الموال الزهيري في الكويت

الموال الزهيري في الكويت

لا أعتقد أن ثمة فنا شعريا شعبيا ذائعا في الكويت ودول الخليج العربية، قد أجمعت الخاصة والعامة معا على تذوقه ـ رواية وإبداعاً ـ مثل فن "الموال" الذي يعرف في الكويت باسم "الزهيري" ولا أخال فنا شعريا يلتقي فيه الوجدان الذاتي ـ للمبدع الفرد ـ بالوجدان الجمعي ـ للشعب ـ مثلما يلتقيان في فن الموال عامة والزهيري خاصة، ومن هنا تتجلى عبقرية هذا الفن وسحره وفردانيته.

تعود بدايات هذا الفن الذي عرف تراثيا باسم فن "المواليا" إلى أكثر من ألف ومائتي عام.. في أرجح الروايات التي تعود بجذوره التاريخية والجغرافية إلى بداية القرن الثاني الهجري، وفي مدينة واسط، تحديداً، تلك المدينة التي بناها الحجاج بين الكوفة والبصرة من العراق، حيث اخترعه بعض الواسطيين "وكان سهل التناول لقصره فتعلمه عبيدهم المتسلمون عمارة بساتينهم والفعول والمعامرة والأبارون فكانوا يغنون به في رءوس النخيل وعلى سقي المياه" ويتميز هذا الفن بأن له وزنا واحدا "من بحر البسيط"، وكان لا يزيد ـ أول الأمر ـ عن بيتين، وله أربع قواف على روي واحد، أو بالأحرى أربعة أقفال بقافية واحدة. وقد قفوا شطر كل بيت بقافية منها وسموا الأربعة "صوتا" مما يؤكد أن هذا الفن، كان منذ نشأته الأولى أغنية من أغاني العمل. وتضيف المصادر التاريخية والأدبية أن العبيد والزنوج و"الفعلة" والبنائين والفلاحين وأشباههم من العمال كانوا يقولون في آخر كل صوت مع الترنم "يا مواليا" إشارة إلى سادتهم. ومن هنا عرف هذا الفن باسم "المواليا" وقد توحي عبارة "يا مواليا" في هذه المصادر بتمجيد هؤلاء السادة، كما ذهب بعض الباحثين إلى ذلك، والعكس هو الصحيح، فالمتأمل لمضامين النصوص المبكرة التي وصلتنا يراها تشي بالأسى الدفين والحزن العميق، والألم الممض الذي يعتمل في نفوس مبدعيه، وتفصح في الوقت نفسه عن رغبة كامنة في مواساة الذات بحثا عن العزاء، وحثا لها على الصبر والسلوان، ومن هنا لا غرو ان يكون هذا الفن منذ نشأته الأولى هو فن الشكوى الذاتية، تبوح بها العامة تعبيرا عما يقع عليها من ظلم "السادة" وتجبر "الموالي" ومعظمهم آنذاك من الفرس أصحاب الإقطاعات، أو تعبيرا عما يحيق بهؤلاء العامة من غدر الزمان وغِيرَ الأيام أو تنكر الأحبة وجحود الآخرين، أو عما يضطرم في الحنايا من لواعج الشوق ودواعي الحرمان وأسباب الشقاء، وكأية أغنية من أغاني العمل ـ على اختلاف أشكالها ـ كان هذا الفن ينعش "النفوس الكليلة"، ويعينها على تحمل الصعاب، ويدفعها ـ أثناء العمل المضني الشاق إلى احتماله، والصبر على أدائه.

وهو أمر يذكرنا بفن آخر من فنون الشعر الشعبي، قريب جدا من فن الموال الرباعي في شكله ومضامينه ووظائفه، هو فن "الأبوذية"، وقد سمي بهذا الأسم لأن المبدع الشعبي ـ أول الأمر ـ كان يجد فيه، وبه، وسيلة تعبيرية أو متنفسا للشكوى من ظلم السادة الجدد "الأتراك" الذين كانوا في نظر العامة منبع "الأذى" الذي حاق بهم إبان الحكم العثماني، مثلما كانوا أيضا مصدر تعاستهم وشقائهم، وسبب عبوديتهم "ومن هنا عرف هذا الفن أيضا باسم العبودي، نسبة إلى عبودية الأرض إبان حكم العثمانيين، وليس إلى حسين العبادي أشهر ناظميه في بلاد الرافدين، كما هو الرأي الشائع"، وهو ما يمكن قوله أيضا عن "فن العتابا" الشائع في العراق والشام، وقد سمي بهذا الاسم من معانيه الزمن، والزمن عند العامة اصطلاح تختزل به كل ضروب القهر التي تواجهه، يعجز عن التصريح بها، كالاستعباد السياسي والطغيان العسكري وفقدان الأمن الداخلي، فضلا عن قواهر المرض والفقر والعوز والحاجة. مما يعني أن هذا الفن، فن المواليا ونظائره في أخص خصائصه الوظيفية، ليس إلا صرخة احتجاج يطلقها المبدع الشعبي ضد كل قوى الظلم والعبودية وضد كل ضروب القهر والأذى.

من الاجتماعي إلى اللغوي

إذا تجاوزنا التفسير الاجتماعي السابق إلى التفسير اللغوي ـ الدلالي، فإنه ليس محض مصادفة أن تكون كلمة مولى وجمعها "موالي" تعني في اللغة العربية: السيد المالك والعبد التابع معا، وشتان بين السيادة والعبودية.. ولعل في هذا التضاد ما يفسر لنا سبب تسمية هذا الفن بالمواليا، ولماذا كان الموالي من العبيد يرددون عقب كل مقطوعة "وامواليا" تحسرا على حالهم وتفجعا على ما يعانونه من ضروب القهر والعبودية والحرمان، وعلى ما هم فيه من شقاء وتعاسة، ومن ذل وامتهان.. ومن ثم فالمصطلح "وامواليا" مكون لغويا ودلاليا من "وا" حرف نداء للندبة، وهي نداء المتفجع عليه أو المتوجع منه، ومن كلمة "موالي" بصيغة الجمع الدالة هنا على طبقة بعينها هي المتفجع عليها ومن "الألف الزائدة" في نهايتها للإشباع وتأكيد الندبة.

شاءت الأقدار اللغوية ـ إذا صح هذا التعبير عن لغتنا الجميلة ـ أن يأتي التفسير اللغوي لمصطلح "مواليا" مطابقا ومؤيدا للتفسير الاجتماعي السابق الذي ينسب تسمية هذا الفن إلى مبدعيه الأوائل من الموالي العبيد، إذ تطالعنا من بين مشتقات الجذر اللغوي "و ل ي" صيغة اسم الفاعل "موالي" من الفعل والى ولاء وموالاة، يقال والى الشيء إذا تابعه واقتفى أثره، وميزه، والموالاة هي التبعية والاقتفاء، فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن السمة الفنية الفارقة لفن "المواليا" تقوم على تبعية أو موالاة القوافي الأربع بعضها بعضا، أي تكرارها وتجانسها "لفظا في كل شطر من الأشطر الأربعة، أو على الأقل تكرار بعض حروف القوافي السابقة على حرف الروي لتكون ردفا له، أدركنا مدى وجاهة التفسير اللغوي "موالي" ومدى مطابقته للتفسير الاجتماعي "موالي" ومدى ما بينهما من "جناس".

وبمقدورنا أن نمضي قدما فنجمع بين التفسيرين: الاجتماعي واللغوي لنصل إلى التعريف الفني أو الاصطلاحي لفن المواليا "قبل أن تحرفه العامة إلى موال" فإذا هو مصطلح أدبي يشير إلى فن من فنون الشعر الشعبي كان يتغنى به ـ أول الأمر ـ الموالي من العبيد، وسمته المميزة موالاة القوافي بعضها بعضا، على أساس من لعبة الجناس البديعية.

فن الموال بين الفصحى والعامية

بعد ذلك أي في أواخر القرن الثاني الهجري، تسلم هذا الفن أو النمط الغنائي الطبقة العاملة من أهل بغداد أو البغاددة، على حد تعبير الشاعر المعروف صفي الدين الحلي "ت 750 هـ" صاحب أقدم كتاب ـ وصلنا ـ يتناول فنون الشعر الشعبي العربي، أو "الملحون" كما كانت تسمى في عصره "الملحون هنا صفة تعني لغة أنه شعر غير معرب، كما تعني ـ إيقاعا ـ أنه شعر مغنى" هذا الكتاب هو "العاطل الحالي والمرخص الغالي".

وعلى الرغم من أن الأصل في المواليا هو الإعراب كالشعر القريض، إن عامة البغاددة منذ تسلموا هذا الفن حتى بادروا "فلطفوه ونقحوه وشرعوا يرققونه ويدقونه" ـ على حد تعبير الصفي ـ ومن ثم حذفوا الإعراب منه، واعتمدوا على سهولة اللفظ ورشاقة المعنى، ونظموا فيه "الجد والهزل والرقيق والجزل"، حتى عرف بهم دون مخترعيه، ونسب إليهم وليسوا بمبتدعيه، ثم شاع في الأمصار وتداوله في الأسفار، على حد قول الصفي أيضا، ثم تعددت أشكاله الفنية وتنوعت أغراضه الموضوعية "الغزل ـ الوصف ـ الشكوى ـ العتاب ـ النجوى ـ المقاومة ـ الرثاء ـ الحكمة ـ التأملات ـ والنصائح والوعظيات.. الخ".

الموال المربع:

غير أنه ذاع بعد ذلك باسم فن المربع منذ العصر المملوكي:

ألا قم بنا أيها الساقي فناجينا
واشرب من القهوة الشقرا فناجينا
نحن الذي إن دعا داعي الفناجينا
وفي الحمى إن تسل عنا فناجينا

غير أن اللهجات الدارجة سرعان ما أصبحت هي اللغة الأثيرة في إبداع الموال أو كما يقول الصفي أصبح "اللحن فيه أحسن وأليق" عند العامة والخاصة على السواء.

ومن نماذجه التراثية القديمة:

ياما بنوح عليك يا حلو وبناني
لو كنت زغلول بنيت لك برج وبناني
والبين قد هدني يا حلو وبناني
ومن دموعي خضبت الكف وبناني

عبقرية الأداء والمؤدي

الموال ـ غناء ـ ليس قائما على الكلمة الجيدة واللحن المناسب والصوت المؤدي.. فحسب.. ولكنه إضافة إلى ذلك يقوم، في أدائه وفي تذوقه، على ما يسمى باللغة الجسدية للمؤدي.. هنا تكمن عبقرية الأداء ومن خلال هذه اللغة يتحقق الشرح والتفسير لضروب الجناس ومعانيه التي يقوم عليها الموال/الكلمة.. مثال ذلك نرى المؤدي الشعبي، وهو يؤدي الموال الرباعي السابق ـ على سبيل المثال ـ عند أداء كلمة "بناني" الأولى يلونها بصوت كالأنين، وفي كلمة "بناني" الثانية يرسم بيده شكل بنية الحمام، وفي كلمة "بناني" الثالثة يشير بيده إلى البناء، وقد سبقها كلمة الهدد، وفي كلمة "بناني" الرابعة يشير إلى أصابع اليد، فضلا عن تعبيرات الوجه المصاحبة للتلوين الصوتي والحركي مع كل قافية.. وهذا يعني أن لغة الجسد في أداء الموال عنصر حيوي من عناصر الأداء، يسهم في التعبير عن المعنى وتجسيد المجاز والإفصاح عن البديع الكامن فيه، سواء في أدائه الشفاهي ـ بغير لحن ـ أو في أدائه الغنائي الملحون، وبقدر براعة المؤدي ـ في التعبيرين ـ اللساني والجسدي تكون شهرته في المجتمع الشعبي، خاصة إذا كان من المؤدين أو المبدعين المرتجلين "فالموال يبقى فنا من فنون الارتجال".. هنا تكون قمة الإبهار في الأداء، جماليا وفكريا.

الموال الخماسي:

غير أن ذيوع هذا الفن "فن المربع" أو المربوع كما يسمى في الكويت وانتشاره بين العامة والخاصة، قد دفع المبدع الشعبي ـ ذلك العبقري المجهول ـ إلى تطوير أدواته وأشكاله الفنية، فظهر الشكل الخماسي أو المخمس "الأعرج" ويتألف من خمس شطرات أربع منها اتحدت في قوافيها، هي الأولى والثانية والثالثة والخامسة، على حين انفردت الشطرة الرابعة أو حادت أو "عرجت" إلى قافية مغايرة في رويها لسائر القوافي فبدت وكأنها "عرجاء" بين الأسوياء على نحو ما نرى في هذا النموذج التراثي القديم:

عيونك السمر تسبينا حواجبها
ووجهك البدر مثلك ما حوى جبها
والشمس من حسنك توارت حواجبها
وكلما أطلب وصالك يا مليك الغيد
من دولة الحسن تمنعني حواجبها

الموال السباعي

ثم ظهر الشكل السباعي "السبعاوي" ويتكون من سبع شطرات، كل ثلاث منها تشكل مجموعة مشتركة أو متفقة أو متجانسة في قوافيها "عتبة + ردفة" أما الشطرة السابعة فترجع إلى قافية المجموعة الأولى، وتشترك معها في حرف الروي، وتسمى الغطاء أو الرباط لأنها تربط الموال كله في وحدة واحدة، ومن هنا عرف أيضا هذا الفن أو الشكل السباعي باسم "فن المربوط" في مصر مثال ذلك:

الأهيف اللي بسيف اللحظ جارحنا عتبة
بيده سقانا الطلا ليلة وجارحنا
رمش رمى سهم قطع به جوارحنا
آه على لوعتي في الحب يا وعدي ردفة)
وهجره كواني وصيرني عليل واعدي
يا خل واصل ووافي بالمنى وعدي
من حر هجرك ومن نار الجوى رحنا الرباط، الغطاء

وعلى الرغم من ظهور أشكال أخرى يزيد عدد شطراتها عن ذلك، فقد ظل هذا الشكل السباعي أكثرها ذيوعا وخاصة في الكويت ومنطقة الخليج. وإن تعددت أسماؤه أو اصطلاحاته بتعدد البيئات العربية، فهو الموال النعماني تارة، والزهيري تارة أخرى، وفن المربوط، تارة ثالثة.

الزهيري .. المصطلح والمفهوم

ليس صحيحا ـ فيما أعتقد ـ ما ذهب إليه معظم الباحثين من أن هذا الشكل السباعي للموال، نقد سمي ـ في الكويت ودول الخليج العربية ـ بفن الزهيري "والجمع: زهيريات" نسبة إلى شاعر حديث اشتهر بنظم هذا اللون من الشعر، اسمه ملا جادر الزهيري من عشيرة الزهيرات المنتشرة في ربوع العراق، ولاسيما في قرية الزهيرات التي تنسب إليهم. ويعود رفضي لهذا التعليل ـ على الرغم من ذيوعه ووجاهته للوهلة الأولى ـ لعدة أسباب: ليس لأن الشاعر ملا جادر الزهيري فنان حديث "عاش في القرن التاسع عشر الميلادي" فحسب، بل لأن المجتمع الشعبي نفسه ليس من طبيعته الاحتفاء باسم المبدع الفرد أساسا مهما كانت عبقريته ـ كما سبق أن ذكرت ـ خاصة في الماضي، حين كان الأدب الشعبي ـ آنذاك ـ يعتمد في ذيوعه وانتشاره على التداول الشفاهي بين الجماعة، فضلا عن أن فنون الأدب الشعبي ـ على اختلاف أنماطها وتنوعها ـ لم يحدث قط أن استمدت اصطلاحاتها الفنية من أسماء مبدعيها الأوائل أيا كانوا "فالأمثال والأغاني، والحكايات، والأساطير، والسير والملاحم الشعبية، والنوادر، والغطاوي أو الأحاجي والألغاز، والمعاظلات اللسانية، والأشعار الشعبية على اختلاف أشكالها، كلها اصطلاحات فنية شائعة بين العامة، ولم يقل ـ أو يقم ـ أحد بنسبة أي منها إلى مبدع بعينه". ومن الجدير بالذكر أن هذا الموال السباعي "سبعة أشطر" يعرف أيضا باسم الموال النعماني، فهل كان ذلك نسبة إلى مبدع آخر اسمه النعمان؟ هذا ما لم يقل به أحد من الباحثين أيضا، إذن فمن أين جاء هذا المصطلح "الزهيري" وما تفسيره؟

إذا كان المجتمع الشعبي في الكويت قد نسي مصدر أو معنى هذا المصطلح "العامي" بمرور الأيام، حتى نشأ هذا الخلاف بين الباحثين في تفسيره، فمن حسن الحظ أن كاتب هذه السطور إبان إعداده لرسالة الدكتوراه في السير الشعبية كان يستمع ـ في قريته ـ إلى أحد رواة السير المشهورين، وفجأة وقف أحد المستمعين من كبار السن قائلا لهذا الراوي: "أزهر" فاستجاب له، وراح ينشد بعض المواويل، ريثما يستريح جمهور المستمعين أو يلتقطون أنفاسهم قليلا ـ بعد هذه المعارك الضارية التي تتحدث عنها سير البطولة الشعبية ـ ثم تصاف أيضا لكاتب هذه السطور، أن كان ذات مرة يسجل بعض المواويل لأحد الرواة، بحضور أحد أقاربه الذي كان يستحث الراوية على أن يكون الموال مزهرا فلما استفسرت عن مقصوده بالزهر شرح لي شيئا قريبا جدا من المفهوم البلاغي للجناس.. ومعنى هذا ـ بغير إطالة ـ أن بعض عشاق هذا الفن ـ من كبار السن ـ في البيئة المصرية كانوا يرددون ـ حتى وقت قريب ـ بعض الاصطلاحات أو المفردات المشتقة القريبة من مصطلح زهيري "تصغير زهرة ـ ياء النسبة، كما سنرى وشيكا". وكان "الزهر" عند العامة مصطلحا عاميا مرادفا لمصطلح "الجناس" المعروف بلاغيا، وأن "التزهير" في عرفهم مرادف "للتجنيس".

الموال المزهر "الأحمر"

يرى العامة ـ جمهور المستهلكين ـ أن الموال "المزهر" أو "الأحمر" هو الذي يقوم على الجناس التام أو الحقيقي "تكرار اللفظ واختلاف المعنى" وأن الموال غير المزهر أو الأبيض هو الذي يقوم على الجناس اللفظي أو غير الحقيقي، أي الذي يعني بتكرار اللفظ وحده دون اختلاف المعنى "من الطريف أن بعض الباحثين يقول إن الموال الأحمر هو الموال المأساوي، والأبيض عكس ذلك، وهذا غير صحيح، فالنبرة السائدة في فن الموال ـ أيا كان شكله ـ هي النبرة الحزينة أو المأساوية" إن الموال الأحمر، أو الأصيل، هو هذا الذي حمل الزهر ـ هذا المصطلح العامي المرادف للجناس ـ كما ذكرت ـ فتتفق قوافيه لفظا وتختلف معنى، وهو أمر كان ـ ولا يزال ـ يبهر العامة ـ حقا ـ ويدهشهم ـ فنيا وجماليا ـ إذ كان يستهويهم أن تزهر الكلمة أو اللفظة الواحدة "القفل" في نهاية كل شطر معنى جديدا يختلف من شطر أو غصن إلى آخر. أما الموال "الأبيض" فهو الذي تأتي قوافيه خالية من التزهير "فتأتي متجانسة أي متشابهة لفظا فقط، من دون أن تزهر معنى جديدا أو مغايرا لما قبلها" ومن هنا كانت مثل هذه القوافي اللفظية وحدها، تفتقد إلى سحر "الفن" الذي نلمسه في قوافي الموال الأحمر التي تقتضي من المبدع الشعبي ـ بغير شك ـ براعة أكبر ومهارة فائقة في الصنعة اللغوية والفنية. وهذا يعني أن الموال المثالي هو الموال المزهر لفظا ومعنى، حيث التزهير هنا كالجناس، تفريع معنوى "تبعا للسياق" على منطوق التشابه اللفظي للقوافي، كليا أو جزئيا. ومن الجدير بالذكر أن الجذر اللغوي للتزهير يؤكد هذا المعنى، فهو من الزهر والجمع زهور حيث يتشابه الشكل وتختلف الرائحة.

نموذج للتزهير المثالي:

ولو أخذنا قوافي النموذج السباعي الذي ذكرناه في نهاية الفقرة الخامسة، لوجدناها "تزهر" في كل مرة معنى جديدا مغايرا لما قبله، برغم تشابه القوافي كليا أو جزئيا في ملفوظها أو منطوقها "فالعبرة هنا بالأداء الشفاهي للقوافي لا رسمها الكتابي" حيث يقف المستمعون عند القافية المتجانسة، ولاسيما الأولى ويشرعون "يزهرونها" أي ينبتونها بالتساؤل والتفسير و"التأويل"، كما ينبتون "الزهرة" بقصد فهم المعنى الدقيق والمقصود الذي أراده الشاعر، فإذا فرعت المعنى ـ تبعا للسياق وأسلوب الأداء ـ عرفوا نوعها والمراد منها، ولا بأس من شرح قوافي النموذج السباعي السابق فإذا هي تزهر على النحو التالي:

جارحنا: جارحنا "من الجرح".

جارحنا: جاء ريحنا "بجانبنا".

جوارحنا : من الجوارح.

وعدي: "من الوعد بمعنى النصيب والقسمة قدري".

واعدي: من العدوى.

وعدي: من المواعدة، أي زمان الوعد ومكانه.

الجوى رحنا: الجوى: الحزن، رحنا: ذهبنا هباء أو ضحية الحزن.

تتجلى براعة الشاعر الشعبي في الكويت والخليج، ويتجلى "فنه" الزهيري في القدرة على "تزهير" قوافي مواله تزهيراً حقيقياً ـ لا شكليا، أي تجنيسها تجنيساً حقيقياً، فتعطي ـ من ثم ـ معنى جديدا مغايراً في كل مرة.

ولنأخذ أيضا ـ في هذا المقام ـ نموذجين من التراث الشعبي في المنطقة، أحدهما خليجي لشاعر مجهول لكنه ذائع في الكويت:

لقيت الظبي يرتمي في قفرة الوسمي
ريم الفلا هيت لا قيد ولا وسمي
أخاف أنزل يحل بداركم وسمي
إن قلت باشوم عنها خاطري ما برى
جرح تنقض ومن بعد التنقض برى
لا نزل قبالك وابني لك قصور وبرى
واكتب على الباب حرفين: اسمكم واسمي

والنموذج الآخر من إبداع عبدالله الدويش ـ شاعر الزهيريات الأول في الكويت ـ مما ورد في ديوانه الأخير:

ما حد بدنياه سالم من عناه امحال
لابد تسقيه من كاس الكدر بمحال
كم وادي سال سيله والبطاح امحال
مالي ومال الزمن يا صاحبي والناس
وانا بطربانها اسهرت ليلى وناس
اشبعت نفسي بطرب والهم عني ناس
واليوم اشوف الربيع ايبس وصار امحال

فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن قافية الشطرة الأولى "ومثلها الرابعة أيضا" هي بمثابة "زهيرة" جنينية في بناء الموال "لغويا تصغير زهرة" يتبعها النماء تدريجيا "عن طريق التفريع أو التنويع المعنوي عليها، تبعا للسياق في سائر القوافي" حتى تكتمل الزهيرية ـ تعبيرا وفكرة ـ ويتكامل معها سحر هذا الفن، أدركنا إلى أي مدى تتجلى عبقرية المبدع الشعبي في اختيار هذه الزهيرة الجنينية، وأدركنا لماذا نسب إليها المجتمع الشعبي ـ في منطقة الخليج ـ هذا الفن، بل سماه باسمها فقال "فن الزهيري" أو الزهيريات، بدلا من الموال، باعتبارها صفة له "ثم حذف الموصوف وتحولت الصفة إلى اسم". وأيا كان الرأي في هذا التفسير الذي ذهبنا إليه فإنه بانتهاء الشطرة السابعة والأخيرة "الرباط أو الغطاء" ينتهي الموال أو يكون قد وصل ذروته ـ معنويا وفنيا ـ ففيها يستكمل الشاعر فكرته وغايته، وفيها "تتفتح" جماليات هذا الفن، وتتجلى عبقرية المبدع الشعبي في التزهير أو التجنيس، وهو أمر ليس بالهين أو اليسير عليه، إذ إنه هنا ملتزم بقالب ثابت "مكون من سبعة أشطر في الزهيريات" وعليه أن يبث خلالها فكرته أو رسالته كاملة غير منقوصة. ومن هنا يمكن القول إن بنية الموال بنية مغلقة، ولهذا لا غرو أن يعمد الشاعر أحيانا إلى أن يجعل سبيله إلى بلوغ الذروة في الشطرة السابعة، أن تكون "مثلا شعبيا" ذائعا، يفيض بالحكمة والتأمل ويشع بالفكرة المحورية للموال، ويكون بمثابة "لحظة التنوير" مثال ذلك هذه الزهيرية للدويش نفسه:

خل جفا عشرتك إشلك تبي قربه
ترك هوى صحبته وبعد مدى قربه
لو كنت ظميان لا تشرب مصب قربه
خلك بعيد ولا لك في هواه اقراب
لو هلهت لك سجايا من لماه اقراب
لا ترتجي مودته لوهي تهل اقراب
"من عاف لا ماك لا تندم على قربه"

وظائف الموال الزهيري:

ثمة مثل شعبي ذائع يشير إلى وظائف الموال، يقول "أقل موال ينزه صاحبه" أي يمتعه فكريا وروحيا، نفسيا وجماليا. وهذا يعني أن الموال أو الزهيري ـ باعتباره شكلا غنائيا من أغاني العمل ـ يؤدي وظائف حيوية في المجتمع الشعبي العربي، منها وظيفتان أساسيتان في المجتمع الكويتي ـ قبل النفط ـ إحداهما وظيفة عملية أثناء العمل على ظهر السفينة، حين كان النهام أو المنشد الشعبي البحري يؤدي الزهيري أداء محددا بألحان "الياهي، الغريري، الراكد، المحرقي" تشاركه "الردادة" أو البحارة أثناء قيامهم بأعمال التجديف، ومعروف أن نغمة هذه الأنواع تسمى "اليامال"، وهي كلمة تذكرنا بالمنشأ الأول للموال عندما كان يردد العمال بي بساتين واسطة كلمة "وامواليا".

والوظيفة الأخرى ترفيهية، حيث كان الزهيري يؤدى أثناء راحة البحارة على ألحان "المخالف، الحدادي، الفجري، العدساني "وبمصاحبة آلات الإيقاع المعروفة كالطبل والطار، واليحلة "الوعاء الفخاري المعروف بايقاعه الغليظ" متحديا هدير البحر الصاخب.

ولكن الزهيري، في الحالين، عمليا وترفيهيا، ظل تعبيراً فنيا صادقا عن ضروب المعاناة وشكوى الحال، وقسوة العيش وصعوبة الحياة، وغربة النوى وغدر الزمان، وجحود الخلان، على نحو ما نرى في هذه الزهيرية المجهولة القائل:

زاد العنا بالضمير وما شفت راحلي
والهم بحشاي نساني اللي راح لي
يوم شفت عيسهم يوم النوى راحلي
ناديت يا جيرتي ابكم غرامي وفي
وعلى ثوب المذلة من جفاكم وفي
بالله سيروا على مسراي ياهل الوفى
لأني ضعيف وضالع بينكم راحلي

مثلما يحمل كل معاني الفراق ولوعة الهجر وكل معاني الشوق والحنين:

وادعتكم بالسلامة يا ضوا عيني
وخلافكم ما غمض جفني على عيني
واعدتني في الوعد لمن جفت عيني
خليتني يا سيدي جسم بليا روح
جد فر العقل مني وظل الجسم مطروح
كل العرب هودت وأنا شقى الروح
يا نور عيني! مثل ما أرعاك راعيني

ولكنه ـ الموال الزهيري ـ يظل دوما ـ برغم كل شيء ـ يدعو إلى الاعتزاز بالنفس وتأكيد الذات، ويحث على الصبر ويبث الأمل، ويتغنى بالحب ويحلم بالخلاص وتحقيق العدل.. إلى غير ذلك من القيم والمعاني الإنسانية والأحاسيس المرهفة والعواطف النبيلة السامية التي يعيها جيدا الكويتيون والخليجيون الذين عملوا في السفر والغوص قديما.

الزهيريات.. اليوم

بالرغم من انتهاء عصر الغوص والسفر ـ إثر ظهور الثروة النفطية ـ فإن فن الزهيري، لا يزال حيا نابضا في وجدان المجتمع الشعبي في الكويت والخليج، حتى اليوم، ومن ثم فقد بادر بعض عشاق هذا الفن بجمعه وتدوينه.. قبل أن تتهدده براثن الزمن، شأنه في ذلك شأن سائر فنون التراث الشعبي "البحري خاصة" في المنطقة. في الوقت نفسه شرع بعض المبدعين من الشعراء الشعبيين في معالجة بعض القضايا والمشكلات المعاصرة، وعلى رأسها الواقع السياسي والاجتماعي وما طرأ عليه من تغيرات جذرية في حياة المجتمع العربي المعاصر ـ بعد ظهور النفط ـ مثال ذلك هذه الزهيرية للشاعر عبدالله الدويش:

الوقت مظلم وتراكم بالفيافي غيم
والروض ممطور من وبل الحيا والغيم
لاشك دار الشمال وزاح ذاك الغيم
والجو: زالت غيوم عقب ذاك المطر
وأضحى هملنا بلا مرعى ولا له مطر
صرنا سواة الذي في الضيم حبيبه مطر
ودي أتكلم لاشك في سمانا غيم!

غير أنه بموت الدويش منذ ثلاث سنوات، وقد لحق به الشاعر المعروف عبدالرحمن الضويحي ـ في العام الماضي ـ يكون قد انتهى جيل المخضرمين من كبار الشعراء الشعبيين في الكويت.

 

محمد رجب النجار