية حياته في الملاحظة وجمع المعلومات لإثبات صحة نظريته، ولم تفارقه حتى وفاته ثقته بصحتها، وراح يلقي المحاضرات العامة لإقناع الناس بها فنجح إلى حد كبير في تكوين قطاع واسع من الرأي العام مقتنع برأيه.

قدرات عقلية

ذهب جال بحق إلى أن مفهوم الذكاء الذي نستخدمه بكثرة في وصف الأشخاص، هو مفهوم من الغموض والعمومية بدرجة تفقده أهميته، كان يفضل التمييز بين أنواع مختلفة من القدرات العقلية والميول النفسية بحيث يحدد ما يمتلكه كل منا من نسب مختلفة من هذه القدرات، الفوارق الذهنية بيننا، بل والفوارق بين شخصياتنا، إذ إن هذه الفوارق بين القدرات هي التي تحدد إلى حد كبير اختلافنا في السلوك. وقد ميز جال عددا كبيرا من هذه القدرات، يصل عددها إلى نحو ثلاثين، اعتقد جال أن مركزها كلها هو المخ، فميّز بين القدرة اللغوية والعددية، والاحساس بالألوان، وبالموسيقى، وبالزمن وبالمكان، والميل إلى النظام، وحب الاستطلاع والمقارنة، وسرعة البديهة، والخيال، وتحصيل المعلومات السطحية، والقدرة على الابتكار والبناء، والضمير، والحزم، والإيمان، والحرص على الحصول على رضا الاخرين، والحذر والاعجاب بالنفس، والميل إلى الهدم، والرغبة الجنسية، والميل إلى السرية وعدم الإفصاح، والمودة، وحب المرء لأطفاله، والعدوانية، والميل إلى الإحسان إلى الآخرين.. الخ.

على أن الذي جلب له هموم عدد كبير من العلماء، كان هو زعمه بأن لكل من هذه القدرات والميول مكانا محددا في المخ حاول أن يحدد موقعه بالضبط، كما يبدو من الشكل المبسط المنشور مع المقال. فقد كان الاعتقاد السائد قبل جال أن المخ يعمل كوحدة متكاملة، فلا ينفرد كل جزء منه بوظيفة بعينها، فجاءت نظرية جال بنسبة وظائف مختلفة إلى أجزاء المخ المختلفة، مثيرة للهجوم عليه بل والسخرية.

ولا يشك علماء النفس اليوم في أهمية مساهمة جال، ومن تبعه من العلماء مثل سبيرزهايم (Spurzheim)، أو في قوة حجج النظرية أو في احتواء نظريتهما في عمومها على جزء كبير من الحقيقة، وإنما يرفضون إصرار جال وأتباعه على الذهاب بالنظرية إلى أبعد من اللازم، ويرفضون الكثير من تفاصيلها. كما يشيرون إلى الضعف الشديد الذي شاب كثيرا من الأدلة التي كان جال وأتباعه يقدمونها لإثبات صحة نظريتهم، فإذا وجد جال مثلا شخصا عرف بالميل إلى السرقة أشار إلى أن دماغه يحمل صفات معينة هي التي تعكس تضخم ذلك الجزء من المخ الذي اعتبره جال مركز الميل إلى الاستحواذ. وإذا قدم له شخص آخر عرف أيضا بالميل إلى السرقة ولكن دماغه له الصفات العكسية بالضبط، قال جال إن مركزا آخر من مراكز المخ له آثار مضادة للاستحواذ كالميل إلى الإحسان إلى الآخرين مثلا قد غلب أو أضعف مركز الاستحواذ!. وهكذا مما يجعل من المستحيل إثبات خطأ النظرية، وهو ما يعتبر شرطا أساسيا لاعتبار النظرية علمية. والأكثر طرافة أن شكل جمجمة الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت عندما جرى فحصها، تبين أن لها سمات تتعارض تماما مع السمات التي زعم (جال) أنها تميز من يمتلك قدرة كبيرة على التفكير المنطقي، فلما واجهوا أتباع (جال) بالمشكلة، قالوا: إن قدرة (ديكارت) على التفكير المنطقي قد بولغ فيها كثيراً!.

البحث عن الدقة

ومع هذا، فالعلماء اليوم يقبلون الكثير ما قال به جال من التمييز بين القدرات والميول المختلفة، وإمكانية رجوع بعض هذه القدرات والميول إلى مراكز معينة من المخ. ولكن اللافت للنظر أن عالما آخر، أصغر من جال) بستة وثلاثين عاما، هو بيير فلورانز P. Flourens1794 ـ 1867 الذي تمتع بالرضا التام من جانب المؤسسة العلمية في زمانه، إذ حاول تقديم البديل لمذهب جال، اتبع منهجا يختلف تماما عن منهج جال، فبدلا من أن يجعل نظرية جال أكثر دقة ويخلصها من الشوائب والأخطاء والمبالغة، دفع التفكير في اتجاه مختلف تماما، قد يكون أكثر دقة حقا من طريقة جال في التفكير والبحث، ولكنه أبعد عن الحقيقة.

بينما كان جال يعتمد أساسا على الملاحظة ويصل إلى تعميمات بجرأة وسرعة أكثر من اللازم، إلا أن فلورنز يعتمد على التجارب، التي تتوافر فيها شروط التجارب العلمية، ومن ثم قد تعطينا نتائج أكثر دقة، ولكنها قد تقودنا أيضا بعيدا عما كنا نبحث عنه. والسبب يعود إلى أن التجارب التي كان يجريها فلورانز للتحقيق مما إذا كانت هناك مراكز في المخ الإنساني ذات صلة بقدرات الإنسان العقلية، كانت تجرى على طيور أو حيوانات كالأرانب والكلاب! ومن ثم فأبحاثه كلها كانت مؤسسة على افتراض يمكن للمرء أن يشك فيه بشدة، وهو أن مخ الإنسان له في الأساس نفس صفات مخ هذه الحيوانات أو الطيور، فضلا عن أن بعض القدرات الخاصة بالإنسان التي تجرأ جال وبحث عن مكان لها في المخ، كان من المحتم على فلورانز استبعادها تماما من بحوثه، لأنها لا توجد أصلا أو لا يعرف ما إذا كانت توجد أو لا توجد لدى الطيور والحيوانات، كالتذوق الموسيقي، والإيمان، والخيال، والقدرات اللغوية والعددية.. الخ.

الصورة الأفضل

القصة تبدو لي مشوقة للغاية لأنها تمثل في رأيي تلك القضية القديمة والجديدة في البحث العلمي، قضية مفاضلة الوصول إلى التعبير التقريبي وغير الدقيق عن جزء مهم من الحقيقة، وبين التعبير الدقيق والأنيق عن حقيقة غير مهمة البتة أو حتى عن عكس الحقيقة تماما. ولكن المؤكد على أي حال الذي يمكن أن يقرره المرء باطمئنان، أن البديل للتعبير التقريبي وغير الدقيق عن جزء مهم من الحقيقة يجب ألا يكون تغيير الموضوع، أو محاولة البحث عن شيء مختلف تماما مهما كان تافها، لمجرد أنه من الممكن التعبير عنه تعبيرا دقيقا، بل نحاول أن نزيد فهمنا للحقيقة بكل دقة وشمولية. أما من يقبل غير ذلك، كهؤلاء الذين راحوا يبحثون عن حقيقة الإنسان باجراء التجارب على الأرانب والكلاب، فهم لا يختلفون كثيرا عما نسب إلى جحا في نادرته الشهيرة عندما فقد قرشا في مكان مظلم فراح يبحث عنه في مكان مختلف تماما عن المكان الذي فقده فيه، فلما سئل عن السبب في ذلك قال: إن الضوء هنا أفضل!.

 

جلال أمين