محمد فريد أبوحديد.. وذكرى رائد منسي

محمد فريد أبوحديد.. وذكرى رائد منسي

مقدمة:

كثيرون هم الذين أغنوا ثقافتنا العربية، بالإبداع الأصيل والإضافة لما سبق أن خطه الأقدمون.. وبعض هؤلاء نال شهرة واسعة، غير أن الغالبية تورات خلف الظلال.

هناك رواد تنحسر عنهم أضواء الشهرة في تاريخنا الثقافي بسرعة لافتة، مع أن هذا التاريخ يؤكد، عند استنطاقه. أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالحياة الثقافية، وعملوا قدر طاقتهم على أن ينقلوا ما عرفوه إلى بني وطنهم، وعلى أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال. استجابة إلى تحديات التخلف في مجتمعهم، ورغبة في الارتقاء بهذا المجتمع. وتجد لهؤلاء الرواد أكثر من إنجاز في مجالات متعددة مثل غيرهم الأكثر شهرة، سواء في دائرة أنواع الإبداع، أو في دائرة النقد الأدبي، أو في بقية دوائر العلوم الإنسانية التي ضربوا في غير واحد منها بسهم أو أكثر، محاولين الإضافة التي رأوا فيها علامة متميزة تبنى على ما بنى عليه غيرهم، وتمضي بقواعد البناء إلى الأعلى. وعادة ما يكون لهؤلاء الرواد المنسيين نوع من السمعة والمكانة في عصرهم، والكثير من الاتباع والمعجبين. ولكن ما إن يفارقوا الحياة حتى يفارقوا بؤرة المشهد الثقافي شيئا فشيئا، ويغيض أثرهم في المجتمع تدريجيا، ويصيب مكانتهم الفكرية أو الإبداعية تآكل سرعان ما يدفع بهم إلى النسيان، بعد أن تبهت صورتهم في الوعي الثقافي العام، فتمر ذكراهم دون أن يذكرهم أحد، أو حتى تنتبه إلى ضرورة الاحتفاء بهم هذه المؤسسة أو تلك من المؤسسات الثقافية التي يمكن أن يكونوا قد أسهموا في تأسيسها أو تأصيل تقاليدها.

ومحمد فريد أبو حديد (1893 ـ 1967) واحد من هؤلاء الرواد المنسيين في حياتنا الثقافية. ولد بعد سبع سنوات من ولادة أحمد أمين سنة (1886) وبعد خمس سنوات من ولادة كل من محمد حسين هيكل وسلامة موسى سنة (1888) وبعد أربع سنوات من ولادة كل من طه حسين وإبراهيم عبدالقادر المازني وعباس محمود العقاد سنة (1889) وقبل سنة واحدة من ولادة محمود تيمور سنة (1894) وقبل خمس سنوات من ولادة توفيق الحكيم سنة (1898) فهو معاصر لهؤلاء جميعا. عرفهم وعرفوه، وعمل معهم وعملوا معه، والتقى وإياهم في التجمعات الثقافية والمؤسسات التعليمية والمنابر الإعلامية. وشابههم في الاهتمام بالمطامح الإبداعية والفكرية المقاربة. ورغم ذلك فهو أقلهم حظا من الشهرة، وأكثرهم رحيلا إلى عوالم النسيان منذ أن توفى في الثامن عشر من مايو، قبل شهر واحد من هزيمة سنة 1967، وقبل سنين من وفاة طه حسين ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم الذين سرعان ما نسوه كما نسيته الحياة الثقافية كلها.

ولذلك لا نجد له من الوفاء والعرفان ما يليق بثقافتنا التي تحتفي بماضيها، عادة، أكثر من احتفائها بحاضرها المتطلع إلى مستقبلها. ولولا جهود ابنة اخته الكاتبة صافي ناز كاظم المحررة بدار الهلال القاهرية، وإلحاحها على تذكير المؤسسات الثقافية بذكرى خالها. لمرت الذكرى الثلاثون على وفاة الرجل في صمت وتجاهل، كما مرت الذكرى المائة لمولده التي لم تخلف سوى ملف متواضع، ضمن صفحات مجلة القاهرة القاهرية في شهر يوليو 1993، وهو الملف الذي أشرفت على إعداده صافي ناز كاظم بالدرجة الأولى.

غياب تام

والواقع أنني لم أستطع أن أقاوم بيني ونفسي، تأمل أسباب اندفاع تأثير محمد فريد أبو حديد إلى الغياب في ثقافتنا بعد وفاته، أثناء الاحتفال الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة بذكراه الثلاثين. وكانت بداية التأمل مقارنة الصمت الدال الذي أطبق على تعاقب ذكرى محمد فريد أبوحديد وأقرانه من الرواد المنسيين، أمثال علي أدهم وإسماعيل مظهر وعبدالحميد حمدي ومحمد عبدالله عنان وأحمد ضيف وإسماعيل أدهم وعشرات غيرهم، بالصخب الجماهيري الدال الذي يمايز الاحتفاء بذكرى أمثال طه حسين والعقاد أو حتى هيكل. وتلك مقارنة تدفع إلى الوعي ظاهرة تحتاج إلى تفكير وتأمل، ولا يكفي في تبريرها أن ترجعها إلى ضعف الذاكرة الثقافية أو إلى حماسة فرد للاحتفال بهذا الرائد أو ذاك. أو حتى بالتأثيرات السياسية، أو سيطرة تيار بعينه على المشهد الثقافي. فالواقع أن الذاكرة الثقافية مهووسة بالماضي أكثر مما ينبعي، وتنطوي على قدر كبير من الاتباع الذي يتحول إلى إطار مرجعي متكرر للقيمة. وحماسة الفرد لا تصلح أن تكون تبريرا موضوعيا لظاهرة من الظواهر التي تجاوز الفرد في تكرار الاحتفاء الدال برائد بعينه دون غيره من الرواد المعاصرين له. والتأثيرات السياسية متغيرة. لو استقام التبرير بها في عهد انتفى فيه معنى التبرير نفسه في عهد مضاد.

أتصور أن بداية الإجابة ترتبط بمدى الجذرية التي يمارس بها الرائد دوره أو أدواره في الحياة الثقافية لعصره. ومدى الأثر العميق الذي يحدثه في مجرى هذه الحياة التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة، وزعزعة الأفكار السائدة. وتأسيس نوع من الإنقطاع الذي يمايز بين فكر وفكر، أو بين إبداع وإبداع، الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على الثقافة، نفيا لتقاليد الاتباع والنقل والإضافة الهامشية، وتأسيسا لقيم الابتداع والاجتهاد والإضافة الكيفية. وتتجسد في حضور هذا النوع من الرواد نقاط التحول الحاسمة في تاريخ الثقافة، كما تتشكل بهذا الحضور آليات المعرفة الواعدة التي تنتقل بها الثقافة إلى فهم يفتح الأفق اللا محدود للتجريب والمغامرة والحوار مع الآخر، واضعا الفعل الإبداعي الخلاق للإنسان الحر في القلب من نبض الكون، وفي موقع الفاعلية من حركة الوعي النقدي الذي لا يكف عن مساءلة كل ما حوله في سعيه الدائم إلى التطور والتقدم.

اتساع ممتد

هذا النوع من الرواد يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التي تتغلغل في كل الأركان، فلا تبقي شيئا على حاله الذي كان عليه، حتى في دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير، فحدة العاصفة التجديدية التي تندفع بها رؤية هذا الرائد تدفع كل شيء إلى التبدل، طوعا أو كرها، في الوقت الذي تقلب نظام القيم والأفكار، منتقلة به من وضع إلى وضع مناقض. والانقسام الجذري الذي تحدثه الرؤية الشاملة لجديد هذا الرائد لا يقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها والأثر العميق لمتوالياتها والتغلغل النافذ لنواتجها، خصوصا إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري، دافعة إليه، متجسدة في الرؤية الشاملة للرائد ومتحققة بها في الوقت نفسه.

عندئذ، يكون الأثر التجديدي لإنجاز هذا الرائد شبيها بالزلزال الذي يحدث تأثيرا جذريا في صميم البنية، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز التجديدي، في تتابعه المتصل، أو تصاعده المستمر، متوازية مع عمق الأثر الذي يتركه في مجالات كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع بأثره. وبقدر عمق الأثر الذي يحدثه هذا الإنجاز، من حيث جذريته ونفاذ تأثيره إلى صميم الأنساق والأنظمة والعلاقات في بنية الثقافة السائدة، يظل هذا الرائد حيا في الذاكرة العامة، باقيا كالعنصر المستفز للوعي، مثيرا الأسئلة التي لا يتوقف ما يتولد عنها من أسئلة على امتداد العقود التي لا تكف عن وضع هذا الرائد موضع المساءلة، بالقدر الذي لا تكف به عن إعادة قراءة إنجازاته وتأويلها أو تفسيرها بما يتيح نوعا جديدا من الأجوبة التي تثير أسئلة أجد. وقد كان طه حسين، على سبيل المثال، واحدا من هؤلاء الرواد ذوي الحضور العاصف الذي أقام الدنيا ولم يقعدها مرات ومرات. وظلت أطروحاته أكثر جذرية وحدية من أطروحات غيره، ولذلك ظلت أعمق تأثيرا وأكثر قدرة على الإثارة. ولأن هذه الأطروحات شغلت نفسها بأسئلة المستقبل، وطرحت على نفسها أسئلة العهد الجديد التي استبدلتها بأسئلة العهد القديم، فإنها ظلت عنصرا تأسيسيا من عناصر العهد الاتي الذي هو صيرورة دائمة من التحول، كما ظلت محل رعاية من الأزمنة اللاحقة التي تطلعت إليها هذه الأطروحات تطلع الاستشراف والترقب والإرهاص والبشارة والتحذير في آن. وذلك هو السر في تعدد الاستجابات اللاحقة إلى إنجازات طه حسين، سواء في تباينها أو تعارضها أو تصارعها الذي يكشف عن عمق الإشكاليات التي تنطوي عليها الأطروحات أو تثيرها. والصلة بين طه حسين وأبناء الجيل الليبرالي الذي ينتسب إليه مع محمد فريد أبو حديد وثيقة الصلة في الأفق العام الذي فتح للثقافة العربية الحديثة من أبواب الرؤى والمطامح ما نقلها من طور إلى طور. في المدى الذي جمع بين أفراد هذا الجيل حول الإيمان المتماثل بالدولة المدنية، والإدراك المتشابه لمدلولات الحرية. أضف إلى ذلك الاشتراك في نزعة إنسانية رحبة، كانت الوجه الآخر للنزعة الموسوعية التي تميز بها أبناء الجيل، والتي فرضت على كل واحد منهم تعدد الدور الاجتماعي وتنوع الوظيفة الثقافية. ولم يختلف محمد فريد أبوحديد في المنزع العام لتعدد الأدوار عن طه حسين، وإن لم يستوزر مثله أو يتطابق معه في آليات المثاقفة، فقد التحق محمد فريد أبوحديد بالتعليم المدني منذ البداية، وحصل على ليسانس الآداب والتربية سنة 1914، وعلى ليسانس الحقوق سنة 1924. وعمل بالتدريس في وزارة المعارف التي انتقل منها إلى إدارة التعليم في وزارة الأوقاف، ونقل إلى جامعة الإسكندرية التي أنشأها طه حسين حيث أسهم في تأسيسها، فكان أول من شغل منصب السكرتير العام للجامعة عند إنشائها. وانتقل من جامعة الإسكندرية إلى دار الكتب سنة 1943 ومنها إلى منصب عميد معهد التربية سنة 1945 ومدير الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف سنة 1947 وهو منصب يشبه منصب وزير الثقافة في هذا الزمان. وأصبح مديرا للتعليم الثانوي سنة 1948 ومدير الجامعة الشعبية سنة 1950 ومدير معاهد المعلمين سنة 1951 ووكيل وزارة المعارف العمومية سنة 1952 وأخيرا مستشارا فنيا للوزارة.

تمرد وتجديد

والتقى محمد فريد أبوحديد بطه حسين في لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أسهم في تأسيسها مع أحمد أمين. وكان ذلك بعد أن أسهم مع جماعة (السفور) التي عرفت بآرائها التجديدية الجذرية، وهي الجماعة التي ضمت طه حسين إلى جانب محمد حسين هيكل وعبدالحميد حمدي ومصطفى عبدالرازق وغيرهم. وعمل أبوحديد مع طه حسين في جامعة الاكسندرية ووزارة المعارف العمومية ومجمع اللغة العربية والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (حاليا الإسكندرية المجلس الأعلى للثقافة) الذي أنشىء سنة 6591. وظل عضوا بمجمع اللغة العربية الذي ترأسه طه حسين إلى يوم وفاته.

ومضى أبوحديد في طريق التجديد الذي سبقه إليه طه حسين ومحمد حسين هيكل، فكان مثلهما متمردا على القديم الجامد الذي يفرض منطق الاتباع، ومتمردا على الجديد الزائف الذي يفرض منطق التبعية، وبقدر حرصه على تأكيد الهوية الوطنية (القومية) في إنجازه الذي سعى إلى تحقيق الأصالة، والانطلاق من الجذور الخلاقة للحضارة العربية، ظل تجديده في الدائرة التي تنفر من التقليد، وتسعى إلى فتح الآفاق الإبداعية الواعدة. ولذلك استهل حياته الإبداعية بروايته الأولى (صحائف من حياة) التي فرغ منها سنة 1920 وأصدرها سنة 1924، لتضيف إلى التأسيس الجديد الذي صنعه هيكل عندما نشر رواية ( زينب) التي كانت العلامة الأولى البارزة على الطريق الواعد لذلك الفن الهامشي الذي كانت الحياة الثقافية التقليدية تنظر إليه شذرا. أعني فن الرواية الذي اجتذب إليه أبوحديد منذ البداية. فأصدر بعد عمله الأول: صحائف من حياة رواية ابنة المملوك 1924 ثم مجموعة قصص بعنوان مع الزمان (1930) ثم زنوبيا ملكة تدمر 1940 التي جاء بعدها (الملك الضليل: امرؤ القيس) و(المهلهل سيد ربيعة) (1943) و(أبو الفوارس عنترة بن شداد) (1945) و(آلام جحا) 1946 و(أزهار الشوك) (1949) و(الوعاء ـ المرمري) (1951) وأخيرا أنا الشعب (1951).

وتلك أعمال أكدت مكانة محمد فريد أبو حديد في تاريخ الرواية العربية بوجه عام، والرواية التاريخية بوجه خاص، وذلك من الزاوية التي سعت بها هذه الأعمال إلى أن تقرن الجديد الإبداعي بتأصيل جذور الهوية العربية، الأمر الذي دفع أبوحديد إلى استلهام التاريخ العربي وتأكيد حضوره الفاعل في الذاكرة الثقافية الحية.

ولا تقل أهمية تجديد أبو حديد في المسرح عن الرواية، وذلك منذ أن كتب مسرحية مقتل (سيدنا عثمان (1927) التي أصدر بعدها أوبريت (ميسون الغجرية) بالشعر المرسل (1928) ثم (عبد الشيطان) (1933) و(خسرو وشيرين) (1934) بالإضافة إلى ترجمته (مسرحية شكسبير) ما كبث بالشعر المرسل، وهي الترجمة التي قام بها في العشرينيات ولم ينشرها إلا سنة (1957). وذلك أمر يدل على سعي أبو حديد لتطويع الشعر للمسرح، ومحاولته تحرير الشعر من قيد القافية فيما أطلق عليه اسم الشعر المرسل في ذلك الزمان. وكانت محاولاته في ذلك، سواء على سبيل التأليف أو على سبيل الترجمة، علامة بارزة في حياة النهضة المسرحية بعامة وفي تاريخ المسرحية الشعرية بخاصة، إذ بعد أن أصدر شوقي محاولته الأولى التي سرعان ما هجرها ونسيها، وهي مسرحيته القديمة عن علي بك الكبير، جاء محمد فريد أبوحديد ليضيف إلى فن المسرح ما يؤكد به حضور هذا الفن في الحياة الثقافية العربية التي كانت تنظر إليه شذراً بالمثل.

ويمكن أن يتحدث المتحدثون عن العلاقة بين ترجمة أبو حديد لما كتب والأصل الشكسبيري ولهم أن يتحدثوا في ذلك كثيراً، كما لهم أن يناقشوا البناء أو الصراع أو الغنائية التي تغلب على العرض الدرامي في مسرحياته المؤلفة. لكن حتى لو اختلفوا فيما بينهم في القيمة الفنية لهذه الأعمال، فإن الذي لا يمكن أن يختلفوا فيه هو هذا الجهد الذي قام به محمد فريد أبوحديد في مجال المسرح الشعري من أجل تأصيل هذا الفن وخطى التجديد فيه.

وأتصور أن التمرد على القديم هو الذي دفع أبوحديد إلى أن يكون رائدا في ميدان آخر لا يقل أهمية وهو الكتابة للأطفال، فقد أدرك بحدسه العميق ووعيه التربوي أن الطفل رجل وإمرأة المستقبل، وأن المستقبل لا يمكن أن يتأسس أو يتحقق إلا برؤى خلاقة يتجسد بها حضور الطفل. ولذلك كتب للطفل قصصاً، وكانت هذه القصص بمثابة جديد يضاف إلى حركات التجديد منذ أن أصدر تأليفا وترجمة، أعمالا مثل (آلة الزمان(1947) ثم (عمرون شاه) (1948) و(نبوءة المنجم) (1949) و(كريم الدين البغدادي) (1950).

أدوار متعددة

والواقع أن صفتي التمرد على القديم الجامد وتأكيد الهوية الوطنية أو القومية هما الأصل الجذري الذي يشترك فيه محمد فريد أبو حديد وأبناء جيله. وليس من الضروري أن أقوم بتعديد بقية إنجازاته في الكتابة التاريخية من منظور التأليف أو الترجمة، أو حتى الكتابة الجغرافية أو التربوية، أو كتابات الفكر القومي التي ترك فيها كتابه (أمتنا العربية) الذي كان آخر ما نشر له في حياته فيما أذكر. ولست في حاجة إلى تأكيد تعدد أدواره، فكل ذلك تأكيد للأصل الجذري الذي يصله بأبناء جيله. والأهم من ذلك في تقديري هو مواجهة السؤال الذي فرض نفسه في البداية. ولابد أن يعود إلى أن يفرض نفسه في النهاية، أعني السؤال الذي يرتبط بأسباب تراكم النسيان على ميراث محمد فريد أبو حديد بالقياس إلى ميراث طه حسين على سبيل المثال، أحسب أن الإجابة أصبحت واضحة الآن، من حيث ارتباطها بدرجة الجذرية التي لم تصل إليها أعمال محمد فريد أبو حديد بالقياس إلى طه حسين لقد تمرد مثله على القديم، وحرص مثله على تأكيد الهوية الوطنية أو القومية للإنجاز الثقافي العام والخاص، لكنه لم يصل في جذرية التمرد إلى المدى الذي وصل إليه طه حسين بكتابه (في الشعر الجاهلي) مثلا، أو حتى إلى درجة الاستهلال الجذري الذي حققه هيكل عندما نشر رواية (زينب) فكانت بداية زمن الرواية التي سرعان ما أصبحت شعر الدنيا الحديثة. ولنقل في روايات محمد فريد أبو حديد ما نشاء.. ففيها من الإيجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكنها لا تستطيع أن تخلف في وعي قارئها ووجدانه، في نهاية الأمر، الأثر الجذري الذي تركته روايات الرواد التي غاصت إلى قرارة الجرح الاجتماعي وأنطقت المسكوت عنه من خطاب التحول. ولذلك ظلت روايات أبو حديد مثل بقية كتبه بعيدة عن خلق هزة ثقافية كتلك التي أحدثها كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين أو الديوان (للعقاد والمازني). وخلاصة القول في أبوحديد أنه أخذ من كل فن بطرف، واهتم بالرواية اهتماما خاصا، لكنه ظل في المنطقة الهادئة من الفكر والإبداع، تلك المنطقة التي لا تعرف الحدية في رفض القديم أو الجذرية في التجديد، فكان نموذجا للوسطية التي لا تثير العواصف، ولا تهيج البراكين ولا تتحول إلى زلزال، وإنما تمضي في يسر إلى هدفها الذي يكمل مهمة غيرها، ويضيف إلى ماسبق على سبيل التراكم الكمي. وليس ذلك بالأمر اليسير حتى لو كان النسيان العام هو خاتمة تقلبات الثقافة التي لا يستبقي وعيها الجمعي سوى اللحظات العاصفة من التحول وصناع العواصف من الرواد.

 

جابر عصفور

 
  




محمد فريد أبوحديد