مساحة ود

مساحة ود

ارتواء

ما أسرع مرور الأيام. في السنوات الثلاث المنصرمة, تعرفت إلى كثير من أبناء العرب. ونشأت بيني وبين البعض منهم علاقات حميمة, ويوماً بعد يوم ازدادت ولم تزل تزداد, متانتها وطيبتها, ومع البعض الآخر, مع الأسف الشديد, تأكسدت الصداقة وصدأت فوجدت بيننا بعض الجفاء, وفي هذه السنوات أيضاً, تمشيت وتجولت في أسواق ضخمة وأزقة ضيقة, سافرت إلى مدن عربية عريقة ذات حضارة قديمة قدم التاريخ, وعشت كل هذه الفترة في دمشق مع أسرة شامية, فكانت تنشب (المشاجرات) بيننا أحياناً وتغلب علينا البهجة والضحك في أغلب الأوقات. هذه التجارب المتألقة المتنوعة, لم تكن مجرد إطار أكاديمي اجتماعي لتعلم اللغة العربية والخوض في المجتمع العربي فحسب, بل كانت هذه ضرورة حتمية لأعثر على الجذور الغائرة وأدرك السليقة التي تشكلت منها (لغتنا)العربية.

وأستطيع القول إن فترة إقامتي هذه كانت مفعمة باكتشافات جديدة ودراسات قيمة, وتجارب غنية, بيد أنني من هذه الفترة المديدة نسبياً, لم أزل على السطح أحصي النجوم بشكل مبعثر دون جدوى ولا أستطيع أن ألملم أفكاري وأوراقي, ولا أجيد حصرها.

في بلدي, في نهاية شهر يونيو كنت أتعرض كل سنة لأمطار شديدة, وما إن وصلت إلى دمشق قبل ثلاث سنوات, حتى تعرضت لوهج أشعة الشمس الحارقة. غير أن ما أضناني أكثر وأكثر هو شدة أمطار (اللغة العربية) ـ فصحى كانت أم عامية ـ وأنا أغرق في أعماق محيطها الشاسع, فكنت, على ما أتذكر, أخشى وأتساءل دون انقطاع: هل أتحكم في اكتساب القدرة اللغوية حقاً? وهل أتأقلم مع هذه البيئة? أتراني أقدر على أن أتحمل ثلاث سنوات من الغياب عن بلدي وأهلي وأصحابي...و....

ما كان يخفف من هواجسي وهمومي تلك, عطر طيب يفوح من الياسمين الدمشقي, أصوات أذان تتردد في كل أنحاء دمشق, مأكولات شهية رائعة أتناولها مع الأسرة السورية. وأخيراً ـوهو الأهم ـ أساتذتي في اللغة العربية الذين كانوا, ومازالوا, يتقبلون ويتحملون طباعي من الكسل وضعف الاستجابة وقلة الانتباه وغيرها.

والآن, أنا على وشك إنهاء الفترة الدراسية العامرة, سأبدأ العمل قريباً في سفارة اليابان بدمشق. وإن شاء الله سأستفيد مما اكتسبت خلال بضع السنين هذه من المعارف اللغوية والعلاقات الإنسانية والخصائص العربية وما إلى ذلك.

إنني لن أكف عن السعي لأن أكون جسر محبة صافية بين بلدي والبلدان العربية, ولاسيما سوريا التي تلفني بكرم ضيافتها وعطر ياسمينها وعبق ترابها لتتسع (مساحة الود) الحية بين العرب واليابانيين.]

أكيكو سايتو ـ دارسة للغة العربية ـ سفارة اليابان بدمشق.