النقد الأدبي وانفجار النظرية

النقد الأدبي وانفجار النظرية

أسئلة تتعدد لكنها ترتد إلى سؤال واحد هو: سؤال كل المقدمات, لأنه السؤال المستعاد, يتكرر منذ البدايات بلا ملل وبلا استنزاف: نحن والآخر? هذه المعادلة التي بثنائيتها الضدية في الوعي وفي اللا وعي ـ قد حولت السؤال السوي إلى سؤال مأزوم مثلما حولت الحس الفطري إلى مثاقفة مفترسة.

وسيظل السؤال متأزما ـ ومن حقه أن يظل ـ ما دام متحركا على قلق التاريخ أو متأرجحا على حيرة الحضارة, بل قد يتفاقم السؤال تأزما ويستفحل استعصاء إذا تحرك على مراكب السياسة والاقتصاد وتوازنات القوى. أما إذا كان جوهر الإشكال في ثنائية الأنا والآخر دائرا على العلم ومزروعا في بساتين المعرفة على اختلاف حدائقها وتباين ما ينبت فيها, وعلى تنوع ثمرها وحصادها, فهي اللحظة الفريدة التي تقوى فيها حظوظ تعاطي المعادلة في وضعها السوي بعيدا عن أعراض التأزم وما ينشأ عليه من اضطراب المزاج الثقافي.

مضايق حرجة

إننا نريد أن نستقبل الأدب وخطاب النقد استقبالا متخلصا من إحراجات الانكسار الفكري الذي ما انفك يوشح صدر الثقافة العربية:

في غير مكابرة ولا لجاج فليس من شمائل المعرفة أو مستلزماتها إلغاء المضمون الفكري لإحضار الذات العاقلة, وليس من جوازاتها أن نتخذ من الانتساب الفكري فضلا حضاريا نردفه إلى هوية الذات العاقلة أكثر من إردافه إلى المطلق متحررا من قيود الجنسيات.

في غير صلف إذن ولا مكابرة.

نعم. ولكن ـ أيضا ـ في غير إجحاف بالنفس تولده المغالاة في نكران الذات, فالتواضع من شيم الفضلاء, لأنه أول بند من بنود عقد المعرفة وأعظم أس في دستور العلم وأخلاق البحث. وبين الزهد في النفس و.الزهد في العلم مضايق حرجة كثيرا ما يتعذر فيها استلال حرير السخاء من أشواك الصلف والغرور.

تنوع وغزارة

فإن عثر الباحث بين المضايق على المسلك الأسلم فسيظل من أقداره أنه معلق بين الرجاء في بلوغ رسالته والخوف من تهمة الاستيراد بالتبعية والتقليد حتى ليكاد من فرط شك الناس أن يشك في نفسه إن كان في كل صغيرة وكبيرة مجرد ناقل للمعرفة أم أنه في بعض أجزاء العلم مشارك في إنتاج المعرفة. فإذا به يصادر على أن من أقداره أيضا ألا يجري وراء السؤال الذي تعب به الكثيرون ومنهم من شقي شقاء: من لي بالقارىء الذي بحصافته يستصفي عند كل مضيق ما هو من مستقرات العلم وما هو من مستحدثاته!.

إن أول ما نريد أن نصدح به هو أن النقد الأدبي في عصرنا الحديث قد تطور كما لم يسبق له أن تطور من قبل, وأن تطوره قد اقتفى نسقا فيه من التسارع وفيه من التنوع والغزارة ما لم يعرفه من قبل في حياته المديدة منذ كان لنا عن اللفظ الشعري والكلمة الأدبية والقول الفني وثائق دونتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل. والذي نريد أن نصدح به تاليا هو أن النقد الأدبي مدين في جل ما يعرفه في أيامنا من نماء وازدهار إلى المعرفة اللغوية الحديثة, فهي القادح لوقود محركه وهي المفجر لثورته الزكية اليافعة. والمعرفة اللغوية هي الأخرى تتطور في أيامنا, وتطورها يقتفي نسقا تذهل من شدة وقعه الأفكار وتحار الذاكرات ولاسيما تلك التي ألفت المراوحة بين كل منعرج فكري وما يعقبه عادة من مهادنة كانت تمتد على بعض المهل, فلا يسابق عمرها عمر الفرد, وقلما يطفح زبدها على مكيال الجيل الواحد من المعنيين بالأمر ولاسيما في ثقافة الأدب والنقد.

ولكن الذي قد بدا لنا بعد عناء المتابعة وأتعاب الكد هو أن نقاد الأدب إن هم انضووا تحت ميثاق التوالج الفكري بين المعرفة اللغوية والمعرفة النقدية فقلما يحرصون بنفس الاعتناء والحيرة على متابعة التطور الحاصل داخل المعرفة اللغوية في حد ذاتها, فكأنما يقيمون سلما من المفاضلة تراهم فيه معنيين بشأن النقد أكثر مما هم معنيون بشأن اللغة برغم أنهم يسلمون بدءا بأن تطور معارفهم من تطور معارف اللغة.

والأمر الآخر الذي نحرص على الصداح به هو أن النقد الأدبي الحديث يتطور بنسق بالغ السرعة ولكنه نادرا ما يفرغ لنفسه ببعض الاستبطان النقدي في مستوى المعرفة الكلية, ولذلك ترى الأغراض يتوالد بعضها من بعض, وكذا المرجعيات والمناولات, وكأنها في تعاقب خطي أو ارتقاء لولبي. ويغيب عن المتابعين للشأن الأدبي, وعن المعنيين بالشأن النقدي, وأحيانا عن ذوي الأمر في هذا وذاك, أننا نعيش لحظة تاريخية مخصوصة هي لحظة انفجار النظرية النقدية.

نعم! هو انفجار بالمعنى الذي يكاد أن يكون حقيقة لامجازا. ولكل انفجار تشظياته التي قد تمتد وقد تقصر بحسب نسق المواءمة الفكرية القائمة بين إنتاج المعرفة والعقول المؤثرة فيها سواء عند إنتاجها أو عند استقبالها.

وأعظم شظية أصابت في رأينا الإرث النقدي العام هي امحاء المرجعيات القارة, لأن فكرة الثبات في النظرية النقدية وفكرة الدوام في ربط الإنسان بالإبداع الأدبي قد زالتا زوالا بائنا. بل من أدرانا? فلعل أم المرجعيات قد اهتزت بزلزال الانفجار: تلك التي كانت ثاوية وراء كل شيء ليس حولها خصام ولا عليها نزاع, نعني الذائقة الشعرية.

معايير خالدة

اليوم لم يعد بوسع التاريخ أن يعيد نفسه في مجال النظرية النقدية, ولم يعد للسابق أن يفهم قول اللاحق بمجرد الاحتكام إلى المعايير (الإنسانية الخالدة) في الأدب, أو إلى المقاييس (العقلية الثابتة) في سلم النقد. اليوم إذا عنّ السابق أن يفهم قول اللاحق تعين عليه أن يستدرك ما فاته من مسافة فاصلة بين محطتين معرفيتين, وعليه أن يستوعب ما به صار اللاحق لاحقا إذا ما قيس بالسابق: فالسبق واللحاق هما الآن ثقافيان أكثر مما هما زمنيان.

وأول البداية في هذا المقام أن انفجار النظرية النقدية قد أتى إلى الجوهر الذي حوله يتحدث النقاد فجعله جواهر, وجاء إلى موضوع النقد فجعله مواضيع: من الحديث عن الأدب, إلى الحديث عن النص, ثم عن الكتابة, فعن التلقي, في كل ذلك أنت لست متنقلا بين مصطلح وآخر, ولست متجولا بين البدائل, إنما أنت مع كل لفظ تبرم عقدا فكريا جديدا له حيثياته وله أشراطه. وما لم تحتكم في كل ذلك إلى مضمون المعرفة اللغوية الأولى أو تعول على الذين احتكموا إليها فلن تهتدي إلى سبيل الخلاص في معالجة القضايا الأمهات, اللهم إلا أن تظن ظنا, أو تقول قولا بعد ظن, فيتملكك الوهم بأن الذين.. يتحدثون عن الخطاب الأدبي, وعن الخطاب النقدي, وعن نقد النقد ونص النص, إنما يتداولون عبارات هي من صناعة كيمياء الألفاظ ليس من ورائها غناء للأدب ولا أمامها سلطان للنقد.

عندئذ ستغريك مطية الاستسهال فتركن بك في زاوية القول بأن الألفاظ مترادفات أكثر مما هي كائنات دلالية ذات هويات مستقلة: مهما تقاربت فيما بينها ومهما تناهى تقاربها فلن يقضي ذلك على استقلالها ولن يمحو شيء رسم انفراد كل واحد منها.

الأسئلة المعهودة

وعندئذ ستقول أيضا إن ابتكار النقد الحديث لقضية (التناص) ليس إلا توليدا لمصطلح جديد يعبر به النقاد المحدثون عن مفهوم قديم كان مستويا في دائرة التأثير والتأثر, وكان منتميا إلى أنساب الأدب المقارن, وبعدها ستجد نفسك غير عابىء بانفجار النظرية النقدية داخل مناهج المقارنات ذاتها إذ ستظل تعتبر أن الأمر لا يخرج عن تلك القضايا التي تتصاهر مع الأسئلة المعهودة:

ما هي الرحلة التي قطعها كتاب (كليلة ودمنة) قبل ابن المقفع وبعده, وما هي المجرة التي سافر إليها كتاب (ألف ليلة وليلة), وهل بوسعنا أن نجزم بأن مؤلف (الكوميديا الإلهية) قد اطلع على (رسالة الغفران). وستجد نفسك شيئا فشيئا كالقابض على النقد من أذياله وحواشيه وقد أفلت من يدك جوهره ولب ما في قضاياه, ولن ينفعك يومئذ أن تجوس بين معاطف التناص لتعلم أنه آلة كاشفة تدخل بها العصر الواحد كما تدخل بها العصور, وتلج مدونة الأديب الواحد ولوجك مدونات الأدباء المتعددين, وتُسائِل بواسطتها هجرة الخطاب الناقد بعد رحلات الخطاب الإبداعي. إن الانتباه إلى ما نسميه بانفجار النظرية النقدية ـ تماما كالدعوة إلى إيقاظ ذلك الانتباه نفسه ـ قد يبدو فكرة بسيطة, أو مجرد تنويع للمداخل إلى السائد من القضايا, وليس عجيبا أن يحمل على أنه زرع لرائجة تسويقية! غير أن الأهمية الأبلغ والقيمة الأخطر هما في التسليم بما ينتج عن ذلك الانتباه بعد التسليم به هو في حد ذاته. فليس من مثقف منسجم مع نفسه, متوائم مع أمزجته, متصالح مع رؤاه وقناعاته, إلا وهو إذا أيقن بهذه اللوحة الجديدة أمسك عن إرسال الأحكام الجزاف على ما يكتبه النقاد المحدثون, أو إن رمنا التحري والتدقيق قلنا إنه سيكف عن تقويم الإنتاج النقدي ما لم يستوف شرائط الثقافة التي احتكم إليها الناقد قبل تحبير خطابه النقدي.

من قبل كانت المعرفة التي يتسلح بها القارىء ليحكم على الإنتاج النقدي قائمة داخل حظيرة الأدب ثم داخل دائرة المواضعات النقدية السائدة, فالأدب والعلم المتصل به كانا يكونان مؤسسة متماسكة قد تتواصل مع مؤسسات معرفية أخرى, ولكن ذلك من باب المكملات إن لم نقل من باب الترف العلمي أو على سبيل البذخ الثقافي. أما اليوم فالحروف الأولى لأبجدية النقد وافدة من خارج دائرة الأدب والنقد كما كرستهما ثقافة النقل ومدونات السند, ولم يبق من مبرر لقارىء يقرأ نصوص الأدب متسليا بها ثم يرتجي من الناقد أن يمده بخطاب يزيد ترفيهه ترفيها ليضاعف له التسلية, أو يساعده على الانتشاء النرجسي إن هو صادف هوى من نفسه أو تماهى مع استشعاراته فأتى له بالكلام المعبر عما أحس به ولم يقو على التعبير عنه.

الخروج عن المدار

إن الانتباه إلى انفجار النظرية النقدية, والقول به, ثم التسليم بنتائجه, كل ذلك يعني الاقتناع بأن مؤسسة النقد قد خرجت عن مدار فلكها الموروث, وكفت عن كونها ملكا عينيا بيد النقاد من حيث هم نقاد ودخلت طورا جديدا هي فيه ملك مشاع بين النقاد وشركائهم المعرفيين.

لقد ولى العهد الذي كان فيه الحكم على النقد ظهير الحكم على الأدب. لم يعد أي منهما بقادر على أن يستقل بنفسه عن حركة المعارف: ليس الأدب جزيرة منعزلة في محيط العلم الإنساني, وليس النقد واحة مزدهرة داخل جزيرة الأدب.

بل لعل لكل واحد منهما من الروابط بسائر حقول الثقافة الإنسانية الفسيحة ما قد لا يكون له مع شقيقه. وهذا من أعجب ما يحدث عند انفجار النظرية.

وأكثر غرابة من ذلك أن الشقيقين ـ الأدب والنقد ـ كثيرا ما تتعقد علاقتهما فيما بينهما فتتوتر وتسوء, والسبب في ذلك أن أحدهما قد أقام رابطة استثمارية مع فرع من فروع شجرة المعارف الإنسانية بينما ظل الآخر في عزلة عن كل ذلك الحقل. أفترى إلى قصاص أو روائي أو إلى كاتب نص مسرحي يندفع اليوم إلى التأليف اندفاعا فينبري كاتبا ما يكتبه وهو في قطيعة تامة عما تم استحداثه من تقنيات التركيب القصصي والروائي والمسرحي, وعما وقع استنباطه من تأسيس نظري حول آليات القص والحكي مما يجمعه باب (السرديات) حسب المصطلح التأليفي المكتنز? وهل نتصور روائيا جادا يعيش في عصره, ويعيش بعصره, ثم يعيش عصره عيشا, يستطيع أن يقنع الآخرين بما يكتب. اذا كان في انقطاع تام عن تقنيات السينما وآليات المخايلة, أو كان في عزلة عما جد اليوم من أساليب التضمين والإيحاء ورد السابق على اللاحق? أو كان غير عارف لمراتب التفريق بين الخيال والتخييل والمخيال, أو كان غير ملم بدلالة العجائبي أو بقوام أدب الفانتازيا?

لم يعد متيسرا أن نعول على (الموهبة) بشكل كلي. فالموهبة في إبداع الأدب كانت فيما مضى ش رطا كافيا ,وهي الآن شرط واجب ولكنه غير كاف على الإطلاق. وليس لنا أن نكملها بالترويض والتهذيب والصقل فحسب, بل عليها أن تكمل نفسها بالمثاقفة والتعهد ورسوخ المعارف.

 

 

عبدالسلام المسدي