الإنسان العابر والأدب

الإنسان العابر والأدب

عرض: محمد سيف

مع انتهاء عام 1996، أعادت فرنسا تقييم دور كاتبها ومفكرها العظيم (أندريه مالرو)، وقد تجلى ذلك في الاحتفال الكبير الذي عم فرنسا والأوساط الثقافية العالمية، وفيه تم نقل جثمان أندريه مالرو من مقبرته إلى البانثيون Le Pantheon (مقبرة الخالدين) بحي السوربون بالضاحية الخامسة في باريس. وترافق مع ذلك الاحتفال إعادة طبع لأعمال المفكر جميعاً، مما سيكون له أبلغ الأثر في إعادة تقاليد المغامرة الإنسانية إلى مجال الإبداع الأدبي الفرنسي، ودفع الأصالة من جديد لتتصدر ساحة الإنتاج الفكري.

وبعيدا عن الحديث عن الأثر البالغ لحياة وإبداع أندريه مالرو في الأدب والفكر العالميين وكذلك بعيدا عن الحديث عن مغامرته التي بدأت مع مستهل هذا القرن حتى وفاته عام 1976 والتي شارك بها في أحداث عصره مشاركة دفعت به إلى صدارة هذه الأحداث كرجل فكر ورجل فعل، يمكننا القول بأن إبداعه لم يقتصر على إنتاجه الأدبي لروايات كانت علامات في تاريخ الأدب الروائي العالمي، كـ (قدر الإنسان)، (الرصيف الملكي)، (الفاتحون)، (غرقى الألتنبرج)، و(الأمل)، وإنما امتد إلى تناول القضايا الفكرية التي شغلت إنسان هذا العصر خاصة في مجالين كبيرين هما: حوار الحضارات، وتحولية الأشكال عبر تاريخ الأدب والفنون، خاصة بعمليه الكبيرين: المتحف الخيالي، و(الإنسان العابر والأدب).

الحوار مع الماضي

في هذه القراءة نعرض لكتابه: ( الإنسان العابر والأدب )، الذي كان آخر عمل أنجزه قبل وفاته وصدرت الطبعة الأولى له عن دار نشر ( جاليمار ) أواخر عام 1977، وأعيد نشرها هذه الأيام.

يعود أندريه مالرو بذاكرته في مستهل الكتاب بالفصل الأول المعنون بـ ( صور بالمدخل )، ليحكي أنه قبيل الحرب العالمية الثانية، خطرت له فكرة أن يطلب من الكتاب أن يكتبوا ما يعن لهم من أفكار حول أساتذة الماضي الذين بهم رغبة للحديث عنهم.

ويحكى أن هذه الكتابات التي نشرت في مصنف جمعها مع مقدمة لأندريه جيد، حفلت بمقالات تمحورت حول الحوار مع الماضي، وهو الحوار الذي أسفر عن اكتشاف أن ( التحولية Metamorphose لعبت دورها بالأدب، كما لعبت دورها بالفنون، فكثير من الكتاب ممن لم يحظوا بتقدير في عصرهم حظوا بهذا التقدير في أزمنة تلت، ذلك لأن ( أسرار العبقرية كثيرة لدى الفنانين الذين صار يعترف لهم المعاصرون بالموهبة )، فلم يعترف أحد من معاصري ( سرفانتس ) أو ( شكسبير ) بهما كعملاقين في زمنهما، ويورد مالرو هذا الحوار الذي جرى بشأن ( موليير ) بين لويس الرابع عشر والسيد ديسبرو مستشاره:

ـ (يا سيد ديسبرو، من هو أكبر الكتاب في مملكتي?

ـ يا مولاي إنه موليير..

ـ عجبا!.. أنا لا أعتقد بذلك.. ولكن ربما كنت أنت تعرفه بشكل أفضل مني.

يقول أندريه مالرو في هذا الفصل: ( إن فهم عمل إبداعي )، ليس تعبيرا أقل غموضا من ( فهم إنسان ، فليس المطلوب جعل العمل مفهوما، وإنما المطلوب هو الشعور بما صنع قيمته. لأن فهم عمل أدبي لا يشترك في شيء مع فهم محاضرة. ففي الحالة الثانية لا يفهم القارىء شيئا، وفي الحالة الأولى، يضل. لأنه ـ عبر محاكمته المقصودة لهذا العمل ـ يسبغ على الفنان غرضا ليس له. ويقر به من أن يتطابق، أو لا يتطابق مع هذا الغرض المفترض ).

وفي الفصل الثاني من الكتاب، وتحت عنوان ( متخيل الواقع )، يعقد مالرو مقارنة بين القرن الثالث عشر والقرن العشرين، باعتبار أنهما ( قرنان للصورة ) ولكن على نحو متعاكس. فقد لعبت الصور الجدارية ولعبت المزججات المسيحية بكنائس وكاتدرائيات العصور الوسطى، عبر الصورة، الدور الرئيسي في تشكيل وعي جمهور ذلك الزمن، مكونة عالم الصور الوحيد، ومشكلة أكثر أدوات الاتصال جبروتا مع ما هو ( فوق الطبيعي )، بمكان مقدس، تعاقب فيه القانون أمام الكوة المزججة التي لا تقهر للخلود، فقد قامت الصور مع الطقس الذي كانت في خدمته، بتصيد حقيقة الأعماق العظيمة، التي لم تحاول الأزمنة اللاحقة عليها تشويشها. وكانت الصور تقدم تعبيرا عما هو غير مرئي، فالنحات المسيحي لم ينحت خراف القرية، وإنما نحت خراف الكتاب المقدس. ولم تقدم أعمال النحت والتصوير في عصر الفروسية أي فارس بطل، لأن الأبطال كانوا هم القديسين المحاربين.

وفي عرضه للبروتستانتية وثورتها في الفصل الرابع: ( متخيل الوهم )، يربط مالرو بين الوعي الذي أتت به البروتستانتية وبين التجريد الذي سمح للمسيحي بالصلاة الفردية، وجعله يقيم علاقة خاصة قائمة على ما ينسجه هو عاطفيا وذهنيا من أفكار منفردة قائمة على متخيل الوهم، وكان ذلك هو التمهيد الكبير لعصر الرواية والكتابة القاتمة على هذا النوع من المتخيل. ويقول مؤلف الكتاب: إن أي ثورة حدثت أو تحدث في العالم لابد أن يكون قد سبقها إعداد للمتخيل الذي يمكن من استيعابها فيما بعد ). وكما قدم من قبل ( متخيل الواقع ) الحكاية بأبطالها الدينيين والخرافيين، جاء متخيل الوهم لكي يكون ميلاد ما نسميه الآن ( بالرواية ) على يديه.. فليست المطبعة هي التي أسست لذلك، وإنما جاء مقدمها من بعد ذلك ليساعد عليه، فقد صار بإمكان الإنسان أن يقرأ وحيداً، وأن ينسج علاقته الخاصة مع الشخصيات والأحداث التي يقرأ عنها.

أما الفصل الثالث الذي أسماه مالرو ( انبعاثات ) فقد ناقش فيه كيف أن النهضة في أوربا عملت على إحياء الأقدمين، فمعها أمكن للفلسفة وللمسرح الإغريقيين من العودة ثانية والتأثير في الوعي وفي المتلقي، ومع انبعاث الأقدمين بدأ دخول المتخيل الدنيوي، وحصل المتخيل الدنيوي على مكانة المتخيل الديني عندما صار للأدب أخيرا مكانة تضاهي مكانة التصوير، وصار ورثة مايكل أنجلو هم شكسبير ومونتفردي وكورني. وقد تطلب لذلك الأمر أن يعلي بلوتارك من شأن حق الإنسان في العظمة، لكي تتنافس أخيرا أفروديت مع العذراء، ويتنافس البطل مع القديس. ولكي تولد أيضا صالات المسرح الملكية، التي أصبحت تنافس الكاتدرائيات.

وتحت عنوان (متخيل الكتابة) يعرض مالرو لظهور الرواية، التي هي (ألف ليلة وليلة) الغرب كما عبر عن ذلك رينان، فاللعبة الكبرى للإنسان وللمتخيل، التي لعبت بالتصوير، وبالمسرح والكنيسة، جرى لعبها بالرواية.

هذا الشكل الأدبي الذي لم يكن له نموذج ولا ماض، والذي لم تحدد أعمال النقد الجامدة فكرتها عنه في بداية الأمر إلا (بتوصيفه كجنس أدبي هابط) كما ذكر سان بيف. وهنا يقف (مالرو) وقفة خاصة أمام بلزاك الذي يعزى إليه اكتشاف كل ما هو موجود بالرواية غير القصة المحكية، والذي أتى بالبعد الثالث للرواية، ممثلا في متخيل الصمت، والذي تولدت على يديه في صورة بطله (راستنياك) شخصية الطموح، التي عبرت عن جانب شديد الأهمية في الفردية الحديثة. فعالم الطموح وهو الذي أصبح فيما بعد عالم الفردانية، أعطى نفسه لبلزاك بقدر أكثر مما أعطى للشخصية التي غذت سراً أو علانية فكرة الفردانية من ستندال وحتى دستويفسكي، وهي شخصية بونابرت.

الشخصية والنمط

تحت عنوان (مغامرات المتخيل)، يسرد مالرو فصلا يناقش فيه عالم فلوبير، ويبرز بشكل خاص موضوع الرواية التي تنطلق من الحادثة المنشورة، خاصة في رواية (مدام بوفاري)، فمع فلوبير، يقول مالرو، انضمت الرواية للأدب، ووجد فيها الروائيون الطبيعيون، المتشددون ضد الأكاديمية أبا لهم. وعند الحديث عن السينما وعجزها عن تقديم الأعمال الروائية، يفرق مالرو بين الشخصية والنمط، فالسينما، التي هي وريثة أدوات المسرح، أخذت عن هذا الأخير تقنية تقديم الأنماط، أما الرواية فقد تأسست على بناء الشخصيات التي لم تنحصر في أنماط. وفي عرضه للرواية الروسية يذكر بأثر بلزاك العظيم على الروائيين الروس العظام، ويشير إلى المسيحية كمرجع رئيسي للروائيين الروس، محددا بذلك أن الرواية الروسية العظيمة، هي نفسها الرواية الأوروبية منظورا لها عبر الموت.

وفي فصل عنوانه: (مهن هاذية)، وهذا التعبير هو ما أطلقه بول فاليري على محترفي مهن الأدب والفن. يكتب مالرو عن العلاقة الخاصة التي ربطت الكتاب بأبطالهم، فلوبير بشخصية (إما بوفاري)، وتولستوي بآنا كارنينا، ويشير إلى ذلك العالم الموازي للعالم المعيشي، الذي يحيا فيه المبدعون، أو الذي هم سجناء به، وهو عالم المتخيل. فعالم الكتابة عالم للهذيان، فالروائي يشبه أكثر الأساتذة إدمانا للتصحيح، وهو يلاحق ما فعله بشكل هاذ، ليحقق مع خيالاته علاقة مستديمة (وهو التعريف الوارد للجنون). (لقد ولد الخلق الروائي من المسافة التي تفصل الرواية عن القصة التي تحكيها، تلك التي لم نر فيها إلا الحوار الدائر بين المؤلف وخياله عبر وسيلة الكتابة، بالتعديلات والإضافات، في حرية لا يحدها أي أداء، ولا أي نثر شفوي، ولا أية ذاكرة، بل هناك مكوك يعمل فحسب بين المؤلف وبين الشخصيات، والهامش الذي يتكاثر به هؤلاء، والوعي غير المنفصل بأن الروائي لا يتوجه لمحاور أو لمتفرج، وإنما لقارىء). (والفن ليس عقيدة، لكن الفنان الخالق ينقاد بلا انقطاع لنداء باطني، ليس هو الرضا، وإنما هو نداء مرتبط بقوة بالتعريف الذي يعطيه القاموس للإيمان، أي (الالتحام الكامل للقلب والعقل). فالدعوة للخلق، التي ردد صداها المتحف الخيالي على نحو لا جدال فيه، تتواجد على قدم المساواة مع الاحتياج الديني للتقرب ـ وربما على قدم المساواة مع الإحساس الأمومي.

وفي عرضه لمسار التحولية بالمتخيل، منتقلا من المسرح إلى الرواية إلى الصحافة، يفرد مالرو فصلا بالكتاب عن خطوات السينما الأولى بعنوان: (الخطوات الأولى للصور)، ثم يعرج من السينما إلى التلفزيون. شارحاً انه حتى عام 1939، كان سر وجود الصحافة هو عرضها لعالم مدرك بالذهن، ولكن التلفزيون بعد ذلك راح يعرض عالما أكثر نفاذا للصبر، وأقل قابلية للإدراك، فما يقدم عبر الشاشة الصغيرة مقارنا بمجلات الحوار يجسد ما يشبه الرواية البوليسية، فقد انقلبت العلاقة مع الأحداث الجارية. إذ سيطر الخيال عليها في السينما عبر الجريدة السينمائية، وورثت الأحداث الجارية المصورة بالتلفزيون المجلات أكثر مما ورثت السينما. وصار الخيال هو المسلسل ـ التبعية، ويوضح مالرو أن اللغة الخاصة للسينما قد هددت، مرتين على الأقل، بالتنافس مع متخيل الرواية، لا مع متخيل الكروت المصورة. المرة الأولى كانت مع (شابلن) ابتداء من فيلم (المهاجر)، ولكن لغة شابلن ذابت في لغة شخصية (شارلو). والمرة الثانية كانت مع إيزنشتين.

وفي فصل يفرده مالرو بالكتاب تحت عنوان الطائفة La Secte، يضع المؤلف كل مبدعي الأدب الرفيع الذي يحتل الرف الأول بالمكتبة وهؤلاء الذين يقرأون أدبهم وكذلك الفنانين ومن يتلقون أعمالهم بحساسية، في إطار ما يدعوه بالطائفة، فهم بشر يستمدون جانبا كبيرا من تعاملهم الوجودي مع الكون عبر الأشكال، وعبر التعلق بالخيط الخفي الذي يقيم التحولية عبر الأشكال وفيما بينها. والطوائف جميعا تشترك في أنها لا تتكون من بشر أحرار في أن يهجرونها عند اللزوم، وإنما من بشر مسممين بها.وهو يقول إنه لا أحد يظهر بين الحين والآخر هاويا للأدب، فإما أن يعيش المرء، أو لا يعيش حياة أدبية، حتى لو أضاع نصف حياته في المتاهة كما حدث لعدد من الكتاب الفقراء.

والطائفة تعيش في فنها المختار. والمتنزه الذي يشتري ذات صباح بشكل عابر طبعة (لماكبث)، أو ( دير بارم )، أو ( الممسوسين ) لم يعد موجوداً لأن من يقرأ ( الممسوسين ) يفعل ذلك لأنه قرأ من قبل ( دير بارم ).

والفنان، وإنسان الطائفة، يعاني أمام العمل الفني حالة عضوية خاصة، ربطت بينها الحقب المختلفة، وبين الجمال، أو بين تلك الحالات العضوية المتراوحة بين الغبطة والضيق. وبعض المجالات تفتننا لأننا لا نسيطر عليها، ومن بينها الحب والموت. ولو لم يكن هناك أي عنصر دوجماطيقي للأدب لصارت علاقتنا به معقدة كعلاقتنا (يقصد بشر الطائفة) بالحب، لا الحب لكائن، وإنما الحاجة للحب، تلك التي غالبا ما درست في شكلها الديني، والتي نعرف جميعا أن لها مظهرا مؤسفا وهزليا، كالحاجة للزواج من الأرامل اللاتي كان الزواج بهن سعيدا، فالاحتياج للفن لا يمتزج بالحكم الذي يشرعه، أكثر من امتزاج المحبة بالرغبة الجنسية.

مرآة تذرع التاريخ

وفي إفاضته في الحديث عن التحولية التي تقودنا بعد ذلك إلى (الصدفوي) وهو ما يعتبره مالرو مرجعية الإنسان المعاصر، يعيد الخيط الناظم لهذه التحولية إلى غير المرئي. الذي يطارده الإنسان سواء في علاقته بالمقدس أو من خلال السؤال المطروح عليه عبر الموت.. يقول مالرو: (وكما يقارن أحد قالب (رأس إخناتون)، مع الرءوس المنحوتة للفرعون. يتنافس الكتاب مع الحياة، كما يتنافس النحت مع القناع، عبر ما يميزه. ولم ينسخ الإنسان الحياة، حتى ولو اعتقد بأنه فعل ذلك، لأنه اختار البازلت المصري، والورق الصيني، والمكتبة، وهذه هي لحمة الأسلوب،التي صارت منافسا لذلك الكوني المتعذر الإمساك به. ربما لأننا في كوننا المحكوم عليه بالفناء، تبقى أمامنا لحمة الأسلوب هذه كما تبقى الروائع، ويبقى القناع، كما تبقى المومياوات.

وعلاقتنا بالأدب، المطروحة عبر التحولية، تنفصل عن سابقاتها فيما يجعل هذه الأخيرة تستلهم كلها من دوامية ما، أي تستلهم الجمال، والمنطق، والتعبير، والعاطفة. فمرجعيته تستحوذ علينا بشكل أقل مما تفعل طبيعته، منذ أن صارت هذه الطبيعة لغزا.

ويتساءل مالرو في حديثه عن الأدب عن موقف حضارته:

إنه هذيان، ولكنه اقترح في ذاته أكثر من مرآة تذرع التاريخ، ومقدرة) تواصل الإنسان من خلالها مع نفسه، كما فعل من خلال الآلهة، والأبطال والقديسين ـ من خلال ما تحرر من خضوعه للجوهري، من أجل رهان مجهول. ولكن كيف لحضارة انحشرت في آن معا بالتاريخ وعدلت حوارها مع كل متخيل أن تصون العلاقة التي تأسست بالقرن التاسع عشر مع فن حولته ـ على حين أنها جهلت، للمرة الأولى، ما الذي تنتظره من الإنسان?.

أما في فصل الكتاب الأخير الذي يتخير له مالرو عنوانا (الصدفوي)، فهو يستهل الحديث بتساؤل يأتي نتيجة منطقية لكل ما سبق العرض له بالكتاب، هذا التساؤل هو: (لقد جرى ائتمان القارىء على القدر في متخيل الرواية. فما الذي حدث مع متخيل الصور?.. لقد حدث في القرن التاسع عشر أن جرى اعتبار القارىء الذي تنحصر قراءته الأساسية بالأعمال الروائية مثقفاً، فما هي ثقافة عصرنا التي تستند إلى الأفلام العظيمة? لقد حمل الولع بالرواية ولعا بالإنسان، في حين أن المولع بالسينما ليس منشغلا بالإنسان وإنما بالسينما. وثقافة الاثنين فضلا عن ذلك هي الثقافة التي أتت بها الرواية، كخبرة أكثر منها معرفة، وكمشاركة أو كتواطؤ أكثر منها دقة. فصنعة الروائي لم تأت فقط من فردية القرن التاسع عشر، وإنما من الشخصية التي أمكن للرواية الإمساك بها من الداخل والخارج في آن معا، فقد عبرت عن الشعور الذي خبره الفرد بذاته. وقد اعتقد الفرد بمعرفته بنفسه من الداخل من حيث معرفته بأسراره، ومن الخارج لأنه تعامل مع صلته بالخارج باعتبارها مرآه ضخمة، اعتقد أنه ينظر لنفسه فيها (بموضوعية). والرواية قدمت الشخصيات كما يرى الفرد نفسه، وقدم المسموع المرئي الفرد كما يراه الآخرون.

فهل تطابق عدم مقدرة الصورة على إدراك داخل الإنسان مع الأزمة التي واجهها الغرب في الوقت الذي ألتقى فيه بالتحولية?

بين المعنى والعبثية

إن التحولية الشاملة الوحيدة التي خضعت لها قارتنا، يقول مالرو، (كانت تحولية العالم القديم في المسيحية، لأنه حدث فيها تحطيم لهذا العالم، وتحول له). ولم يلتق العبور من المسيحية إلى مجتمع الأمم بأزمنة نهاية العالم. فمنذ زمن النهضة فقط ـ أى من نهاية متخيل الواقع ـ توقف المسيحيون عن تعيين قيمة الإنسان عبر قيمة المسيحي.

وجهد البحث عن النمط النموذجي الذي استلهموه في الإمساك بخاصية المتخيل الدنيوي، أي أن الإيمان في تراجعه ترك أسطوله متوحلا في الرمال).

ولقد صاغت المسيحية المسيحيين، ولم يقم العلم، الذي لم يكوِّن بعد قيمته الناظمة، بصياغة أي ملحد. فهو قادر على أن يعد وحدة القوة النووية، وأن يكتشف التحذير، ولكنه لم يستطع أن يعمل على تربية مراهق بالاقتصار على نفسه. فمع ضعف السلطات التقليدية التي عملت على تكوين الإنسان، كالإيمان، والدولة، والعائلة، وصنعت أوربا القرن التاسع عشر، من القرن العشرين إلهها المقبل، ولم تعبر علمويتها عن اعتقادها بما هي عليه فحسب، بل أيضا بما ستكون عليه. ولم يعد العلم بلا سلبيات، فالتخدير وعلاج السرطان المقبل، لم يمنع زراعة الأرض بالقنابل النووية، من أجل إعداد الجيل الأول في التاريخ الكوني، القادر على تدمير الإنسانية عبر السهو أو الخطأ.

وليس للعالم. ولا للإنسان معنى أمام الصدفوي، بما أن تعريفه ذاته هو استحالة المعنى ـ بالفكر كما بالإيمان. ونحن مخدوعون بقاموس مفرداتنا الذي يعطينا الخيار بين المعنى والعبثية. وليس يمكن للفرد أن يرد إنذار الموت. (فنحن)، والحضارات نعرف أننا فانون، واستحالة الإفلات الزائفة هذه التي ولدت عند (شبنجلر)، لا عند فاليري، جهلت بالتحولية لدى الواحد كما لدى الآخر. لذا يمكن ترجمتها في العبارة التالية: (شرنقاتنا الأخرى، فنحن نعرف الآن أننا مؤقتون).. لكن العلاقة بين الإنسان والموت ليست لها أية خاصية من خواص الحضارات، وحضارتنا تتحول أمام أعيننا. وسواء كانت مرتبطة بالصدفوي أم لا، فقد فرضت تحولية مقارنة في عمقها بالتحولية التي استبدلت بمتخيل الخيال متخيل الواقع. وهناك تحولية روحية تلوح في الأفق ـ أو تلوح بعض الشيء. ولكنها كافية لكي لا تظل حضارتنا مسجونة بشكل محتوم في مغامرة غير منفصلة عن الإنسانية، أو لعودة أبدية نتشوية، شبنجلرية أو مجهولة. فهل لنا أن نتخلى عن أن نرى في الإنسان ذلك الحيوان الذي لا يستطيع، ولا يريد التفكير في عالم يفر بطبيعته من قدرته على السيطرة عليه بعقله? أو هل لنا أن نتذكر أن الأحداث الروحية الهائلة كانت دائما مستعصية على كل تنبؤ?.

 

أندريه مالرو

 
  




غلاف الكتاب





أندريه مالرو