سراييفو.. استنفار الذاكرة

سراييفو.. استنفار الذاكرة

مزهرية من نحاس طلقات الموت. زهور على قبور. حسان يخطرن جريحات على حواف الجرح. مآذن مقصوفة يتعالى منها صوت الأذان. نهر يخرج فواراً من عتمة قلب جبل أخضر. بيوت بيضاء وردية السقوف في مروج ملغومة. حياة تستعيد أنفاسها من عبق وعود الربيع, لكن الذاكرة لاتسقط الألم العظيم. إنها ـ سراييفو ـ عاصمة البوسنة والهرسك, مدينة انكشاف الربع الأخير من قرننا العشرين.

سماء برغم بدء الربيع تتلبد بالغيوم. تخترق طائرتنا كثافة الغيم وهي تخفض ارتفاعها مقتربة من سراييفو, فتتجلى الثلوج على قمم الجبال وبين شعابها الخضر.

ثلج هذا على العشب, أم ثلج على جرح?

طالت رحلتنا إجباراً لا اختياراً, فأوربا بكل حواضرها لم تمد غير خط طيران مدني وحيد, من فيينا إلى المدينة المجروحة: سراييفو. هكذا مررنا عنتاً بميونخ, فباريس, ففيينا, حتى نصل إلى سراييفو في الموعد. وكأن قدر الرحلة أراد أن يعقد مقارنة بين ألق العواصم البراقة, وانطفاء القلوب العصرية.

ثم إنه لم يكن هناك أي خط طيران مدني واحد من أية مدينة شرقية إلى سراييفو.

فكأنه اتفاق الشرق والغرب.

أفلا يحق للجرح أن يحتمي ـ لايزال ـ بالثلوج?!

هوِّن عليك, أو لاتهوِّن, فكل جمال في هذا البلد سيذكرك بنقيضه, وكل سلام سيجعلك تحس بالارتجاف. وهذا ليس قصدا, إنما هي آلية الذاكرة, فما تحمله ليس مما يُنسى, وخير ألا يُنسى.

ماذا تُسرُّ الأرض, والتلال?

هبطنا في مطار سراييفو المحاط بالتلال الخضر والجبال, فتهيأت للقاء دون توقع أن يكون في انتظارنا أحد.وقفت على أرض المطار طويلاً دون تعجل للانخراط في رتل الذاهبين نحو مبنى المطار مشيا, فما من باصات, وأنبوب نقل المسافرين بين المبنى والطائرات يتعلق مثل قطار أكله الصدأ وثقبته طلقات مختلفة الأعيرة. كأن الثلج والنسيان ونيران الصرب المنصبة من التلال القريبة تآمرت عليه.في الركن البعيد على جانب المدرج المرمم بعوز, تصطف بضع عربات بيضاء مصفحة لجنود الأمم المتحدة, وفي ركن آخر بضع عربات زيتية مصفحة أيضاً لكنها تابعة لقوات حفظ السلام من حلف شمال الأطلنطي.

الأرض تحت قدمي تتكلم, والجبال والتلال الخضر ترنو إليّ وفي أحشائها كلام. أصغي واقفاً تحت جناح الطائرة الوحيدة في مطار سراييفو.

ها هنا لم تكن تأتي أو تطير غير طائرات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة, وطائرات الصرب المروحية التي تحلق دون رادع. فالصرب المسلحون كانوا على مشارف المطار, ومدافعهم الثقيلة وراجمات صواريخهم على التلال المحيطة.

كانت طائرات النقل التي تستأجرها اللجنة العليا للإغاثة تجيء بما تجيء به وتنهب معظمه قوات صرب البوسنة (الششتنبك) تواطؤاً وبلطجة. وفي رحلات العودة تقلع الطائرات فارغة توصد أبوابها في وجه المستغيثين من أبناء سراييفو المحاصرة. فقوات (الحماية) التابعة للأمم المتحدة زمن بطرس غالي كانت تتذرع لمنع مغادرة الأطفال والنساء والشيوخ بأنه ليس لديها (التفويض)! لكن ذلك كان جزءاً من اتفاق غير مكتوب بين قوات (الحماية) وجنرال الموت الصربي ـ المطلوب الآن في محكمة مجرمي الحرب الدولية ـ ميلادتش, أن تتخلى قواته عن المطار ليكون تحت سيطرة الأمم المتحدة ابتداء من أوائل صيف 1992, مقابل حرمان البوسنيين من السفر, بل حتى حرمانهم من إرسال خطابات مع الصحفيين الأجانب المغادرين إلى أصدقائهم وذويهم في دنيا الله الواسعة الضنينة عليهم. لم تكن قوات (الحماية) تسمح بأكثر من ستة خطابات مع كل صحفي مغادر.هنا كانت قوات الأمم المتحدة تجوب ممر المطار لتعيد البوسنيين الذين خاطروا يأساً, تحت نيران الصرب, لكي يغادروا سراييفو المحاصرة والمجوعة, وقد مات كثيرون منهم عندما كانت الأضواء الكاشفة لجنود (الحماية) تحدد أماكنهم على المدرج وتهيئهم لطلقات القناصة الصرب القريبين من المكان.

وهنا ـ في عام 1993 ـ قامت ناقلة جنود مصفحة تابعة لقوات الحماية أثناء دوريتها بالسير فوق مجموعة من البوسنيين المنكمشين قرب مدرج المطار أملاً في طائرة تخرج بهم من حمام الدم وحصار الجوع والصقيع ـ البالغ في شتاء سراييفو عشرين درجة تحت الصفر.وهنا وقف بطرس غالي ليؤنب البوسنيين (لأنهم ليسوا أسوأ حالاً من قتلى مجازر رواندا, ولا ضحايا مجاعات الصومال), وقال جملته الباردة الشهيرة: (إنها حرب الرجل الأبيض) فساوى بين الجلاد والضحية, بل سوّغ استباحة دم الضحية.

أما هنا ـ تحت أرض هذا المطار ـ فقد كان هناك نفق ضيق معتم, حفره البوسنيون ليوصل بين سراييفو المحاصرة وبلدة للمسلمين اسمها (بوتمير) وراء خطوط الصرب. كان نفقا لنقل المؤن والناس زحفاً, وعندما اضطر الرئىس علي عزت بيجوفتش إلى عبوره (وهو ابن الرابعة والسبعين) ليزور قواته في وسط البوسنة اضطر إلى الركوب على عربة يد اجتازت به النفق الضيق والعتمة.هنا مطار سراييفو, فلأتحرك نحو المبنى المحطمة أبوابه الزجاجية والحاملة جدرانه كل آثار القذائف والطلقات. أنخرط في طابورين طويلين أمام (كشك) ضابطي الجوازات. تحت سقف مسود بدخان الحريق, وأسلاك خارجة من أحشاء الحيطان, وعلى أرض مهشمة بلاطاتها.أتحرك في هذا العوز الشديد, لكنني أشعر بطمأنينة غريبة إذ أعاين الوجوه.. وجوه ضباط الشرطة البوسنية, والعاملين في المطار, وزكريا الذي كان ينتظرنا بطيبة, ثم هذا الوجه الشريف المريح الذي أشار نحونا فجاء من استثنانا من الانتظار كزوار فوق العادة. كان الرجل هو (أدهم رامز باشتش) مدير مكتب رئيس الدولة ومستشار الحكومة البوسنية. مد يده مرحباً بألفة, وبلغة عربية ناصعة. إنه أحد قراء (العربي) ومحبي العربية. ولقد التقيناه فيما بعد ليهبنا يوما جميلا في بلدته الساحرة (فوينيتسا).

سلمنا, ومضينا متجهين في سيارة زكريا الصغيرة إلى قلب سراييفو.

الجسر له عيون

الطريق من مطار سراييفو إلى فندق البوسنة ـ الكائن في مركز المدينة حيث نزلنا ـ كان يعني أن نشق قلب المدينة من جنوب غربها إلى شمال شرقها, تبعاً لخريطة قديمة تأملتها ونحن نتحرك.ذلك يعني رؤية اللحظة, والإطلال على الماضي القريب للمدينة, وربما البعيد أيضاً. خاصة أن زكريا عايش تقلبات زمان هذه المدينة إذ كان طالباً يدرس بها قبل اندلاع المجزرة, ولم يغادرها طوال الحصار, فزوجته بوسنية وحياته وحياة أطفاله تناسجت مع أقدار سراييفو قبل أن تبدأ المذبحة وحتى الآن.

مذبحة, للبشر, والشجر, والترام, والبيوت, والجسور, والمآذن.. مذبحة أدارها المتعصبون الصرب بطلقات قناصتهم ورماة مدفعيتهم الثقيلة التي تمركزت فوق التلال المحيطة بسراييفو. ولعل أبلغ وصف لسراييفو المحاصرة وسكانها هو أنها كانت سجناً بلا سقف.راحت السيارة تنطلق بنا في جادة (ميشي سيليموفتش) الواسعة المفضية إلى امتداد طريق (زمايا أو بوسنا), وكانت سراييفو على ضفتي الطريق تحكي ماحدث وما يحدث دون كلمات.ضاحية (علي باشنا) التي تسمق فيها أبراج سكنية مصفوفة بذوق معماري رفيع قلما عرفته عمارة (الكتلة الشرقية) السابقة, جرى قصفها وتشويه الكثير من عمائرها الملونة.

السيارات في الشارع تجري وبعضها بلا زجاج أو بلا (رفارف) ومعظمها لايزال يحمل آثار القناصة الصرب.وترام سراييفو الذي يؤرخ أنه كان أول ترام سار في شوارع وسط أوربا, عاد للحركة, عجوزاً بطيئاً مطمئنا كعادته, لكن عرباته التي احترق معظمها أثناء القصف جرى تجديدها وطليت بألوان مختلفة.. منها الأخضر والأصفر والأحمر والملون, تبعاً لرغبة من تطوع بطلائها مقابل أن يضع عليها إعلاناً لهيئته.. هيئات إغاثة إسلامية ودولية, بنوك, شركات, مصانع.تقول إحصائية إنه منذ الربيع الدامي في 1992 حيث اشتد القصف الصربي على سراييفو توقف الترام وأعطبت القطارات, والباصات ذات الطابقين واللون الأخضر, وكبائن التليفريك التي كانت تأخذ الركاب إلى بهاء القمم المكللة بالثلوج على ارتفاع 1570 مترا, كل ذلك توقف. وسيارات التاكسي العشرة آلاف التي كانت تجوب شوارع المدينة لم يعد يتحرك منها غير أربع أو خمس سيارات فلم يعد هناك وقود.

عادت السيارات والترامات للحركة, عاد دبيب الحياة يسري في شوارع سراييفو, لكنه دبيب وجل كأنه لايصدق العودة إلى الهواء الآمن والنور.

ونمر بأحد رموز المجزرة الحضارية السافرة, وإحدى أفصح الشهادات عليها.. مبنى جريدة (أوسلوبودينيا) أو التحرير.. تم سحق البرج الذي كان يضم مكاتب المحررين تماما حتى بدا كتلة من ركام أسود وتهشمت الطوابق السفلية. كانت هذه داراً صحفية مرموقة تصدر مطبوعات ثقافية واقتصادية وإعلامية متنوعة. واستمرت تصدر برغم القصف من بدروم الدار.

ـ (هناك اقتراح بترك الحطام كما هو عليه كشاهد على غباوة الششتنبك (قوات صرب البوسنة).

ـ ينبغي أن يظل.

أبدي رأيي بأسف, فبرغم فظاعة الصورة, فإن ذكريات بعض الفظاعة ينبغي الاحتفاظ بها لردع وفضح أية فظاعات محتملة في المستقبل.

كنا نسير على ضفة نهر ملياكا الشمالية, نبتعد عن النهر مع امتداد الطريق ونعود للاقتراب منه مجدداً. نهر صغير لكن قوة المياه المندفعة في مجراه المحدود المبطن تصدر هديراً نسمعه كلما اقتربنا من ضفته. إنها مياه ذوبان الثلوج في الربيع, تجيء منحدرة من أعالي الجبال, هابطة من ارتفاعات متوسطها أكثر من ألف متر فوق سطح البحر, نسمع هدير المياه, وتتوالى أمام عيوننا الجسور.لقد قرأت لميروسلاف برستويفتش في مؤلفه الأليم (سراييفو.. المدينة المجروحة) أن هناك في سراييفو ثلاثين جسراً (عددت منها خلال أيام الإقامة العشرة في المدينة ثمانية وعشرين), تربط بين أطراف المدينة وتشكل عمودها الفقري ونبض تواصلها. على أقواسها مر التاريخ ويمر. وعبرها يجيء الحاضر ليخبر عن المستقبل. وهي أيادي الضفاف الممدودة التي تأبى الانفصال!!

وأتذكر قصيدة للشاعرة (عائشة زاهيروفتش) ابنة سراييفو التي زارت القاهرة في أواخر الثمانينيات قبل أن تتفكك يوغسلافيا.. تقول القصيدة التي تحمل عنوان (الجسر له عيون):

نوديّ عليّ لكي أجيبك
لكن هناك أسئلة كثيرة تملأ عينيك
وكل سؤال يجر وراءه سؤالا آخر
لحظة من فضلك

ربما يتحدث الرجل العجوز
عن الشرفة الخضراء
نعم.. ولكن لا.. لايوجد أحد
إنه صوت النهر فحسب
وهو ينحدر مع الوادي
مثل الرجل الأعمى
الجسر فحسب له عيون
ترى الشرفة والحديقة الخضراء
وتنتظر في شوق

لم أحس بمعنى القصيدة الحقيقي العميق إلا أثناء وقوفي على أكثر من جسر فوق نهري ملياكا والبوسنة. تجري مياه النهر دافقة سريعة كأن لابصيرة لها غير الاندفاع, متجددة دوما, بينما الجسور تئن مجروحة بآثار القذائف التي أصابتها وحشرجات البشر الذين قضوا فوق ضلوعها, وتحدق بعيونها المفتوحة دوما في الماء الراكض والمدينة المحروقة.

ليس الأمر تشاعراً, بل حقيقة محضة, سجل وقائع تاريخية, لعل أشهرها ما يؤرخ لبدء مجزرة سراييفو في الخامس من أبريل عام 1992, على جسر (كوزيا شوبري) والذي صار اسمه شعبيا ورسميا الآن: (جسر سعاد).

حمرة الشفق

مررنا ونحن ندخل سراييفو بجسر سعاد, وسمعت القصة مراراً طوال أيام وجودنا في العاصمة البوسنية, وما إن استطعت أن أكوّن في رأسي خارطة للمدينة, حتى قررت أن أقف على الجسر نفسه وأعيد تصور الحادثة التي كانت علامة فارقة في المأساة البوسنية.

لكنها علامة على تاريخ آلام وآمال طويل. فما من أمل في الرقي الإنساني على مايبدو, إلا وتتربص به آلام حارقة تصعدها أحقاد نفوس سوداء للتخلف الروحي البشري.

إنها قصة سراييفو, قصة البوسنة والهرسك, قصة يوغسلافيا السابقة, بل قصة الكيانات الكبيرة متعددة الديانات والثقافات عندما تنقسم على ذاتها, وأكثر من ذلك هي قصة مايمكن أن يحدث في العالم كصدمة ارتدادية لما يسمى بالعولمة.قال لي حارس سيلادزيتش رئيس الوزراء أثناء حوار أجريته معه في مكتبه بسراييفو: (البوسنة مختبر صغير لما يمكن أن يحدث في أوربا والعالم. شريط سينمائي يرينا ما يمكن أن يحدث).

وهو قول تأكده التجربة, ويرجحه الحدس. ويبدو أن البوسنة متعددة الثقافات, متعددة الديانات, قد اختيرت بملابسات شيطانية من التعصب والأنانية الصربيين لتكون تجربة القرن العشرين المرعبة. ولهذا يذهب المنطق باتجاه المسألة أن الحفاظ على حياة البوسنة التعددية اليوم يوازي الحفاظ على العالم غدا, وتفتت البوسنة وتحطيمها يعد مؤشرا على ما ينتظر العالم من تفتت وما يصاحب هذا التفتت من جرائم.

في منتصف عام 1991 بدأ تفتت الاتحاد اليوغسلافي, وأعلنت سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما. ونشبت الحرب أولا بين الكروات والصرب. وفي 2 يناير 1992, بعد معارك دموية, وقعت اتفاقية سلام بين الكروات والصرب تحت إشراف وسيط السلام وزير الخارجية الأمريكي الأسبق سيروس فانس. وفي 29 فبراير من العام نفسه أجرى استفتاء شعبي على استقلال البوسنة والهرسك وهو مارفضه الحزب الديمقراطي الصربي, وحرض على مقاطعة الصرب له, وبدأت التحرشات الصربية في حفل زواج بمنطقة البشاريشيا بقلب سراييفو العتيق قتل فيه شخص واحد, وزاد التوتر والاحتقان في المدينة. وفي الأول والثاني من مارس بدأت المتاريس تظهر في الشوارع وتقطعت الدروب مما هدد بتجويع المدينة. وفي الثالث من ذلك الشهر ظهرت نتائج الاستفتاء الذي شارك فيه من مجمل عدد الناخبين, 1.997.664 إنساناً أدلوا بأصواتهم أي 36.4% من الناخبين, ومن بين هؤلاء جاءت النتيجة لصالح الاستقلال بنسبة 29.6% ولم يرفض الاستقلال إلا عدد قليل من المقترعين بنسبة .910% أي أقل من 2 من كل ألف.

ومن هذه الثمالة الحثالة أجت النار لتحرق البلد الجميل الذي وصف دائما بأنه فرصة نادرة لرؤية سحر الشرق في الغرب أو تألق مدنية الغرب في الشرق.

في سراييفو, وفي يومي الجمعة والسبت 3و4 أبريل 1992 بدأ رجال ملثمون قرب منتصف الليل يطلقون الرصاص على سائقي السيارات للترويع, ووضعت المتاريس والعوائق لتفصل الأماكن التي حددها الحزب الديمقراطي الصربي, حزب مجرم الحرب ـ طبيب الموت ـ السكير ـ والشاعر التافه رادوفان كاراديتش. وظهرت الحواجز فوق جسر فربانيا وحول منطقتي فراسا وجربا فيتسا ذات الكثافة الصربية وكان الجيش الفيدرالي ذو النزعة الصربية متمركزا في التلال المحيطة بسراييفو حيث شوهد وهو يعد تحصيناته منذ عدة أيام.

تحت جنح ظلام الليل وعتامة القلوب المتعصبة تم إعداد المسرح الأسود ليوم السبت الدامي الذي كان أول المجزرة.صباح يوم السبت الخامس من أبريل 1992 خرج الآلاف من أبناء سراييفو في مسيرة تهتف للسلام وللحياة, وعند حاجز يفصل بين منطقة جربا فيتسا وجسر قربانيا راح ملثمان يطلقان النار على المتظاهرين من منطقة الصرب. وكانت أولى الضحايا هي الطالبة في نهائي كلية الطب سعادا ديلبرفويتش. سال دم سعاد على الجسر وجرح العشرات وفزع الناس إلى مبنى البرلمان القريب, لكن إطلاق النار لم يتوقف وتكاثر عدد المجرمين الملثمين. واتسعت رقعة مهاجمتهم للناس. وفي الساعة الرابعة عصراً سقطت أول قذيفة مدفعية على الجزء الشرقي من المدينة.

وبدأت (تراجيديا) سراييفو.. ضمن (تراجيديا) البوسنة والهرسك. تراجيديا ملأت شاشات التلفزيونات في العالم, بجهد منفرد لإعلاميين وصحفيين شرفاء كانوا آخر قطرة من ضمير الغرب الناضب.. ملأتها بالدم والنار والأجساد الممزقة, بينما كان العالم (المتقدم) المخاتل يفقد آخر حيله السلبية للتهرب من المسئولية الأخلاقية حيال مايحدث, ويفقد ورقة التوت, مما يذكرني بصيحة الكاتب (ديفيد ريف) في مؤلفه مجزرة البوسنة وتخاذل الغرب: (الهزيمة ساحقة والخزي شامل).

وقفت في منتصف الجسر الذي صار اسمه جسر سعاد (سعادا كوبريا) أستعيد الصور, أمامي على سياج الجسر طاقة ورد حول لافتة تحمل اسم الضحية الأولى طبيبة الغد المبتور, وأرقام تشير إلى عمرها الجميل المخطوف غيلة. وعلى الأرض بقعة لونية متسعة من طلاء أحمر برتقالي تمثل بركة الدم المراق. وهي بقعة تسجِّل لكل واقعة سقط فيها ضحايا في شوارع سراييفو. بقعة كأنها دم طازج يختلط بلون شفق الشروق والغروب, يستصرخ الذاكرة ألا تنسى. بقعة مكثت آراها في كل حنايا سراييفو.. كلها بلا استثناء.

المجزرة.. والمأثرة

لعل أفضل ما قدمه لنا مكتب اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة في سراييفو هو اختيار فندقنا في مركز المدينة.

أتاح لنا هذا الاختيار للإقامة في فندق (بوسنيا) ـ القريب من المسرح الوطني ـ أن نكون في المركز من دائرة (التراجيديا) التي حدثت ودائرة المأثرة التي تكون. فبعد خطوات قليلة يمكننا أن نصل شمالاً إلى الدروب الصاعدة على منحدرات أحياء ميتاسي وبيلفا وكوسوفو التي يتربع على قمتها المستشفى الشهير الذي كان يعد أكبر وأحدث مستشفيات المدينة, المستشفى الجامعي, الذي لم ينج من القصف الصربي الوحشي. وكانت تجري فيه عمليات البتر للمصابين بالقذائف على ضوء الشموع عندما انقطعت الكهرباء في سراييفو تحت الحصار. بل كان الأطباء فيه يضطرون لإجراء العمليات الجراحية للمرضى بالقرب من النوافذ لاستغلال ضوء النهار. عاد المستشفى يموج بالحركة ويحلم مسئولوه باستكمال بناء قسم جراحة القلب في المبنى الذي توقف تشييده بسبب الحصار. وكانت هناك في ساحته بقع اللون الأحمر البرتقالي ذاتها. وفي حديقته مقبرة للعشرات الذين قتلتهم قذائف الصرب أو خذلتهم إمكانات المستشفى المحاصر.

عدة خطوات من باب فندقنا في اتجاه الجنوب كانت توصلنا إلى شارع الكورنيش (أبا لاكولينا) وتوقفنا على الجسور التي يواجه أحدها مبنى البريد والتلغراف الذي أحرقه القصف الصربي حتى عظامه. غل غريب. كأن المبنى الذي شيد في أوائل القرن بفخامة ورسوخ كان يفزعهم, إذ تبدو نوافذه العديدة وكأنها عيون تحدق في عيونهم فأرادوا أن يحرقوها حتى أعمق محاجرها.

عدة خطوات أخرى من باب الفندق كانت توصلنا إلى طريق (المارشال تيتو) الشهير الذي يذهب غربا إلى المركز العصري لسراييفو حيث فندق الهوليداي إن ذي الطلاء الأصفر الفاقع والوقائع الشهيرة, عندما كان الفندق هو المحمية الوحيدة في سراييفو لأنه كان نزل قوات الأمم المتحدة والمراقبين الدوليين ومراسلي الصحافة والتلفزيون العالميين. كان صعبا على (النسور البيض) من إرهابيي الصرب الجبناء أن ينالوا من هؤلاء ولو بطلقة صوت. أما الأطفال والنساء البوسنيون فقد كان قتلهم تسلية يومية لقناصتهم المتمركزين في قمم عمائر جرافيتسا وقمم الجبال.

أما الاتجاه شرقاً في شارع المارشال تيتو فقد كان يقودنا يوميا عند المفترق إما إلى شارع (مولا مصطفى باشسكي), أو إلى شارع المشاة (فرهاديا) المفضي إلى منطقة السوق الشرقي الشهير (باشاريشيا), ومنها يمكن الصعود إلى منحدرات حي (كوفاشي) أو عبور الجسر على نهر (ملياكا) لرؤية المكتبة الوطنية المحروقة قصفاً أو مكتبة (غازي خسرو بك) ومجموعة المساجد البديعة التي أصيبت بجراح بليغة من القصف الصربي. كما يمكن من منحدرات (كوفاشي) الصعود إلى قمة فراتنيك للإطلال على مشهد عام بديع لمدينة سراييفو.

هذه المنطقة هي القلب النابض لسراييفو, ومن ثم ففيها يمكن معاينة آثار الجروح وتألقات المعافاة. هنا تنبض ذكرى المجزرة وإشراقات المأثرة.شارع (مارشالاتيتو) العصري الواسع الذي يذكرك بمناطق وسط المدن الأوربية العريقة استعاد الكثير من رونقه ومن زجاج واجهات محاله الكبيرة الأنيقة, يمضي فيه الترام, وتمرق السيارات, وعلى الأرصفة تتدفق مويجات المشاة وأغلبها من صبايا صارخات الجمال أليفات الوجوه, وفتيان ممشوقين بوجوه نضرة. ثمة عجائز ومعوقون قليلون. وثمة أزواج وأطفال وعشاق.

هذا الشارع ذاته لم يكن ممكنا عبور مفترقاته إلا ركضا أو من وراء السواتر التي كانت تسد فتحات الشوارع الجانبية, فالقناصة الصرب كانوا يراقبون عابري الشارع خلال تليسكوبات بنادقهم الروسية ويتصيدونهم بطلقات التوحش الغبي.

أما شارع (فرهاديا) الذي يشبه شوارع المشاة في مدن أوربا الزاهرة, فقد استعاد عافية حوانيته, ومقاهي أرصفته البديعة, ومصابيحه الهادئة, والمتمشين في رحاب نسائمه المسائية الصافية. مواطنون, وأفراد من قوات حفظ السلام الدولية, وزوار أجانب, ومصورون تليفزيونيون أجانب أقاموا آلات تصويرهم في منتصف الشارع لنقل نبض سراييفو العائدة إلى الحياة.

لكن بقع اللون الأحمر البرتقالي تظل على بلاطات الشارع تسجل لكثيرين سقطوا برصاص القناصة الصرب, وثمة بقعة متسعة تسجل لمجزرة راح ضحيتها عشرات كانوا مصطفين في طابور للحصول على الخبز من أحد المحال اليتيمة التي كانت تبيع الخبز المقنن بالجرام أيام الحصار والجوع. وثمة مقبرة تملؤها شواهد الضحايا في حديقة صغيرة بركن الشارع العائد للحياة مع نسمات الربيع.

في شارع مصطفى باشسكي الموازي لشارع فرهاديا يسير الترام ولايوجد مشاة كثيرون في المساء, في النهار فقط يتواجدون ,ففي وسط الشارع يقع السوق المركزي الذي اشتهر في كل أنحاء الدنيا, اشتهر بدمائه المسفوكة التي لابد أنها حركت ضمير كل من في وجهه قطرة دم من سكان عالمنا متابعي قنوات التلفزيون الفضائية.

في هذا السوق الذي يبيع الطعام والطيور والزهور, سقطت قذيفة صربية من تلال النذالة والخسة بينما كان السوق مكتظا بالناس في يوم مشمس من أيام ربيع 1994, وكانت مجزرة مذاعة على الهواء بالصوت والصورة في كل تلفزيونات العالم, ولعلها كانت الحدث الذي لم يكن ممكناً تجاهله أمام الرأي العام الغربي فاضطر قادته للتحرك باتجاه فرض السلام في البوسنة وإتمام اتفاق دايتون فيما بعد.

أما البشاريشيا فهي ساحة بهية لبداية التحرشات كما ذكرنا, وهي مطلع جميل لكل شموس السلام الصغيرة البراقة.

صحن بوسني.. بسم الله

لن تمل من التمشي في دروب البشاريشيا المرصوفة بالحجر الأبيض. تحيط بك على الجانبين الحوانيت الصغيرة الأنيقة ذات السقوف الوردية من القرميد التي تعرض المصنوعات اليدوية التقليدية.. السجاد ومشغولات الفضة والنحاس المطروق. وأطرف ما رأيته هو فوارغ القذائف والطلقات الكبيرة التي حولها الصناع البوسنيون المهرة إلى مزهريات منقوشة ببراعة ودقة ولمعوها حتى صارت تتألق جمالاً. كأنها تلخص الحكاية كلها وتقول: إنهم صناع موت وقبح, ونحن مريدو حياة وجمال. في حنايا البشاريشيا تتناثر مطاعم شرقية أنيقة, طاب لنا كثيرا طعامها.. طبق المشويات وطبق من المحشيات المشكلة يسمونه (بوسنسكي صحن) أي الصحن البوسني. أما القهوة البوسنية فهي إغراء لايمكن مقاومته, يعدونها طازجة فواحة العبق وبرغوة وفيرة, بنية فاتحة, يصبونها مرات, وقطع السكر يضيفها الشارب كما يهوى في صحن الفنجان.لقد أدمنا البشاريشيا, نتمشى فيها كل مساء, ونأكل أو نشرب القهوة, ونعرج على المسجد الكبير في قلبها, ومعهد العلوم الدينية الذي زرناه بصحبة رئيس العلماء ورئيس أئمة البوسنة الشيخ الدكتور مصطفى زيريتش وهو رجل يشع بالمهابة والنبل والتفتح, فهو عالم بأمور الدين وثقافة الدنيا.. درس في الأزهر كما في الولايات المتحدة وظل فترة طويلة إماما لمسجد شيكاغو وهو يجيد الإنجليزية كأهلها.في ساحة المسجد الكبير وقفنا وكان هناك وفد زائر من الجمعيات الخيرية الكويتية برئاسة الشيخ يوسف الحجي. رحنا ننتظر المؤذن وهو يصعد ليرفع أذان المغرب من قمة المئذنة السامقة التي صمدت في وجه القصف الصربي. فالأذان في البوسنة لايكون إلا من فوق المئذنة. تقليد جميل وإشارة إلى تقاليد للقوة الروحية لهؤلاء الناس.كان هناك وقت حتى موعد الأذان, وقلت للإمام (مصطفى زيرتش): (يا مولانا.. أنت قلت مرة في أحد أحاديثك للإعلام الغربي: (لايستطيع الغرب في المستقبل أن يعلمنا دروساً أخلاقية, لقد سمح لجلادي التطهير العرقي الذين توسموا خطى النازية بأن يغتصبوا ويقتلوا النساء بانتظام, وأن يقيموا معسكرات الاعتقال وأن يحولوا بكل برود ماضينا إلى رماد. أنتم الذين تفاخرون بالانتصار على الفاشية. ألم تنتبهوا إلى أنها عادت من جديد لتشعل الحرائق داخل بيوتكم)? ألم تزل يا مولانا على رأيك بينما هناك قطاعات في الغرب معنية بأمر السلام في البوسنة? وأجابني الرجل بثقة قلب جسور إنه سيكررها, ويكررها (فالغرب في مجمله رسب في امتحان البوسنة, رسب عسكريا وروحيا وثقافيا. وهو يصنفنا تبعاً لمقياس غريب على تقاليدنا, فالحرية والانفتاح لديه يعنيان حرية الانفتاح على النفايات الثقافية للغرب ـ استخدم الإمام التعبير بالإنجليزية ـ الجنس, الشذوذ, الإباحية. أما التقنية المتقدمة والعلم والتقدم فليست من حقنا.وقطع الإمام المهيب حديثه باسماً, وأشار إلى أعلى المئذنة, فالمؤذن كان قد ظهر في الشرفة الأعلى ليطلق النداء العظيم في سماء هذه المنطقة من قلب سراييفو.. قلب قلب البوسنة.

 

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





سراييفو.. استنفار الذاكرة





بعد كل ما حدث.. هل يوجد أمان إلا في خصوصية الروح؟





عادت المدارس والجامعة إلى الحياة.. هل تصمد العودة؟





إنها سحر الشرق في الغرب.. مدينة المآذن والجبال والحمام





مئذنة قاومت القصف البربري الصربي من التلال





السوق المركزي





ترام سراييفو كان اول ترام في شوارع وسط أوربا كلها في القرن 19 وها هو يعود للحركة





في شارع فرهاديا، دورية من جنود القوات الدولية لحفظ السلام





جئن من ضياع مرعب في الغابات





آثار من شواهد قبور البوجوه قبل دخول الإسلام





في زيارة وفد اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة ولجنة العالم الإسلامي





أجهزة إعلام دولية وجنود دوليون وسراييفو صارت رمزاً عالميا للألم والأمل





آخر ما تبقي من مبنى دار التحرير للصحافة





عمائر القلب الحديث لسراييفو





بقعة بلون الدم. هنا سقط ضحايا القصف، حتى لا تنسي الذاكرة





أدهم رامز باشنتس.. مستشار الحكومة البوسنية





شجرة عمرها مائة عام، بترتها في ثانية واحدة قذيفة صربية عمياء الروح والبصيرة!





خطوة خطوة.. وكل خطوة بتعب.. والذاكرة لا ترحم





ياسين رواشدة مواطن عربي بوسني كبير المراسلين الصحفيين





نقشوا أغلفة القذائف بالزخارف ولمعوها.. صارت مزهريات مع بدائع الشرقيات في البشاريشا





"فرولا بوسنا" من قلب جبل "إجمان" ينبع النهر الذي أعطى البلاداسمه ومياهه الطيبة، لكن ألغام الصرب مازالت تحيط بالمكان





مأثرة الكتب





مقابر مقابر، في الحديقة، في الحقل، فى الملعب الرياضي، على الأرصفة، في كل مكان





حنايا البشاريشيا





عوائق مرور الدبابات، وأسوار الأسلاك الشائكة عند أطراف سراييفو