جارنا الذي يحب قراءة الكتب

 جارنا الذي يحب قراءة الكتب

أغرب مافي الأمر أنني أشعر بكل هذا الافتقاد نحو رجل لم أكلمه إلا مرة, مرة واحدة, وبالصدفة. ماالذي يجعل الأشياء تبدأ هكذا?

وهكذا, كل مرة, منذ غاب يخيل إليّ دائما أنه يجلس خلف شرفته.

أقف في شرفة بيتي وأطل على شقته المغلقة من شهرين.

ماالذي يجعلني هذه الأيام لاأتذكر أحلامي بعد أن أنهض من النوم?

أنا التي كنت أتذكر حتى لون الضوء, وملامح الأشياء, وأتذكر الكلمات الهامسة التي كانت تأتيني في المنام بدرجاتها المختلفة, حتى الرائحة كنت أنهض وهي متشبثة بروحي على نحو من الأنحاء.

كما تعرفون فأنا أقطن هذا البيت, الذي يواجه مسكنه منذ كنت طفلة. بيت بسلالم إضافية له سور يسور حديقة بها ثلاث شجرات من المانجو, وشجرة وحيدة من الرمان تزهر في الربيع بزهرات نارية, أمضيت طفولتي ألعب معها, وفي الفناء الخلفي حجرة البواب, ذلك الرجل الذي أسمعه في الليل يطلق غناء حزينا يصلني بشجن الفراق وأنا أطالع دروسي.

الحي به الكثير من الميادين, حولها بيوت من طراز أول القرن, بنوافذها العالية ذات الستائر المسدلة, ومن بعيد يأتي ضجيج المترو الذي يدرج أول الليل ويقتحم سرب العصافير التي تباشر مبيتها على أشجار النادي.

ما إن أغادر الشرفة وأدخل من بابها وأطل على صالة البيت حتى أشعر أنا بنت العشرين بتلك الوحدة التي تقبض قلبي.

أنا حزينة بالفعل, وأرى بعيني تغير الأشياء.

ملابس مطوية بلا اعتناء على كرسي الصالون, وحذاء لأمي في ركن بالقرب من الشرفة, وحقيبة من جلد أسود لها قفل, وصورة لطيور مهاجرة معلقة على الحائط, تطير فوق البحر, ومزهرية بها ورد قديم, ومكتب بجوار, النافذة عليه كتبي وأوراق ومظاريف, ومدية صغيرة يدها من العاج, وساعة على الحائط متوقفة على زمن قديم.

(كل هذا الحزن)؟

اصطدمت بكرسي فآلم ساقي, وصرخت صرخة سمعتها أمي من الداخل, فهرولت ناحيتي مشرعة ذراعيها حيث كانت تباشر عملها في المطبخ.

ـ خدي بالك.

شرعت أتحسس ساقي والألم يصرخ في عظامي, ولشدة فزعي وتوتري خيل إليّ أنني لمحت عيني الجار تبرزان من بين الألم وتحدجني, ولدهشتي, رأيتهما تكتسيان بالدموع. هربت من العينين بتذكر حانوت بيع الاسطوانات القديمة التي كان يشتريها الجار, ثم يطلقها في الليل فيأتيني غناؤها عبر الشارع بأصوات الراحلين.

ـ ولحد إمتى يابنتي?

قالتها أمي ومضت راجعة.

كانت تشعر بي, وتدرك ما أعانيه بقلبها الطيب. دوراني المجنون حول نفسي, وتلك الدائرة التي أدور حولها مكروشة النفس بروحي اليائسة.

ما الذي حدث بالضبط?. هذا ما لاأعرفه, ولايعرفه أحد في الشارع.

لقد بدأت الحكاية بلقاء.

عندما نهضت من نومي منذ أربع سنوات, كانت شقتهم مفتوحة النوافذ, وكانت قبل ذلك مغلقة مثل الكثير من شقق المسافرين.

رأيته يجلس وظهره للشرفة على كرسي من الخيزران ذي المساند, على حاشية بيضاء نظيفة, تتسلل الشمس إليه وكان الفصل شتاء, وزهرات عباد الشمس تتوجه نحو الضوء في أرض الحديقة.

يقف الآن ناظراً إلى الشارع ليتعرف عليه, متوسط القامة يتجاوز الأربعين بقليل, يغلب الشيب سواد شعره, ويضع على عينه نظارة بيضاء لطيفة, وكان وجهه مبتسماً, وبدا لي رقيقا على نحو من الأنحاء, إلا أنني شعرت ـ ولا أعرف السبب ـ بأن وجهه يعكس حزنا, وأنه أحد أصحاب الأحزان الدائمين, ولم يكن واضحا إن كان ينظر ناحيتي أم كان يتأمل عالم الشارع الهادىء.

أعرف أنني تفزعني وجوه الناس هذه الأيام, وأخاف منها, فالكثير منها يشبه وجه ابن عرس, أما هذا الوجه الذي أراه, فيتسم بالسماحة والطيبة.

أردت أن أبتسم له مستعينة بمدخراتي من الشقاوة, أو ألوح له بتحية الصباح, لكن إحساسا خفيا منعني, بعدها تركت الشرفة ودخلت, وتركته وقد جلس يطالع في كتاب.

كنت في ذلك الحين راسبة في الثانوية العامة, وكل مايربطني بالحياة شلة من أصدقاء النادي الأغنياء, من أبناء الطبقة التي طفت على سطح الحياة بعنف, حيث تراهم يقطعون الشوارع بسياراتهم الصغيرة الجديدة, ينطلق منها صوت الكاسيت بتلك الأغاني الأجنبية الصاخبة.

كان أبي قد رحل منذ سنين, تاركا إياي وأمي, التي تعبت في تربيتي, ولما يئست مني كتلميذة متمردة, استدعت أحد أعمامي الذي طمأنها ألا تنزعج, وأن مصير البنت للزواج, وأي ولد من أبناء العائلة سوف يسترها وخلاص.

كانت حياتي فارغة, لامعنى لها. يشغلني منها الملابس على الموضة, ومصاحبة الفتيان من سني, والسعي نحو أي درب مفتوح على المتعة, أنجح سنة وأرسب أخرى, وأرقد في فراشي حتى تضيق بي أمي, فتتركني نائمة لأنهض فأبدد وقتي في مهاتفة الأصدقاء بالساعات.

حتى رأيت جارنا الجديد.

ينهض في الصباح, أراه في صالة البيت يمارس قليلا من الرياضة, ثم يلبس ملابس متواضعة لاتتعدى بنطلونا وقميصا خفيفا, وينتعل في قدميه حذاء من قماش أزرق, ويهبط من داره حتى بائع الصحف الكائن كشكه أمام الميدان الذي يبعد عن البيت بأمتار قليلة. أراه يقلب الصفحات ويختار مجلاته وكتبه وصحفه ثم يعود.

في الشارع كثيراً ما أراه يقف, يضع تحت إبطه أشياءه ثم يستند إلى شجرة متفرساً العناوين, ثم يمشي قليلاً, إلا أنه يقف حيث يعود لمجلة أو كتاب, حتى إذا ما وصل إلى بيته أراه يجلس على سور صغير, وتكون الشمس قد فرشت السور والرصيف بينما هو يطالع, وقد خلع حذاءه القماش فأرى رجليه النظيفتين في الشمس.

مرة التقيته عند بائع الصحف وهو يقف قرب الفرش وأشرت ناحية إحدى الروايات وسألته: هل هذه رواية جميلة? فأجابني باختصار: شتاينبك كاتب لايقاوم.

ولم أفهم, إلا أنه ابتسم في وجهي ومضى, مثل الظل.

بعد قليل يبرز من صالة شقته ثم يقترب من الشرفة ويعدل الكرسي الخيزران, وتكون الشمس قد أطلت من النوافذ على صالته, فأرى على الحوائط لوحات من عصور مختلفة, وسيدة في إطار قديم تتطلع إلى قمر بعيد, وتمثالا صغيرا لربة فرعونية موضوعا على دولاب استيل بزجاج له صفاء الماء. أحببت شقته ذات الستائر المسدلة, والزرع في الأركان, وجو الألفة الذي يأتيني عبر الشارع.

يكمن على كرسيه كتمثال. يقلب الصفحات ويمعن النظر, لاينهض إلا إذا أراد مشروبا, فأرى سيدة لطيفة تخرج من عمق الشقة حاملة صينية عليها فنجان من القهوة, تتبادل معه الحديث قليلا وتتركه لحاله. ومرة رأيته يودع طفلا في العاشرة ويعدل له هندامه, ثم يخرج إلى الشرفة ويناديه: (خد بالك وأنت ماشي).

الرابعة تماما يغيب وتسدل الستائر, وتغلق الشرفة, ويحل على الشقة صمت.

الثامنة تضاء الأنوار ثم تطفأ إلا من أباجورة على مكتبه, تلوح من النافذة المفتوحة في الصيف, والمسدلة الستائر في الشتاء. أراه ينحني حتى آخر الليل, إما كاتبا, أو قارئا, وحين ينتهي, يخرج إلى الشرفة جالسا وحده, ثم يشعل إحدى سجائره.

أذكر مرة صعدت إلى شقتنا الست (سهير) التي تقطن تحتهم, وحين سألتها عنه أجابتني: بأنها تعرف القليل عن الرجل, وأنه رجل طيب وفي حاله, وأنه قليل الكلام جداً. ولما قلت لها أين يعمل?. أجابتني أن لا عمل له. وبعد لحظة صمت قالت وكانت تبدو غير فاهمة: يقولون إنه يكتب القصص للأطفال, وينشرها في إحدى المجلات, وله بعض الكتب في هذا الأمر.

بحثت عن المجلة حتى وجدت قصة له اسمها (العصفورة والبنت الصغيرة).

كانت القصة عن بنت تألفها العصافير, لأنها في كل صباح تضع لها الحب والفتات على سياج النافذة حيث تلتقطه العصافير, إلا عصفورة صغيرة كانت تحب أن تقفز في يد البنت وتلتقط منها الحبات, حتى سافرت البنت وانقطعت العصافير, إلا العصفورة الصغيرة ظلت تجيء كل صباح وتداوم على الحضور.

كانت تأتي وترفرف أمام النافذة وتطلق صوصوة شبيهة بالبكاء.

وكنت في بعض الليالي أنهض فجأة على مطر منهمر, وأرى نوافذه مغلقة يبين من خصاصها نور حجرته, يعمل ككل يوم من أيامه, كأنما العمل آخر زاده. ينقطع عن حركة الحياة إلا يوم الجمعة حيث يأخذ زوجته وابنه ويخرجون, يغادره البشر الفانون, ويمارس عمله بجنون خاص, يتغذى عليه طوال ليالي المواسم الطويلة.

ترك لي الفزع والخوف من نفسي. ألفت الموسيقى التي يسمعها, والأغنيات ذات الإيقاع القديم, والشجن المتراسل في الليل بأصوات الراحلين, وكانت الأغنيات تأتيني عبر الشارع آخر الليل بكلمات مضنية عن حنين مؤجل, ولوعة لاتنتهي.

شيئاً, فشيئاً وجدتني أتغير, أتحول كأنني أطلع من محرقة النار كائنا جديداً.

فارقت الليالي التي كنا نخرج فيها نحن شلة الأصدقاء ـ صبيانا وبنات ـ مغادرين بيوتنا إلى النادي الراقي نقطع شارع (المرغني), يعلو صخبنا متجهين إلى شارع (عباس العقاد) بمحلاته أمريكية الطراز, المزدحمة بالملابس, والأكلات السريعة. الآن أنا وسطهم الأكثر وحدة وصمتاً, تتساقط بقلبي وحشة من نوع خاص, وتبدو أضواء الشوارع مثل شموع ذابلة, وأشعر بقلبي وسطهم كأن به صلابة الجليد.

وكان (عمرو) يسألني:

ـ مالك?

فلا أجيبه, وأطلب منهم أن ينزلوني عند أول ناصية لأنني سوف أذهب إلى البيت بسبب مرض أمي.

وبدأت حياتي تتغير. أطفأت جموحي القديم, وانتهيت من فراغي الموحش منذ جاءتني العدوى عبر الشارع.

اندمجت في الدرس وحصلت على الثانوية العامة, ودخلت كلية الآداب قسم الفلسفة, وبدأت التعرف على القراءة. قرأت القصص والروايات, وعشقت عالم الكتاب الفسيح, وتجولت عبر كتب التاريخ, وأحببت الفلسفة بمنطقها القاطع, وشغفتني سير الحكماء والقواد, وأدركت امتداد المكان في الزمان, وسحرتني صلابة الأرواح حين تواجه أقدارها.

كنت إذا مادخلت الباب العمومي لحرم الجامعة, وتأملت فناءها الواسع المزروع بالخضرة وطرازها الروماني العتيق, ورأيت الطلاب والطالبات يمشون في ثنائيات وتجمعات, متسامرين في قضايا لم تعد تهمني, حتى (عمرو) كنت إذا مارأيته ازوررت عنه, ومضيت في طريقي, وكنت أدخل مع أستاذي في نقاشات أكاديمية جعلتهم في دهشة من التغير الذي أصاب حياتي التي كانت طافية على الغرق مثل زجاجة.

أنهيت دراستي بتفوق, وتم تعييني معيدة بالقسم.

لكن ها هو الجار قد مضى مثل سحابة صيف.

أغلقت النوافذ, وشرفته الوحيدة, وخيم على شقته الفراق, وهأنذا أدفع حيرتي وعجزي ثمنا لغيابه.

سألت عنه فلم يجبني أحد حتى جارته (سهير) أجابتني بأنها: لاتعرف شيئا, وأن زوجته انقطعت تماما عن الظهور.

منذ غاب شعرت كأنني أكبر من سني, وعاد إحساسي بالوحدة يطغى عليّ

كانت أمي تشعر بي, وتراني وأنا أغادر حجرة النوم وأدور في الشقة بلا هدف. أفتح باب المسقط لأتسمع مواء قطة البواب المحبوسة, وغناءه المؤلم, وأخرج إلى الشرفة لأطل على الشارع الخالي في الليل, وأعود لأفتح التليفزيون فتواجهني هذه المذيعة بوجهها الكالح منهية الإرسال, وسرعان ماتنتشر على الشاشة الحبيبات البيضاء كالخلايا.

مساء اليوم التالي شخطت في أمي صارخة:

ـ بدل ما تهري في نفسك, انزلي اسألي عليه وشوفيه راح فين?

تنبهت, واندفعت بالفعل نحو شقته.

طرقت الباب وانتظرت أتسمع لدقات قلبي.

حدثت نفسي أن لا حل غير هذا, وعليّ أن أعرف ما الذي حدث بالأمس واليوم, وربما ماسوف يحدث غدا? كان الدرج صامتا ونوره المضاء يغشي عيني, وبالرغم من اضطرابي فإنني تماسكت, وضغطت جرس الباب. سمعت صوت خطوات قادمة, ورأيت من عين الباب السحرية نورا يضاء, وسرعان ماسحب المزلاج ودار المفتاح وانفتح باب الشقة.

كانت زوجته تقف أمامي ـ هي نفسها ـ سيدة بيضاء أطول منه قليلا على شيء من نحول, تبدو فزعة على نحو ما.

تطلعت, وشعرت بطعم الخريف في قلبي, وتذكرت حزمة الزهر التي تشق طريقها من صدع الرصيف, وكيف اندهشت يومها أن الأقدام لم تطأها.

قالت:

ـ أهلا وسهلا, خير?

ـ خير.

قالت بصوت فيه اضطراب:

ـ أي خدمة?

ـ أنا.

ـ أنتي مين يابنتي.. خير?

ـ أنا جارتكم (هدى).

ـ أهلا ياهدى تفضلي.

خطوت أولى خطواتي داخل بيته. كانت الشقة مثلما ألفتها. الصور على الجدران والزرع بالأركان, ومكتبته ضخمة تستند إلى الحائط اليمين, ولوحة السيدة والقمر أمامي, لم أكن أميز على البعد صورة جرو صغير يتقافز تحت قدمي السيدة, وأنفاس الغائب أشعر بها في المكان مثل ذكرى قديمة.

سألتني: ـ خير ياهدى?

صمت لحظة, ونظرت إلى عينيها الممتلئتين بالدهشة, وبرغم كل ذلك, فإن بسمة خفيفة كانت تلوح على شفتها.

قلت:

ـ أنا أسأل عن الأستاذ.

ـ أستاذ مين?

ـ الأستاذ (عبد الهادي) زوجك.

توجست لحظة, واضطربت.

كان الضوء خافتا يأتي من الرواق, ملونا كأنه يأتي من قنديل معلق في أحد أماكن العبادة.

حدثت نفسي بأنها مضطربة على نحو من الأنحاء, وشعرت بريح الخريف تكتسح الشارع, ولها صوت كأنها تنتظر مطرا مؤجلا.

قلت:

ـ أنا أقرأ للأستاذ, لكن أنا ملاحظة غيابه من مدة.

أطمأنت وأخذتني من يدي حتى منتصف الصالة ثم قالت لي:

ـ والله يابنتي ما أنا عارفة أقولك إيه?

ـ خير. قولي.

بلعت ريقها, ولمحت بدايات دموع تنبثق من عينها, ثم قالت:

ـ والله يا بنتي, فات عليه من شهرين ثلاثة رجال, أخذوه, ومن يومها ما أعرفش له مكان.

أحسست بداخلي بشيء يتفجر, ولجمني الصمت الذي شل لساني. لابد أنني أحسست في هذه اللحظة بأنني صرت عجوزا بدرجة مروعة, ولأن شعوري بالبرد قد تكاثف, وندمت فجأة على أنني عشت هذا العمر.

كنت أتراجع بظهري حتى خرجت من الباب المفتوح, وفي اللحظة التي كنت فيها على رأس الدرج انقطع النور فجأة فحل ظلام, وخفت أن أصرخ, وبلا وعي هبطت الدرج كمن يغور في بئر من ظلام, وعلى حين غرة انفجرت من شارع (الثورة) المجاور صافرة إنذار كأنها العويل.]

 

سعيد الكفراوي