بناء حضارة جديدة

بناء حضارة جديدة

كتابنا هذا إنتاج جديد لآل توفلر (الزوجين ألفين وهايدي) وهما من بين أكثر المفكرين شهرة في العالم, يقرأ لهما الملايين, ويهتم بآرائهما الرؤساء, ورؤساء الحكومات, والسياسيون والطلبة, وعامة المفكرين. كتابهما الأول (صدمة المستقبل 1970) أثار ضجة كبيرة. كتبا بعده كتبا أخرى أهمها (الموجة الثالثة) ثم جاء كتابهما الذي نعرض له. ظهر عام 1994 في طبعته الأولى, ونشرته مؤسسة تيرنر للنشر بأطلنطا.

أهم ما يبينه آل توفلر في الكتاب أن العالم ـ وخاصة الدول المتقدمة ـ في طريقه لصنع حضارة جديدة تعتمد أساسا على النمو في المعلومات, وطرق توزيعها وإدارتها. هذا ما يعبر عنه بالموجة الثالثة التي تجلب معها طريقة جديدة تماما للحياة, تقوم على أنماط جديدة في التصنيع, وشكل العائلة, وتنظيم المعلومات, وعلى أشكال جديدة للمدارس وشركات للمستقبل تختلف جذريا عما هي عليه الآن.

وتحدث ثورة الموجة الثالثة, ومازالت أحداث الموجة الأولى (الزراعية), والموجة الثانية (الصناعية) تتتابع ولكن بأشكال مختلفة, ففي الدول النامية مازال طابع الموجة الأولى يسيطر بجانب الموجة الثانية. أما في الدول المتقدمة, وعلى سبيل المثال في أمريكا, فإن القطاع الزراعي لا يشغل أكثر من 2% من عدد السكان. والطابع العام هو طابع الموجة الثانية ـ طابع الصناعات الضخمة, وما يترب على ذلك من إنتاج ضخم, وأسواق كبيرة لتصريف الإنتاج. ويقارن آل توفلر ما يحدث الآن من صراع بين الموجة الثانية والموجة الثالثة, بما حدث في الماضي حينما أدى التصادم بين الموجتين الأولى والثانية إلى أزمات داخلية خطيرة, وأىضا على الصعيد العالمي: صراع بين أصحاب الأراضي والصناعيين من جهة, وصراع بين الدول الكبيرة كانجلترا والمانيا للسيطرة على العالم من جهة أخرى.

وأهم سمات الموجة الثالثة بناء مجتمعات تفتيت الكتل وإنشاء نظام متقدم للمعلومات يعتمد أساسا على التطور الهائل في الحاسب الآلي وأنظمة الاتصالات, والمواد الجديدة, والتطور في إنتاج الطاقة, والدراية الفنية المتقدمة, والمعرفة التي تعمل على توفير الوقت, والمكان سواء في أماكن التخزين, أو في وسائل النقل, وفي سرعة التوزيع, والاتصال بين المنتج والمستهلك, هذه المعرفة التي تقودها العقول البشرية, وهكذا يحل رأس المال البشري محل رأس المال البنكي.

حاجب مرتفع وآخر منخفض

يرى الكاتبان أنه مثلما تحول العمال الزراعيون من الزراعة إلى الصناعة, وأصبح من يعمل في الزراعة يمثل 2% من العمالة الكلية, فإن أمريكا ـ مع ذلك ـ احتفظت بقوتها الزراعية,وكذلك فإن العمال سوف يتحولون من نظام التصنيع الحالي إلى نظام الموجة الثالثة. ويقول الكاتبان إن معدل التوظيف في الصناعة في عام 1988 بقي عند معدل أكثر من 19 مليونا بقليل كما كان في عام 1968, وأسهم التصنيع بالنسبة نفسها في الإنتاج كما كان يفعل منذ ثلاثين عاما, ولكنه كان يفعل ذلك بنسبة أقل من قوة العمل الكلية.

ومنذ الستينيات اتسع التحول من عمالة الموجة الثانية اليدوية إلى عمالة الخدمات والنشاط فوق الرمزي للموجة الثالثة في الولايات المتحدة. ويعمل في هذه الأنشطة ثلاثة أرباع قوة العمل, وعلى مستوى العالم اليوم أصبحت الصادرات العالمية للخدمات والملكية الفكرية تساوي صادرات الإلكترونيات والسيارات مجتمعة, أو صادرات الوقود والطعام مع بعضها.

وفي الموجة الثالثة تتقادم المفاهيم الموجودة عن العمل والبطالة مما جعلنا نفكر في مفاهيم جديدة وأصبح ميدان الأعمال ينقسم إلى ثلاثة قطاعات: الزراعة, والصناعة, والخدمات, والآن ما يضيف إلى القيمة هو العمليات الرمزية أو عمل العقل الذي نحن في حاجة إليه أكثر من غيره.

وبناء على كثافة المعلومات التي تملكها الشركة يمكن تقسيم الشركات إلى ما يمكن أن نطلق عليه حاجبا مرتفعا, وحاجبا متوسطا, وحاجبا منخفضا.

في اقتصاديات الحاجب المنخفض تقاس الثروة بامتلاك السلع, وينظر إلى إنتاج السلع كمحور أساسي في الاقتصاد, ولم تأخذ الأنشطة الرمزية قدرها من الاهتمام, وتجاهل الاقتصاديون دورها في الإنتاج.

واعتبر أن معظم التعليم ما لم يكن مهنيا في أضيق الحدود مضيعة للوقت, وإن الأبحاث لا قيمة لها, والفنون الحرة ليست ذات موضوع, والأسوأ من ذلك, أنها تعيق النجاح. وما يهم باختصار هو المادة. ولقد عكس هذا التفكير تمجيد البروليتاريا, والنظرية القائلة بأنهم طلائع التغيير وحرسه, وكل ما أضافه افتراضات واتجاهات منعزلة, وأيدلوجية المادة أولا وهي أيديولوجية إنتاج الموجة الثانية.

في العاصفة التي يمر بها اقتصاد الموجة الثالثة فإنه يأخذ شكلا جديدا يوصف بأنه الحاجب المرتفع, أكثر تنوعا, وأسرع في التنفيذ, وأكثر تعقيدا من اقتصاد المداخن القديم, وتحتاج مقابلة هذه الوثبة الجديدة إلى مستويات أعلى لتشغيل المعرفة.

والإنتاج لا ينتهي في المصنع, بل تمتد نماذج الإنتاج إلى ما بعد بيع المنتج, كما في ورش تصليح السيارات أو الدعم المتوقع من تاجر التجزئة عندما يشتري شخص حاسبا آليا وقبل مضي وقت طويل سوف يصل مفهوم الإنتاج إلى أبعد من ذلك, إلى التخلص الآمن من المنتج بعد انتهاء مدة صلاحيته سوف يكون على الشركات أن توفر التخلص النظيف بعد الاستخدام مما سيضطرها إلى تغيير نظام التصميم, وحسابات التكلفة, وطرق الإنتاج. كل خطوة من اليوم هي معرفة, والرموز وليست المواد الخام هي التي تضيف القيمة.

هذه الصياغة الجديدة تحطم افتراضيات كل من السوق الحر, والماركسية, ومفهوم المادة أولا الذي أدى إلى كليهما, وهكذا فإن فكرة أن القيمة تخرج من عرق العامل وحده, وينتجها صاحب المشروع الرأسمالي العظيم, وكلاهما متضمن في المادة أولاً, أظهر هذه الفكرة أنها مزيفة, وهي مضللة سياسيا واقتصاديا أيضا.

وفي الاقتصاد الجديد, موظف الاستقبال, ورجل البنك الذي يجمع رأس المال, ويشغل الحاسب الآلي, والمصمم, وأيضا المختص في الاتصالات اللاسلكية كلهم يضيفون قيمة. وبكلمات أخرى يفعل ذلك أيضا الزبون وتنتج القيمة من جهود جماعية بدلا من أن تنبع من خطوة واحدة منفصلة في العملية.

وكتجسيد لحالة يقول آل توفلر إن ظهور الحاسب الآلي ووسائل الاتصالات الجديدة في القرن العشرين أديا إلى إنهاء سيطرة الدولة في روسيا على العقل في البلاد التي تحكمها أو تقع تحت أسرها. وجاء جورباتشوف ليعلن في خطبته عام 1989, بعد حوالي ثلاثين عاما من بدء ظهور النظام الجديد لصناعة الثروة في الولايات المتحدة: (نحن أحد هؤلاء الذين تخلفوا في إدراك أن المعرفة في عصر المعلومات هي أكثر الأصول قيمة).

لم تدرك الدول الاشتراكية مفهوم التغير وظلت آليات الموجة الثانية تعمل دون الأخذ في الاعتبار ما يحدث في البيئة الخارجية, وكانت الدولة تعمل في ضوء الشعارات الماركسية, صراع الطبقات هو (قاطرة التاريخ) والمهمة الرئيسية هي (الاستيلاء على آلة الدولة).

وعملت الدولة الاشتراكية على إلغاء الملكية الخاصة, ولكنها وهي تفعل ذلك هيمنت على كل وسائل الإنتاج ومع ذلك لم تعمل الصناعات المؤممة على تطوير التصنيع, وزيادة الأرباح, بل على العكس, ترعرعت فيها بيروقراطية التصنيع, والبطء في إعادة التنظيم, وعدم التكيف مع حاجات المستهلك, والفزع من إحاطة المواطنين بالمعلومات, والخوف من تبني التقنية المتقدمة.

وغفل المدافعون عن القطاع العام من الاشتراكيين ورجال الاقتصاد الرأسمالي عن أن هناك نظاما جديدا لصناعة الثروة, إنها المعرفة التي يمكن أن يستخدمها الكثيرون في الوقت نفسه لصناعة الثروة, ولإنتاج معرفة أكثر.

وعلى الرغم من أن الاشتراكيين توهموا أن التخطيط هو الركيزة الثانية للنظام, فإن التخطيط لم يسعفهم, واعتمد نظام السيطرة من أعلى إلى أسفل على الأكاذيب التي أشاعها المديرون الذين كانوا يخشون دائما من ظهور عثرات الإنتاج في مصانعهم.

والركيزة الثالثة التي انهارت في الاقتصاد الاشتراكي هي التأكيد المبالغ فيه كثيراً على المعدات مما جعلهم يركزون على صناعة المداخن, وحطوا من قدر عمال الزراعة ومستخدمي العقل. وتشبث التيار الرئيس من الماركسيين بصفة خاصة بالفكرة المادية القائلة إن الأفكار والمعلومات والفن, والثقافة, والقانون, والنظريات وغيرها من النواتج غير الملموسة, هي عبارة عن جزء من بناء فوقي نظري بعيد عن الواقع الاقتصادي. وباختصار عند ظهور اقتصاد الموجة الثالثة الذي مواده الأساسية هي في الحقيقة برامج ذهنية وغير ملموسة وجد أن العالم الاشتراكي غير مهيأ, ولم يكن هناك مفر من الاصطدام بين الاشتراكية والمستقبل,هذا التصادم القاتل.

تصادم الناخبين:

إن أكثر التطورات السياسية أهمية في عصرنا ظهور معسكرين أساسيين في المجتمع أحدهما ينتمي إلى حضارة الموجة الثانية, والآخر إلى حضارة الموجة الثالثة, الأول يتشبث أعضاؤه بتكريس أنفسهم للحفاظ على سمات الموجة الثانية, أما الآخرون فيرون أن المشكلات الأكثر إلحاحا هي الطاقة, والحرب والفقر, وتدهور البيئة, وتفكك العلاقات الأسرية, ولم يعد حل هذه المشكلات ممكنا من خلال الثورة الصناعية.

وعلى الرغم من الاختلاف بين أعضاء المعسكر الأول فسرعان ما يتحدون ليعارضوا مبادرات الموجة الثالثة, وتحارب الموجة الثالثة النخب التي تحافظ على مصالحها. كما تقاوم الطبقات المتوسطة والفقراء الانتقال إلى الموجة الثالثة بسبب خوفهم من أن يتركوا متخلفين, ويفقدوا وظائفهم.

وعلى الرغم من الفوران الذي تثيره الموجة الثالثة, مازال الحزبان يتمسكان بفكر الموجة الثانية. ولقد فشل الديمقراطيون على الرغم من وجود آل جور, وهارت بين صفوفهم, وهما أكثر من غيرهم اعتقادا في مبادىء الموجة الثالثة, في مواجهة التحدي الذي يفرض طبيعة التحول التقني. ومازال الجمهوريون يخلصون لبعض شركات الموجة الثانية الضخمة, وللاتحادات التجارية ولجماعات الضغط والموائد المستديرة التي تدير السياسة, وفشلوا في التوافق مع الدور الجديد.

وعلى الرغم من هذا التخلف السياسي فإن جموع مؤيدي الموجة الثالثة تنمو قوتهم, ويزداد نفوذهم, ولكن ليس من خلال القنوات الرسمية سواء المؤسسات الحكومية أو العمل الحزبي, ولكن من خلال المنظمات غير الحكومية, وهي تعبر عن آرائها خارج إطار الأحزاب السياسية التقليدية.

إنهم أصحاب الموجة الثالثة الذين يسيطرون على المجتمعات الإلكترونية الجديدة التي تظهر حول الإنترنت, وهؤلاء هم الذين ينشغلون بتفتيت وسائل الموجة الثانية للاتصالات وتصنيع بديل تفاعلي لها.

وقادة الأحزاب التقليدية الذين يجهلون الحقائق الجديدة سوف يزاحون جانبا كما حدث لأعضاء البرلمانات في إنجلترا الذين تخيلوا أنهم ضمنوا مقاعد مقاطعاتهم للأبد.

وفي إطار المتغير الكبير يضع آل توفلر (أجندة) للقرن الحادي والعشرين تتضمن المبادىء الآتية:

ـ أي مؤسسة جديدة يجب ألا تقام على غرار المصانع القديمة شكلا وتنظيما وإدارة.

يجب ألا تزيد أية مؤسسة من تكتيل المجتمع.

يجب عدم تركيز السلطة عند القمة, بل يجب دفع عملية اتخاذ القرار من القمة إلى الحواف, وإعطاء السلطة للموظفين, لأن القمة محرومة من المعلومات التي يمكن أن تنتشر على القاعدة.

ـ بدلا من أن يتكون النظام رأسيا اعتمادا على تطوير النظام الهرمي في الشركة وزيادة تعقيده تزيد فعاليته عن طريق الاتصال أفقيا بالخبرات الموزعة في الأسواق المحلية, وعلى سبيل المثال تتعاقد شركات الموجة الثالثة مع شركات أصغر, ولكنها أكثر تخصصا ومتقدمة تقنيا. وتتخلص من الأعداد الكبيرة للموظفين, وتجري أنشطتها في أماكن متوزعة.

ـ تقوية الأسرة, وإعادة النظر في الأعمال التي يمكن أن تقوم بها, واليوم هناك ثلاثون مليون أمريكي يقومون بجزء من أعمالهم في البيت, يستخدمون الحاسب الآلي, والفاكس, وتقنيات الموجة الثالثة الأخرى. وسوف يأتي التغير الحقيقي حينما يخترق التلفاز المتصل بالحاسب الآلي المنزل, ويدخل في إطار العملية التعليمية, ويقوم المريض بوظائف طبية كثيرة بالمنزل: فحص ضغط الدم, واختبار الحمل ـ وسوف تتنوع الأسر, وذلك انعكاس لما نشهده في الاقتصاد والثقافة.

وتحتاج المجتمعات الحديثة إلى معركة طويلة الأجل لإعادة إصلاح المجالس النيابية الحالية, وسوف يمتد الإصلاح من الصعيد المحلي إلى الصعيد الدولي, وسوف نقابل (آلية القانون الدولي) بدءا من الأمم المتحدة من جهة, إلى مجالس المدن والقرى المحلية من جهة أخرى, وعلينا أن نزيل واجهات الموجة الثانية.

لقد أصبح حكم الأغلبية بالياً, ونحن نتجه بسرعة إلى مجتمع مفتت, فلم يعد حكم الأغلبية يمثل العدالة الاجتماعية, ففي مجتمع الموجة الثالثة يقل عدد الفقراء.

ومبدأ 15% لتمثيل الدائرة الانتخابية ليس إلا أداة لتقدير كمي خالص, لا تعطي أية أدلة عن آراء الناخبين, ومع تفتيت المجتمع تتزايد الجماعات وتتنوع, وتزيد الأقليات التي يجب أن تعبر عن نفسها, شريطة ألا تسيطر أقلية, ولايفضي التنوع إلى تعاظم حدة التوتر والصراع الاجتماعي, بل إنه يمكن أن يهيىء المناخ المناسب إذا وجدت تنظيمات وترتيبات اجتماعية ملائمة, يتعاون الأفراد من خلالها, وتجري بينهم معاملات, ومقايضات, وعلاقات تكافلية.

التمثيل النيابي الحالي أصبح غير ذي موضوع لعدم وجود اتفاق جماعي بين الناخبين في الدائرة, ولسيطرة البيروقراطية الحكومية على السلطة البرلمانية.

ولا يستطيع أعضاء البرلمان متابعة حركات الجماعات الصغيرة, وعمل صفقات باسمها, وبالتالي على أعضاء هذه الجماعات أن يقوموا بالعمل بأنفسهم, يروجون لسن القوانين التي تسهل مهمتهم الجديدة, وهنا يثار اعتراضان على مثل هذه الطريقة.

الأول: أن الديمقراطية المباشرة لا تتيح أية سيطرة على ردود الأفعال الانفعالية, والثاني: أن وسائل الاتصال لم تعد قادرة على تشغيل آلياتها.

ويمكن علاج مشكلة ردود الأفعال الانفعالية المبالغ فيها بوسائل مختلفة, مثل إرجاء تنفيذ القرار حتى تهدأ المشاعر الانفعالية, أو بعد إجراء تصويت ثان, والاعتراض الثاني يمكن علاجه, لأن وسائل الاتصال اليوم لم تعد عائقا في سبيل الديمقراطية المباشرة المتوسعة.. فالتقدم التقني اليوم يتيح للمواطن المشاركة المباشرة في عملية صنع القرار, سواء عن طريق التصويت مباشرة, أو المشاركة في المناقشة على الهواء.

توزيع القرار

من الضروري أن يفتح النظام منافذ لمزيد من سلطة الأقليات, وأن يسمح للمواطنين بأن يلعبوا دورا أكثر مباشرة في شئون الحكم. ويهدف المبدأ الثالث الحيوي لسياسة الغد إلى الخروج من مأزق اختناق القرار, بإشراك مزيد من الأطراف, وتغيير موقع صناعة القرار وفق ما تتطلبه المشكلات.

وعلى الرغم من كل المحاذير التي تثيرها اللامركزية ليس هناك طريق آخر لإعادة الرشاد والنظام والكفاءة الإدارية لكثير من الحكومات إلا بالتنازل عن قدر محسوس من السلطة المركزية.

وتعتمد مساحة الديمقراطية في أي مجتمع على مسئولية القرار فيه, وإذا كانت المسئولية ثقيلة فإنه يتعين اقتسامها إن عاجلاً أو آجلا, من خلال مشاركة ديمقراطية أوسع.

ولقد أصبح الصراع الحاسم اليوم هو الصراع بين هؤلاء الذين يحاولون أن يساندوا المجتمع الصناعي ويحافظوا عليه, وأولئك المستعدين لتجاوزه والتقدم إلى الأمام.

لقد وجدت بعض الأجيال لكي تبدع حضارة, والبعض الآخر لتصونها وتحافظ عليها, والأجيال التي بدأت الموجة الثانية للتغير التاريخي كانت مضطرة بحكم الظروف أن تكون أجيالا مبدعة وخلاقة, فالرجال من أمثال مونتسكيو, وميلز, وماديسون هم الذين اخترعوا غالبية التقاليد والأعراف السياسية التي مازلنا نسلم بها حتى الآن فحينما وجدوا أنفسهم محصورين بين حضارتين أبدعوا أفكارا جديدة.

وبالمثل فنحن محصورون بين تقاليد الماضي والحاجة لخلق تقاليد جديدة للموجة الثالثة, وقد شرع ملايين من البشر في كثير من البلاد بالفعل يقومون بهذه المهمة, والأحوال أشد ما تكون تخلفا, وتهالكا وخطورة في الحياة السياسية عما هي في أي مجال آخر, فالمجال السياسي هو الأشد افتقارا إلى الخيال والتجريب وإرادة التغيير.

يقرع آل توفلر الجرس لكي يحذرا هؤلاء الذين يقفون في وجه الموجة الثالثة بأن دوامة التغيير سوف تجرفهم, وأن هؤلاء الذين لم يركبوا الموجة سوف يظلون متخلفين في مزبلة التاريخ.

ويشيران إلى أن العامل الرئيسي للتغيير هو إنجازات تقنية المعلومات, وأنها في أشكالها المتطورة تحدد كل سمات المجتمع الجديد.. شكل العائلة, والثقافة, والمؤسسات, والعلاقات الاجتماعية, وحجم التصنيع والتسويق ووسائل الإعلام, والتعليم.. إلخ.

وأهم ما يقوله آل توفلر أن الكثيرين مازالوا لا يشعرون بطبيعة هذه الموجة, والمجتمعات لكي تنجو من هذه الأزمة التي نعيشها نتيجة للصراع بين حضارتين في حاجة إلى جماعة من المفكرين المبدعين ترشد المواطنين إلى طريق العبور من الموجة الثانية إلى الموجة الثالثة.

ويوضح هذا الكتاب مدى التقدم الذي وصلت إليه الدول المتقدمة, وشكل الديمقراطية المرتقبة, وهو قد يساعدنا على رسم طريق التغيير لمجتمعاتنا, ولكن بالطبع ليس للوصول إلى الموجة الثالثة, فمازلنا لم نرسخ بعد كل مقومات الموجة الثانية, ولم ندعم كياناتها.

نحن لانزال لم نمر بأطوار التقنية التي وصلت إليها البلاد المتقدمة فنحن لم نفجر الذرة, ولم نشارك في اكتشاف الفضاء ولم نصنع الحاسب الآلي, ومازلنا لا نعرف الكثير عن الهندسة الوراثية, والطاقة المتجددة من الشمس والرياح وغيرها.

مصانعنا متخلفة من الطور الأول في الثورة الصناعية, ولم نتدرب حتى على صيانتها وتجديدها, والآلات والمعدات التي نستوردها نتركها تتهالك أمام أعيننا ولا نحاول إصلاحها, ونحن إذن في حاجة إلى طريقة تفكير آل توفلر لا لنصل إلى الموجة الثالثة, بل لندعم ونرسخ الموجة الثانية أولا, ولعلنا نستطيع بعد ذلك أن نطوي المسافة التي تفصلنا عن نهاية هذه الموجة بأسرع ما يمكن حتى نلحق بركب الموجة الثالثة.

 

الفين وهايدي توفلر

 
  




غلاف الكتاب