فن المنمنمات الإسلامية

 فن المنمنمات الإسلامية

بقلم: الدكتورة زينات بيطار

ويعتبر الفنان التشكيلي محمد راسم الجزائري من الشخصيات المبدعة في المنمنمات الإسلامية حيث تعد منتجاته ومخطوطاته المذهبة آثارا فنية عالمية، ليس فقط كونها تعبيرا راقيا عن نتاج جمالي وروحي للحضارة الفنية الإسلامية المعاصرة، وإنما لما جمعته من أصالة في حفظ التراث الفني الإسلامي وتطويره. وقد استطاع الجزائري التوفيق بين التقاليد وروح العصر، سواء من حيث التقنية أو من حيث الموضوعات التي تطرق إليها.

تاريخ وتقليد:

والكلام عن الإبداع من فن المنمنمات الإسلامية لدى محمد راسم الجزائري يستوجب أولا تحديد فن المنمنمات بوصفه فنا إسلاميا تقليديا، عرف ظهوره في عدة مدارس وعلى مراحل: منها مدرسة الواسطي في بغداد ومدارس إيران، وآسيا الوسطى )بخاري سمرقند) ومدرسة الهند والمغرب العربي. والمنمنمة عبارة عن صورة تشكيلية تصغيرية، أي مصغرة النسب والأحجام والأشكال لما يتناسب وحجم صفحة الكتاب الموجودة فيه، وكانت المنمنمات عبارة عن صور إيضاحية لمضمون المخطوطة أو الكتاب، مهمتها تمثيل الفكرة بشكل مصغر وبالألوان. وقد تطور فن المنمنمات الإسلامية في بلاطات الخلفاء والسلاطين والأمراء. مرافقا لتطور العلوم والآداب والفنون. حيث كان فنان المنمنمات ينجز ويصور أفكار ومفاهيم صاحب الكتاب أوالمخطوطة، وكلاهما ـ أي الكاتب والفنان ـ يخضع كليا للبلاط. وقد نهبت مئات المخطوطات والكتب المزينة بالمنمنمات من بلاد الرافدين وبلاد الهلال الخصيب على دفعات من قبل الأوربيين منذ الحروب الصليبية وحتى القرن العشرين.

وحفظ فن المنمنمات الإسلامية لنا صور الحياة والبيئة والعادات والطقوس والتقاليد وأنماط السلوك والأعياد والأحداث التاريخية وطبيعة المناخ والعمارة والزي والفنون. باختصار إنه الفن الذي يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للبيئة الشرقية ـ الإسلامية. ويمثل منظومة الأفكار والعقائد. ومن خلاله نستطيع تحديد المسلمات الجمالية والأخلاقية الإسلامية نظرا للارتباط الديني والدنيوي فيها. وقد ارتبطت في فن المنمنمات الإسلامية صورة تقليدية للمرأة الشرقية بشتى وظائفها: وظيفة الأنثى (صور الرقص والغناء والموسيقى) وظيفة الأمومة، والمرأة العاملة (صور الحياة والبيئة). كما كرس فن المنمنمات صورة المرأة السرية المقدسة في الحرملك.

خصوبة التخيل

ينحدر محمد راسم من عائلة جزائرية عريقة بانتمائها للفنون الإسلامية التزيينية، حيث ورث الفن عن والده الذي برع بفن النحت والرقش والتصوير على الخشب والزجاج. وهو تقليد فني متعارف عليه في الجزائر لتزيين الجدران والإطارات والأبواب وصناديق العرائس والأسلحة وأدوات الزينة. وتلقى تعليمه الأول لهذه الحرفة على يد عمه وأخيه الأكبر )الذي اشتهر بتزيين الكتب الأدبية التقليدية في الجزائر) وقد لفت نظر المستعمرين الفرنسيين بإتقانه لفن التصوير التصغيري أي المنمنمات، لما تحلى به من خصب المخيلة ورفعة الذوق في تناسق الألوان ورهافة الحس التصويري والتعبيري. حتى طلبت منه شركة الطبع والنشر الفرنسية بيازا إنجاز كتاب حياة محمد الذي زينه الفنان الفرنسي أتيان ديني. بعد ذلك توجه محمد راسم إلى باريس ليعمل في قسم المخطوطات في المكتبة الوطنية، حيث حصل على منحة تعليم إلى إسبانيا مكنته من الإطلاع على المخطوطات والآثار الإسلامية في قرطبة وغرناطة وبعدها توجه إلى لندن حيث سمح له بالاطلاع على أشهر المخطوطات الايرانية بإشراف الأستاذ سيرذنيزن. ما بين الأعوام 1924 و1932، وانتخب لإنجاز صور كتاب ألف ليلة وليلة الضخم، لحساب دار مارون روس، وقد وضع في هذا العمل الفني الضخم عصارة عبقريته الفذة. وفيما بعد، أنجز كتاب خضراء لديني (وكتاب حديقة الورود) لسعدي و(السلطانة) لروز دوفال برثنيان وغيرها. منح عام 1932 جائزةالجزائر الفنية التي كانت تمنح عادة للفنانين الفرنسيين فقط. وفي العام نفسه عين أستاذا للفنون في الجزائر وأصبح يدرس فن المنمنمات بأسلوبه لأبناء وطنه، ومنذ ذلك الحين لمع نجمه في سماء الفن وباتت أعماله تعرض في متاحف باريس وفيينا وستوكهولم وكوبنهاجن وبوخارست وروما والقاهرة وانجلترا وفي عام 1955 انتخب عضوا فخريا في الشركة الفنية الملكية في انجلترا.

تقليد وتجديد

بقي محمد راسم في مجمل منمنماته محافظا على الطابع التزييني للشكل العام، وعلى شاعرية رفيعة تبرز في اختياره الدائم لعناصر الطبيعة الغناء (أزهار، نباتات، أشجار، أنهار، جبال) فلا تخلو صورة الشرق من ارتباط الإنسان ببيئته وطبيعته وهي نزعة رومانسية تميز الروح الشرقية. كما نلاحظ أن الاهتمام بمسألة الزخرفة والرقش والنقش في الملابس والعمارة المزينة بالفسيفساء والجدران المذهبة والقبب والقناطر المغطاة بالخطوط والحروف الهندسية الطابع، يرتبط عند محمد راسم بالمفهوم الإسلامي لعلم الجمال، حيث تسيطر الذهنية الهندسية الزخرفية ذات الألوان الحادة والمتنوعة والخطوط الرشيقة ذات الزخم الفني الميتولوجي. وقد اهتم راسم أيضا بنقل السحنة الأثنية الشرقية المحلية خاصة فيما يتعلق بمفهوم الجمال الشرقي للمرأة: الجسد الممتلىء الأرداف البارزة، الثدى النافر، الوجه المستدير كوجه البدر العيون المشروحة بالكحل، الفم المكتنز والشعر المخضب بالحناء والمزين بالورد واللالىء. أما الموضوعات التي عالجها فقد بقيت في إطار التقاليد الموروثة من القرون الوسطى والتي ازدهرت في فن المنمنمات في كل حقبة ومدارسه (العراقية، الإيرانية، التركية، الهندسية، ومدارس آسيا الوسطى) وأهم هذه الموضوعات: حفلات الرقص والغناء والأعراس والأسواق الشعبية والأعياد. إذ بقي محمد راسم مرتبطا بفن المنمنمات الإسلامية التقليدية من حيث الموضوعات المستقاة من الواقع الشرقي الإسلامي أي صور الحياة والبيئة والطبيعة والعادات والتقاليد والعمارة والزي والأخلاق والذوق الجمالي العام.

البعد الثالث

تمحورت إضافاته وتجديده في المهارة التشكيلية لبناء اللوحة العام. ومن أهم إنجازات محمد راسم كونه أدخل إلى فضاء المنمنمة الإسلامية البعد الثالث أي العمق وفقا لقواعد علم المنظور التي طبقها الأوربيون في فن التصوير منذ عصر النهضة. فالمنمنمة الإسلامية كانت تعتمد مبدأ التسطيح في بناء الحدث، من أعلى إلى أسفل أو بالعكس أو من يمين الصورة إلى يسارها وبالعكس وأحيانا على شكل حلزوني.

وكان الخط يلعب الدور الأساسي في تشكيل الصورة والطابع المرئي لها، وهو مرتبط بفن الأرابسك أو الخطوط المتشعبة المتفرعة. وكان فنان المنمنمات يعمل إما بحبر أسود أو أحمر وبعد أن يجف يملأ الساحة ما بين الخطوط بألوان كثيفة ولزجة ينتظرها حتى تجف ليزين إطارها بالزخارف والتطريز المذهب.

أما محمد راسم فيبدو أنه استفاد من تجربة وجوده في أوربا حيث تعلم أصول النظريات اللونية وقواعد المنظور في بناء وتكوين اللوحة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن محمد راسم لم يكن الأول بين فناني المنمنمات الإسلامية في توجهه نحو استعمال التقنيات التشكيلية الحديثة المرتبطة بتطور العلوم، بل هو امتداد لما بدأه فنانو البلاط الإيراني والتركي الذين أدخلوا علم المنظور إلى بناء المنمنمة منذ القرن السابع عشر، حين أرسل الشاه عباس الثاني فنانه الخاص محمد زمان في بعثة دراسية إلى إيطاليا، فدرس الفن على أيدي الإيطاليين والهولنديين وعاد ليغير في قواعد المنمنمات الإسلامية تغييرا طفيفا، وكذلك حاول فنانو الباب العالي لكن ما بدأه الفنانون آنذاك بقي في دائرة التقليد أي لم ينقل المنمنمة الإسلامية إلى حيز التجديد والابتكار والإبداع.

الحركة والنسب

لقد استطاع محمد راسم تطعيم المنمنمة الإسلامية بروح العصر والحداثة فأدخل البعد الثالث ونظرية الانعكاس اللوني والتدرجات اللونية ونظم نسب حجم الأجسام والأشخاص مع عناصر العمارة الداخلية والطبيعية، بحيث بدت في علاقة متوازنة، متناغمة، متناسقة.

وتميزت منمنماته بالحركة في سياق الحدث وغنى الألوان ونوعها، ورشاقة الخطوط وتوازن العالم الداخلي والعالم الخارجي أي الفرد والجماعة. فنرى مثلا منمنمة غداة الزفاف حفل تقليدي راقصتان نساء عند الشلالات ودارة بالجزائر العاصمة، قد نطقت بالمسلمات الجمالية والأخلاقية الشرقية، ولكن بتقنية تشكيلية حديثة وعصرية. فقد قرب المسافة بين الزمان والمكان بين المشاهد وعالم الشرق السحري الغامض المحجوب في الحرملك وكشف عن نافذة مفتوحة على الزمان تحمل في طياتها صورة الماضي التراث والحاضر واقع السلوك اليومي.

واستطاع أن يعطي صورة حقيقية وشاعرية عن علاقة الإنسان بتراثه ومناخه وتواصله في حركتيها، وقد حرر الألوان من حدود الخطأ حتى في تصويره للعبة الأرابسك التي كان يجيدها بالألوان وبصورة عفوية، تلقائية حرة لا تعرف القيود والحواجز.

ونلاحظ أنه قد ركز اهتمامه على جسد المرأة لإبراز مفاتنها بصورة دقيقة ولإظهار فن الغواية والمتعة الذي يطغى على حياة الحريم الداخلية والسرية في الحرملك.

وبالإضافة إلى موضوع الحريم والحرملك حدد محمد راسم في فن المنمنمات الموضوع التاريخي.

وقد استفاد من تطور علم التاريخ ليسجل مآثر شعبه الوطنية والشخصيات التاريخية التي دافعت عن بلاده مثل (عبدالرحمن الداخل، الأمير عبدالقادر الجزائري وخير الدين بربروس وغيرهم). ويكون بذلك قد طور الموضوعات التقليدية بإدخال الأحداث التاريخية الجديدة إليها، ويكون الجزائري قد بلور الموضوعات التاريخية الحديثة في فن المنمنمات.

إن محمد راسم الجزائري أعاد لفن المنمنمات الإسلامية بريقه وتألقه الإبداعي في القرن العشرين. وهو الفن الذي بلور النتاج الروحي والمادي للمجتمع الإسلامي بشتى مدارسه. وكم نحتاج اليوم إلى إعادة الاعتبار لهذا الفن الراقي بحيث نهتم بجمع المخطوطات والمنمنمات المبعثرة في شتي المتاحف والمكتبات الأوربية ونعيد تدريس فن المنمنمات في معاهد الفنون والجامعات لكيلا تندثر تقنيته على مر الأجيال.

 

محمد راسم الجزائري