حركات الإسلام السياسي المعاصر
حركات الإسلام السياسي المعاصر
تأملات في بيئاتها الأيديولوجية والسياسية كاتب هذا النص هو, أحد قادة تنظيم الجهاد وقد شارك في التخطيط لقتل الرئىس السادات. وأعدم فيمابعد. ويعني بالفريضة الغائبة الجهاد. وهو الاسم الذي عرف به التنظيم, الذي اشتهر في وسائل الإعلام بهذا الاسم وبالتكفير والعنف. والجديد في رسالة فرج هذه اعتبار الجهاد فريضة, فالمعروف في الفقه السني التقليدي أنه فرض كفاية وليس فرض عين. لكن الأهم فيها اعتبار الجهاد فريضة في الداخل الاجتماعي الإسلامي, بينما المعروف تقليدياً أنه لايكون إلا في مواجهة الخارج غير الإسلامي. ومع أن في تسمية ذاك الفريق بفريق التنظيم, والوسم له ولقرينه فريق التكفير والهجرة بالعنف, ما يشبه النبذ من جانب السلطات ووسائل الإعلام, فإن في مضامين رسالة فرج ما يدعم هذا الإطلاق النابذ. ذلك أن تلك الفرقة تربط العمل بالإيمان ربطاً ميكانيكياً ـ بخلاف الفكر السني التقليدي كله ـ بحيث تسوغ سريان أحكام الكفر والجاهلية على الأفراد والجماعات التي ترى هي أن ممارستهم تخالف تصريحهم بأنهم موحدون مسلمون. وقد عرف الإسلام القديم فئات تطهرية مماثلة نبزت بلقب الخوارج, وكانوا قد ذهبوا إلى أن الإسلام ذو طابع خلاصي غلاب, لا يجوز أن تلوث الذنوب الكبائر طهره وإلا وقع الناس من جديد في الجاهلية البغيضة. وقد اقتتل أولئك كما هو معروف مع الإمام علي بن أبي طالب إبان خلافته لما اعتبروه تنازلاً من جانبه لمعاوية بقبوله التحكيم, وقتل أحدهم عليا فيما بعد, فشنوا طوال قرن ونيف حرباً شعواء على السلطات والمجتمعات من معتزلاتهم ومواطن هجرتهم فيما اعتبروه فريضة ليس بوسعهم التنازل عنها وإلا فقدوا هم أيضا الإيمان والإسلام. وقد كانت أيديولوجية الخوارج القاسية تلك وراء اتجاه الكثرة الساحقة من علماء المسلمين في القرنين الثاني والثالث للهجرة/ الثامن والتاسع للميلاد إلى خوض نقاشات طويلة في مفاهيم الإيمان وعلاقته بالعمل, والانتماء لجماعة المسلمين ومقتضياته. واستقر الأمر على اعتبار الإيمان تصديقاً لا ينقضه العمل المخالف له ظاهراً إلا إذا صرح المسلم نفسه بترك الإسلام, وأعراف الجماعة. أما فيما عدا ذلك أو ماتحت التصريح بترك الإسلام من ذنوب وسلوكيات, فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كاف لمواجهتها أو تصحيحها. فالانتماء لجماعة المسلمين إعلان حر يقبل من صاحبه, ويعامل على أساس منه, لا على أساس ما يمكن أن يبطنه, فلنا الظاهر والله يتولى السرائر. أما الجهاد فواجب في مواجهة الخارج للدفاع عن أرض المسلمين وأمن مجتمعاتهم, ولايجوز استخدامه سلاحاً في الداخل ضد أي فريق مهما بلغ الخلاف في الرأي أو المسلك معه. وما أود أن أسلط الضوء عليه هنا ثلاثة أمور إضافية أراها مهمة فيما نحن بصدده من استطلاع لأيديولوجيات الإسلام الحزبي المعاصر: طرائق توظيف النصوص الفقهية والعقدية القديمة لدى نضاليي الإسلام السياسي, والطبيعة الأيديولوجية الغلابة للبيانات العقدية لذلك الإسلام, ومآلات وآثار تلك الأيديولوجيات على الداخل الاجتماعي, وعلى الإسلام التقليدي في الوقت نفسه. طرائق التوظيف أما بالنسبة للأمر الأول: طرائق التوظيف, فالملاحظ أن الإسلاميين الحزبيين يستخدمون النصوص القرآنية في الأعم الأغلب. وتلك التي تتصل بمسائل الكفر والإيمان بالذات. وهي غالباً آيات وردت في سياق الصراع بين المسلمين بالمدينة, وقريش المعادية بمكة. وهم لا يستخدمونها كما وردت لصراع الإسلام مع الخارج المعادي, بل لمصارعة الجاهلية الكافرة في عقر دارالإسلام. حتى إذا اضطروا للتعيين والتحديد لجأوا لفتاوى ابن تيمية وتلامذته مثل ابن كثير أو تلامذة فكره مثل محمد بن عبدالوهاب فإذا وصلنا إلى المسألة الثانية, مسألة طبيعة الفكر, نجد أنها لديهم جميعاً ـ باستثناءات قليلة كما عند حسن الترابي وراشد الغنوشي وفي السنوات الأخيرة فقط ـ بيانات عقدية يغيب فيها السياسي, ويسيطر العقائدي والأيديولوجي. فهم لايسلكون مسلك المعارض السياسي الذي يريد أن يصل للسلطة من أجل الإصلاح أو ما يعتبره كذلك, بل يسلكون مسلك المخلص والمنقذ لا للمجتمع بل للدين, دين الله الذي حرف, ووقعت على عواتقهم مهمة إقامته وتسويده من جديد. لذا يبدو أحياناً كأنما همهم أن يستشهدوا لا أن ينتصروا, أو كأنما لا خلاص لهم ـ من الظالمين والجاهلية ـ إلا بأن يمضوا عمداً إلى الموت تكفيراً وتوبة من الرجس السائد, مادام اجتثاث ذلك الرجس من جذوره أمراً بعيد المنال. فالتسمية بالإسلام السياسي تأتي لا من الأيديولوجيات التي يحملونها ـ إذ هي غير سياسية ـ بل من حقيقة أن الأنظمة السياسية هي التي تتصدى لهم. ومن حقيقة أن هناك تأييداً شعبياً ملحوظاً لممارساتهم النضالية وشعاراتهم. فالذي أراه أن الحركات الإسلامية المعاصرة في الأساس حركات إحيائية, تشبه تلك التي تعرفها الديانتان الأخريان المسيحية واليهودية. وقد عرفها تاريخنا كله, وماكانت لها طبائع أو آثار سياسية في الأعم الأغلب. وعلى هذا النحو أرى الحركات الصوفية, وحركة ابن تيمـية, وحـركة محمـد بـن عبدالوهاب, والحركات النهضوية الإسلامية في القرن التاسع عشر في أقطار الدولة العثمانية وخارجها, وحركة الإخوان المسلمين في القرن العشرين.. إلخ. ينشأ إحساس لدى فرد أو فئة من الفقهاء أو ذوي الحساسية الخاصة في فترة ما أن (التوحيد) أو مفهوم (العبودية) يتعرض صفاؤه للشوائب والتهديد الداخلي أو الخارجي, فتقوم حركة إحيائية ذات طابع شعائري للتنقية أو العودة أو ا لتوبة أو بلغة بعض الإسلاميين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتختلف مساربها وطرائقها ووجوه اهتمامها باختلاف الوضع الثقافي السائد. ولاشك أن هذه الحركات تملك أو تتعمد أن تملك تأثيراً سياسياً لكن ليس لأهداف سياسية بل لكي تنفذ برنامجها الديني. أما التسييس الشديد اليوم في الحركات الإسلامية المعاصرة فناجم عن الظرف الاستثنائي الذي يمر به المجتمع والدولة في الوطن العربي والعالم الإسلامي. فبسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والمآزق ذات الأبعاد الرمزية الكبيرة صارت الحركات الإسلامية حركات شعبية واسعة الانتشار فاصطدمت بالسلطات السياسية لنشوب الصراع على الساحة والمساحة نفسها. وكلما تفاقم الصراع ازدادت تسييسا وإن ظلت لغتها وظلت أهدافها دينية اعتقادية وشعائرية ورمزية. معالم في الطريق يقول سيد قطب (1966م) في كتابه الشهير (معالم في الطريق): (إن المجتمعات القائمة كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلامية..وإنه لينبغي التصريح بلا وجل أن الإسلام لاعلاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم لأن الحاكمية ليست له. والبديل الوحيد لهذه الأوضاع الزائفة هو أولاً وقبل كل شيء قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعة له, ولاتكون له شريعة سواه..) ويقول في موضع آخر:(لابد من درجة من القوة لمواجهة المجتمع الجاهلي. قوة الاعتقاد والتصور, وقوة الخلق والبناء النفسي, وقوة التنظيم والبناء الجماعي, وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهلي.. قوة الصمود, وقوة التغلب عليه).إذا كانت رسالة (الفريضة الغائبة) هي الأهم والأبرز لدى الجماعات الإسلامية النضالية في مرحلة العمل والكفاح, فإن كتيب (معالم في الطريق) لسيد قطب هو النص التأسيسي للإسلام الحزبي النضالي. ومن بين سطور ذلك الكتيب خرجت كل جماعات الإسلام النضالي في المجال العربي على الأقل. يتضمن نص سيد قطب الذي أوردناه الفكرتين النظريتين الرئيستين السائدتين اللتين تنطلق منهما وتستند إليهما الجماعات المكافحة: فكرة الجاهلية, وفكرة الحاكمية. فالعالم اليوم ـ بما فيه العالم الإسلامي ـ تطبق عليه جاهلية مدمرة شبيهة بتلك الجاهلية التي كانت سائدة قبل الإسلام. ويرجع ذلك إلى تجاهل مفهوم (لا إله إلا الله) الذي يجعل الحاكمية لله وحده. ألم يرد في القرآن قوله تعالى: إن الحكم إلا لله وألم يرد فيه قوله: ألا له الخلق والأمر وقوله: أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون. وما هو موجود في العالم اليوم حكم البشر وطواغيتهم في وجه ألوهية الله وحكمه وشريعته. فلابد لجلاء الجاهلية عن التوحيد من أن تقوم قلة مؤمنة فتعتزل شعورياً قيم الجاهلية وتصوراتها وتخلص العمل لله حتى إذا استقامت أمورها تماماً انقضت على الجاهلية فنقضت ما شيدته حصناً حصناً وأعادت حكم الله إلى الأرض.ويرى الدارسون للتطور الفكري لسيد قطب أن راديكاليته برزت بعد العام 1952, إذ إبان هذه الفترة بالذات صار عضواً في الإخوان المسلمين. لكنه ماكتب شيئاً في الجاهلية والحاكمية إلا بعد العام 1954 عندما دخل مع آلاف من رجالات جماعة (الإخوان المسلمين) السجن للمرة الأولى بعد اصطدام الإخوان الأول بنظام الرئيس جمال عبدالناصر. وفي السجن أقبل سيد قطب على كتابة تفسيره المشهور: (في ظلال القرآن), فظهرت فيه لأول مرة فكرة الحاكمية, ورؤية الجاهلية. وكان سيد قطب قد قضى بأمريكا مبعوثاً من وزارة التعليم المصرية عامين بين 1948و1950. ومنها عاد بعداء كاسح للغرب والمتغربين. وفي أواخر الأربعينيات ترجم كتاب المفكر الهندي أبي الحسن الندوي المسمى (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين?). كما اطلع على كتابات أبي الأعلى المودودي, زعيم الجماعة الإسلامية بباكستان, التي بلور فيها فكرة الحاكمية. فيغلب علي الظن أن الفكرتين (الحاكمية) و(الجاهلية) تبلورتا عنده نتيجة قراءاته من جهة, وتجربته السلبية في الغربة الأمريكية من جهة ثانية. ومعاناته في السجن من جهة ثالثة. على أن الأمر ما كان يحتاج إلى جهد كبير لفهم أصول أفكار سيد قطب الجديدة في البيئة العربية. فالخيبة من الغرب وفكره وحضارته كانت قد أصبحت نغمة سائدة في الأوساط العربية والإسلامية في الأربعينيات. فليس مصادفة أن نجد سيد قطب يعتمد اعتماداً كبيراً في أطروحاته الناعية على الغرب ماديته وتهوره وتدميره لعالم الإنسان على كتاب ألكسيس كاريل (الإنسان ذلك المجهول). ظهرت تلك الجوانب الشوهاء للحضارة الغربية في نظر كاريل وأشباهه في الحربين العالميتين, وفي الأنظمة الفاشية والاستبدادية التي ظهرت بينهما. وتحت تأثير أجواء اليأس الغربي نتيجة الحرب الثانية المدمرة, بدأ المفكرون العرب والمسلمون يتخلون عن الليبرالية التي سادت الأجواء في مطالع القرن, ويعودون لأفكار الخصوصية والأصالة. بدأوا أولاً بإبراز محاسن الإسلام, ونديته عن طريق مقارنات بين التشريعات, ووجوه النظم, وتصور الكون والإنسان. ودفعتهم الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والإيطالية والإسبانية والهولندية إلى اليأس من الغرب في السياسة وأنظمة الحكم أيضا, حتى إذا ضاعت فلسطين تحت وطأة مساعدة الغرب لليهود ثبتت لدى الجميع الفكرة القائلة بمؤامرة غربية بعيدة الغور على العرب والمسلمين. وما استطاع الإخوان المسلمون المصريون والسوريون والأردنيون أن يلعبوا دوراً ذا شأن في الحياة السياسية العلنية, فكان اللجوء إلى (التنظيم السري) بمصر بالذات, ومن جانب جماعة الإخوان, لكي يتحقق بالاغتيال ما عجزوا عن تحقيقه بالدعوة. واغتالت أجهزة الأمن السياسي المصرية حسن البنا عام 1949 فعمل الإخوان المسلمون مع الضباط الأحرار لإسقاط النظام الملكي, وهو ما تحقق عام 1952. لكنهم مالبثوا أن اصطدموا بنظام ثورة يوليو عام 1954 عندما انكشف لهم أن الضباط يريدون أن يحكموا بمفردهم. وهكذا هيأت هذه الظروف كلها لظهور سيد قطب والأفكار المشابهة. إن الفضاء الفكري الغاص بأفكار الخصوصية والأصالة في المشرق العربي هو من صناعة الإخوان المسلمين والمفكرين القريبين منهم. لكن الجماعات التي شايعت فكر سيد قطب هي التي مضت بتلك الأفكار إلى نهاياتها فظهر الإسلام الحزبي المناضل على أساس منها. والتحق الإسلاميون الشبان بالمغرب العربي, (تونس والجزائر), بالركب متأخرين بعض الشيء, أي في السبعينيات. ويرجع ذلك إلى التطور المختلف في شطري الوطن العربي: المشرقي والمغربي. فالحركة الوطنية المناضلة للاستعمار بالمشرق تأثر رجالاتها الأوائل بحركة الإصلاح الإسلامي التي تزعمها جمال الدين ثم محمد عبده وتلامذته. لكنهم ظلوا مستقلين عنها, وتبلورت لديهم الفكرة العربية على النحو المعروف. لهذا شعر رجالات الفكر الإسلامي بالمشرق في وقت مبكر بالحاجة إلى التنظيم المستقل, إذ لم يُشركوا بشكل فاعل ومؤثر في الصراع ضد الانتداب, وفي السلطات الوطنية المتكونة. أما في المغرب العربي فإن الحركة الوطنية المناضلة للاستعمار خرجت من عباءة الحركة السلفية الإصلاحية الموازية لحركة الإصلاح الإسلامي بالمشرق. ولذا كان رجالات الحركة الوطنية هم أنفسهم رجالات الإصلاح الإسلامي. ومابرزت التمايزات والتناقضات إلا بعد الاستقلال, وانفراد رجالات الحزب الدستوري بتونس, وجبهة التحرير بالجزائر بالسلطة. وعندما بدأت الحزبيات الإسلامية في تونس والجزائر بالظهور, فإنها لجأت إما إلى أفكار الإخوان المسلمين العامة الناقدة للغرب وحضارته, وإما إلى أفكار سيد قطب القاطعة مع الغرب في الخارج والداخل. الحل الإسلامي يقول يوسف القرضاوي في كتابه: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) (لقد فشل الحلان الليبرالي والاشتراكي في تحقيق نصر عسكري في قضية العرب والمسلمين الأولى: قضية فلسطين التي بها بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين. فشلت الديمقراطية فشلاً تجسد في هزيمة الجيوش العربية في سنة 1948, وقيام دولة إسرائيل المزعومة, كما كنا نسميها لعدة سنوات, وتشريد مليون مواطن من شعب فلسطين وتحويلهم إلى لاجئين. ثم بعد تسعة عشر عاماً, وبعد تحول عدد غير هين من الدول العربية إلى الاشتراكية الثورية, وبعد الإعداد والتجهيز للحرب, وشراء السلاح بعرق الملايين من أبناء الشعب, واستقدام الخبراء وإطـلاق الحناجر بالجعجعة والوعيد, وبعد أن أصبح العسكريون هم القادة السياسيين أيضا ـ فشلت الاشتراكية اليسارية فشلاً أنكى وأقسى من فشل سابقتها. فقد جاءت بآمال عراض وأحلام عذاب, وبعد تصريحات نارية وتهديدات عنترية.. وقد تجسد هذا الفشل في هزيمة يونيو 1967). صاحب هذا النص من قادة الإخوان المسلمين الذين استطاعوا مغادرة مصر عام 1954 دون دخول السجن. وقد عاش منذ ذلك الحين في أقطار الخليج, وعاد إلى مصر في السبعينيات, وهو الآن أحد أكبر منظريهم, مع بقائه عميداً لكلية الشريعة بجامعة قطر لمدة طويلة. إن هذا يوضح لحظة من لحظات طبائع ذاك الفكر وقد أوردت هذا الاقتباس من أحد كتبه للفت الانتباه إلى الظروف الداخلية التي أدت إلى بروز الإسلام النضالي في سائر أرجاء الوطن العربي في السبعينيات والثمانينيات. فقد قامت الأنظمة العسكرية تباعاِ بعد ضياع فلسطين لتحقيق أهداف ثلاثة قيل يومها إن أنظمة الاستقلال عجزت عن إنجازها: استرداد فلسطين, وتحقيق الوحدة العربية, وإنجاز التنمية الداخلية. وما تحقق شيء من هذه الأهداف, ففلسطين لاتزال تمعن في الضياع, والوحدة العربية ماسقطت فقط من أفق المشروع بل من أفق الحلم أيضاً, والتنمية الداخلية حل محلها بؤس الأرياف, وانهيار الاجتماع المديني, وذل مديونيات البنك الدولي, وصندوق النقد الدولي, وبيوت التمويل العالمية. من وراء إلى وراء خطرت لي قبل سنوات خاطرة نشرتها في إحدى الصحف, مؤداها أننا مختلفون عن العالم كله من حيث إن الثقافة والسياسة في مجالنا العربي تسير من وراء إلى وراء. ففي المجال الثقافي محمد عبده أقل ثقافة وانفتاحاً من جمال الدين الأفغاني أستاذه, ومحمد رشيد رضا أقل انفتاحاً من أستاذه محمد عبده. وحسن البنا أقل ثقافة وانفتاحاً من رائده رشيد رضا. وسيد قطب أقل انفتاحاً من رائده حسن البنا, وعمر عبدالرحمن أقل ثقافة وانفتاحاً من سيد قطب. وماكان ذلك كله في فراغ, فالأجواء الليبرالية المنفتحة مطالع القرن هي التي أنجبت محمد عبده وانفتاحه المعروف, وتفسيره الاجتهادي المتجدد للقرآن. صحيح أن للنصوص الدينية وتأويلاتها طرائق معتمدة في تراثنا وأصولنا الفكرية, لكن التأويل لايتم في فراغ وبناء على البنى اللغوية والأصولية والكلامية فقط, بل إن الفضاء الثقافي والثقافي/السياسي يؤثر فيه تأثيراً بالغاً. لنتذكر النقاش الذي دار بين الشيخ عبده وفرح أنطون حول الدين والعلم, وكيف اختلف عبده معه في أطروحاته, لكن النقاش لم تسقط فيه كلمة يشتم منها رائحة التكفير أو التفسيق أو الاتهام بالتآمر على الإسلام. بل إن الشيخ عبده ماكان يرى حرجاً وهو مفتي الديار المصرية, في الاستنصار باللورد كرومر المعتمد البريطاني في مواجهة الخديو من أجل الحفاظ على الأوقاف, وتطوير الأزهر, وإعطاء مزيد من الصلاحيات للمجلس التشريعي. ولنتذكر أن ثورة العام 1906 في إيران على الشاه هناك, تزعمها العلماء المراجع وطالبوا فيها بالدستور وفرضوه على الشاه, وذهبوا إلى أن الشورى الإسلامية التقليدية تساوي الدستور والبرلمان في العصر الحاضر. ولنتذكر أن السيد محمد رشيد رضا كان من أنصار الانقلاب على السلطان عبدالحميد من أجل إعادة الدستور. وقال بعد ذلك في (المنار) عندما نشر رسالة ابن تيمية المسماة: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية, إن دعوة ابن تيمية للعدل والشورى يمكن فهمها اليوم باعتبارها دعوة للدستور والمجالس النيابية, ابن تيمية الذي يستخدم نصوصه الإسلاميون منذ الستينيات للتكفير والجاهلية والزعم بأن الشورى ضد الديمقراطية والدستور. ولنتذكر أن حسن البنا الذي قال إن الإسلام مصحف وسيف, ماعارض دستور العام 3291بمصر, وما أنكر انتماءه إلى الجماعة العربية, في الوقت الذي يقول فيه سيد قطب في مرحلته ا لثانية إن الدعوة القومية دعوة للعرق والتراب في مواجهة النفحات السماوية, وإن الديمقراطية والاشتراكية على حد سواء في تأليه غير الله.]