مهمة جليلة لمجمع اللغة

مهمة جليلة لمجمع اللغة

الايام التي انفقها في كل عام بين علماء اللغة العربية، هي أيام ربيعية ذلك أن أولئك العلماء الأعلام، لا هم لهم إلا إثراء اللغة العربية، وإغناءها بما ينقلون إليها من مئات المفردات، في مختلف العلوم والفنون، وكان الحوار يجري بين أولئك الفضلاء حول استساغة المفردة، وانطباقها على المعنى المراد إليه، بعد نقلها إلى اللغة العربية ومعنى هذا أن المشاركين في هذا النشاط هم من المتخصصين في الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء وعلوم التكنولوجيا.. وما إلى ذلك من العلوم المستجدة، أما الحوار الذي يدور حول هذه المفردة أو تلك، فهو حوار هادىء، يقصد من ورائه الوصول، إلى ما فيه كل نفع للغة القرآن.

وأنت حين تتأمل في هذا النشاط يتضح لك (ان اللغة العربية أرقى اللغات السامية، كما يقرر دارسو تلك اللغات، فلا تعادلها اللغة الآرامية ولا العبرية، ولا غيرهما من هذا الفرع السامي، وهي كذلك من أرقى لغات العالم، فهي تمتاز حتى عن اللغات الآرية بكثرة مرونتها وسعة اشتقاقها، أنقل هذا عن المرحوم أحمد أمين، وهو عالم متثبت بعيد عن التعصب.

ويكفي الاستدلال على ما أشرنا إليه، أن اللغة العربية استقبلت الثقافة الفارسية واليونانية والهندية بكل قوة في أواخر القرن الثاني للهجرة ويعود سبب قوة اللغة العربية إلى أنها لغة مرنة، من صفاتها الاشتقاق والمجاز، والنحت والتوليد والإبدال، وهذه الصفات تعطي مفردات اللغة العربية توسعا في معاني الكلمة، الأمر الذي يساعد الناقل إلى هذه اللغة مساعدة تامة، وبهذا استطاعت اللغة أن تتقبل الفاظا جديدة أكثر من أن تحصى في مختلف العلوم والفنون، فقد استطاعت أن تقبل مثلا هندسة اقليدس وبطليموس وفلسفات أرسطو وأفلاطون وسقراط، في العصور العباسية، كما استطاعت أن تتقبل ألفاظا لا تحصى من مختلف العلوم والفنون النظرية والتطبيقية في هذه الأيام، وهذه مهمة عظمى تقوم بها مجامع اللغة العربية على أن هذه الأعمال الجليلة لا تتحقق إلا بعد أن يبذل أعضاء مجامع اللغة العربية جهودا مضنية مشكورة، ويعد هذا النشاط من قبل العلماء تعزيزا لا يستغنى عنه للغة القرآن، ولابد لي من أن أشير إلى أن أعضاء مجامع اللغة العربية يعملون طوال العام، ثم يأتون بحصيلة أعمالهم، إلى الأعضاء في المؤتمر السنوي ليدققوا ما توصل إليه أولئك العلماء من أفكار وآراء حول الألفاظ الجديدة، التي تنهال على اللغة العربية من مختلف البلاد المتحضرة والمتعلقة بالمخترعات والمكتشفات الجديدة.

جهود أعضاء المجمع

وأرى أن من حق أولئك العلماء الأفاضل أن أشير إلى شيء قليل من جهودهم في إثراء اللغة وإغنائها، فقد رأى أعضاء المجمع أن ينحتوا من لفظة (الاجازة) المستعملة بكثرة بالنسبة للموظفين وغيرهم في هذه الأيام.

1 ـ يقولون في اللسان الدارج: (أجَّزَ) فلان أي قام بإجازة، وهو (مُؤَجِّز) أي هو في فترة الاجازة.

والفعل (أجَّزَ) بلفظه وما اشتُقَّ منه: (تأجيز ـ مُؤَجَّز) غير وارد في المعجمات، وهو ـ في رأينا ـ مولد من المصدر (إجازة) الذي يطلق الآن ـ على سبيل الاتساع ـ على الفترة المسموح بها للانقطاع عن العمل للراحة أو لأى سبب آخر.

وجاء التوليد على وزن قياسي هو (فعَّلَ) الدال في عمومه على القيام بالشيء مثل: (كَرَّمَ) أي قام بالتكريم.

ويتضح لمن يتعمق في هذا القرار أن أعضاء المجمع أبعد ما يكونون عن الجمود، فهم لا يحصرون أخذهم عن المعاجم وحدها، وإنما يشاركون الناس في حياتهم الواقعية، حيث إن لفظة (الإجازة) لااستغناء للناس عنها، لأنها مستمدة من حياتهم، لذلك لم يهتموا بعدم وجود هذه اللفظة في المعاجم القديمة، وستصبح لفظة معجمية، حين يصدر المعجم الكبير الذي طبع منه أربعة أجزاء.

2 ـ وستأتي ألفاظ سلك أعضاء المجمع فيها هذا السبيل، من ذلك لفظة (الدَّوْخَةَ)، التي تعني: الدُّوَار، وهي لا توجد في المعاجم، وإن أشار إليها ابن منظور إشارة بسيطة، لكن أعضاء المجمع أقروها لكثرة استعمالها بين الناس.

3 ـ ( تَرْميد ):

أصدر المجتمع قرارا يجيز هذه اللفظة بمعنى: حرْق الشيء وتحويله إلى رماد، لينتفع به في تسميد الأرض وإخصابها أو غير ذلك من التوظيف النافع. ولو أردت أن أورد ما جدده المجمعيون من ألفاظ في اللغة العربية، لثقل ذلك على القارىء ولطال بنا المقام، فقد جددت مجامع اللغة العربية، مفردات كثيرة شملت جميع النشاط الإنساني في الحياة المعاصرة، حيث ترى للمجامع تجديدا في الجغرافيا والجيولوجيا والهندسة وغيرها من العلوم، وقد أصدر المجمع عددا كبيرا من المعاجم يتناول نشاط الناس في حياتهم المعاصرة.

وأني لا آمل بأني قد رسمت صورة بسيطة لأعمال مجامع اللغة العربية، وليس من شك في أن للمجمع القاهري يداً طولا في إثراء اللغة.

وأرى من واجبي أن أشير إلى أمرين، أحدهما أن لكل أمة من الأمم، أكثر من مجمع يصون لغتها ويحفظها من الضياع، وأن لهذه المجامع مكانة رفيعة عند الأمم المتحضرة، لأن لغة كل أمة وعاء لثقافتها، وهي ركن، بل هي عماد حياتها، الذي تعتمد عليه، لان ضياع اللغة يعني ضياع الأمة، لكن المؤلم حقا، الا تنال مجامع اللغة العربية ما تستحق من تقدير، بدليل ما نسمعه أو نقرأه في بعض الصحف من حين إلى حين، من تجن على حصون اللغة العربية، يتجلى في السخرية من علماء المجمع، لاعتقاد الجهلاء المتجنين بأن عمل المجمعيين لا يقدم ولا يؤخر.

دماء جديدة

وإن كانت لي أمنية بهذه المناسبة، فإني أتمنى أن يطعم المجمع، بدماء جديدة عرف أصحابها بالتفقه في اللغة العربية، وهم كثيرون بحمد الله في مصر والبلاد العربية، كما أقترح أن تكون المحاضرات التي تلقى في المجمع أغنى مما هي عليه، فإن أكثر أعضاء المجمع، لا يجدون إلا قليلاً من المتعة فيها، لأن مضمون أغلب تلك المحاضرات يعالج قضايا، لا صلة لها بالواقع، كحديث المحاضر كثيرا عن نفسه. وعلى كل حال فإن ما ذكرته مجرد رأي شخصي ويحسن بنا أن نتذكر أن اللغة العربية، قد تعرضت لكثير من الكوارث التي لو تعرض له غيرها من اللغات لضعفت واستكانت، لكن اللغة العربية ثبتت، بفضل القرآن الكريم الذي يتلوه المسلمون في صلواتهم في مشارق الأرض ومغاربها، كما يقتضي من فقهاء المسلمين وخطبائهم وكتابهم وشعرائهم، أن يقبلوا على كتاب الله العزيز تفسيرا على المنابر بعد الصلاة وقبلها، ويقال مثل ذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، وقد انبثق عن تفسير القرآن وعن تفسير السنة النبوية، عدة علوم كعلم التفسير وعلم الفقه وعلم الأصول وعلم النحو، وهذا هو الذي رسخ لغة القرآن وثبت قواعدها وحفظها وحماها من الاضمحلال. لقد ابتليت الأمة العربية بسيطرة الأتراك العثمانيين لمدة أربعة قرون، وكانت سيطرة تامة أدت إلى التدريس باللغة التركية، ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نتحدث عما قام به الأتراك من أعمال كان فيها أضعاف اللغة العربية، ويتفرع من ذلك ما فعلته سيطرة المماليك على مصر والشام، فقد كان حكام المماليك لا يقدرون الأدب العربي لأنهم لا يفهمون منه شيئا

ولقد أظل الناس زمن انحط الأدب العربي فأصبح أدباً لفظيا لا يعني بأي قضية إنسانية أو وجدانية وإنما يعني بالصناعة اللفظية التي لا غناء فيها، وبذلك أصبح الأدب العربي في القرن السادس وما يليه من القرون، أدبا أبعد ما يكون عن التعبير عما تعانيه الأمة العربية من انحطاط بالفكر والتعبير بلغة فصيحة صحيحة. وظلت الأمور على هذا الحال إلى أول هذا القرن فرأى الغيارى على هذه اللغة أن ينشئوا صرحا لتلافي هذه الأمور الخطيرة، فكان أن قرروا إنشاء مجمع اللغة العربية، يتألف أعضاؤه من العلماء الأعلام الذين لا يقر لهم قرار إلا إذا اجتمعوا اجتماعا منظما بقانون ليبذلوا كل ما في وسعهم في حماية اللغة العربية، وكان ذلك في سنة م. ولقد شارك في هذا المجمع قمم من العلماء والمفكرين واللغويين، ثم تطورت الأمور حتى ضم علماء يجيدون بعض اللغات الأجنبية، كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وغيرها من اللغات الحية، يعملون طوال السنة في تجديد اللغة العربية وإغنائها.. ولقد أصدر المجمع كتبا كثيرة في اللغة والتاريخ والحديث والفلسفة ومختلف العلوم، وبذلك أصبح المجمع أشعاعا للفكر، وحماية للغة العربية. أسأل الله تعالى أن يديم الازدهار لجميع مجامع اللغة العربية، وفي مقدمتها المجمع القاهري أبو المجامع وراعيها، الذي تحوطه الحكومات المصرية منذ إنشائه وما تزال تبذل مافي استطاعتها لرعايته وتكريم جميع أعضائه من المصريين وغير المصريين.

وقد رأيت أن يكون ختام هذه الكلمة، بعض أبيات من قصيدة شاعر النيل المرحوم حافظ إبراهيم، التي تصف قوة اللغة العربية ومكانتها:

وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدركامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني
ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
فيا ليتكم تأتون بال

 

عبدالرزاق البصير