أرقام

 أرقام

..ونصف كوب فارغ !

مستوى المعيشة قضية أساسية في مختلف المجتمعات، فالقصد النهائي لجهود يبذلها الفرد أو يبذلها المجتمع أن يعيش الإنسان بشكل أفضل.

وقد تصدت تاريخيا وسائل القياس للجانب المادي في حياة الإنسان، فذهب البعض لاتخاذ متوسط الدخل أو نصيب الفرد من الناتج مؤشرا للتقدم أو التخلف في مستوى المعيشة، وراح البعض يقيسون ذلك بمجموع ما يستهلكه الفرد من سلع وخدمات، أو مدى الوفاء بحاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وصحة وتعليم وثقافة، بل وترفيه أيضا. وذهب الآخرون لقياس التقدم والتخلف في حياة البشر بما يستهلكه من مواد أساسية كالحديد، أو بما يستهلكه من الطاقة كعنصر حاكم، وربما ما يحوزه أيضا من أجهزة العصر المنزلية الثلاجة، والتليفزيون، والتليفون، وأجهزة الفاكس.

تعددت الوسائل وراحت التقارير الدولية تلاحق ذلك، وأشار البعض منها إلى أن تقدما ماديا كبيرا قد حدث في الوطن العربي خلال أربعين عاما مضت. اتسعت البنية الأساسية خلالها، توفرت خدمات تعليمية وصحية أكثر، زادت نسبة مشاركة المرأة في التعليم وسوق العمل، انتشرت وسائل الاتصال، تقدم مستوى العمل وقلت وفيات الأطفال واختفت أوبئة كانت تودي بحياة الآلاف.

حدث كل ذلك، ولكن بقي " نصف الكوب الفارغ " وهو ما أسماه تقرير النتيجة البشرية لعام "96" بقضية "الحرمان". وكلمة الحرمان وصف أدبي، ومع ذلك فقد حاول التقرير الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن يترجم الكلمة بالأرقام فجاءت نسبة الفقر عالية، ونسبة الأمية تسبق الآخرين "1"، ونسبة الاستفادة من الخدمات الصحية أقل مما ينبغي.

سجل التقرير مظاهر التقدم، ثم سجل أيضا مظاهر الحرمان.

تحت خط الفقر

في منتصف التسعينيات كان عدد العرب حوالي "255" مليون نسمة، بينهم "73 " مليون تحت خط الفقر، وبينهم أيضا عشرة ملايين يعانون من نقص التغذية.

والفقر قصة طويلة ترتبط أحيانا بالتخلف الاقتصادي وانخفاض مستوى الدخل بشكل عام، وترتبط في أحيان أخرى بسوء توزيع الثروة وهي الظاهرة التي سجلتها تقارير دولية عديدة سواء على مستوى الدول أو داخل المجتمع الواحد، فظاهرة تركز الثروة يصاحبها عادة اتساع دائرة الفقر. وإذا كان الفقر، في جانب منه، يتصل بدرجة النمو ومعدل الاستثمار، فإنه على وجه آخر يتصل بحالة التوظف في المجتمع.. ووفقا لتقديرات عام "1990" كانت نسبة القوى العاملة في البلاد العربية "33%" فقط من عدد السكان، أي أن ثلث المجتمع يعول ثلثيه، وكل فرد يعول نفسه وفردين آخرين. نسبة الإعالة قضية أساسية وتشير الأرقام إلى أننا الأكثر تخلفا في العالم بالقياس لمجموعات دولية أخرى.. فنسبة القوى العاملة عالميا "47%" من السكان، وهي نفس النسبة التي تتمتع بها مجموعة البلدان النامية.

نسبة الإعالة قضية أساسية تتصل بالفقر، ويزيد من حدة المشكلة أمران: البطالة، والوطن العربي يحتاج إلى "45" مليون فرصة عمل جديدة كل عام.. ثم نسبة اشتغال المرأة حيث لا تتجاوز "لسن 15 عاما فما فوق وطبقا لأرقام سنة 90" : 25 بالمائة في مقابل "39%" لمجموع البلدان النامية. الأسباب كثيرة، والمشكلة هي الفقر.. حتى أن "6%" من السكان في الجزائر ومصر والمغرب وتونس عاشوا في النصف الثاني من الثمانينيات بمتوسط دخل يقل عن دولار واحد في اليوم.. كما بلغ معدل وفيات الأطفال في مجمل البلاد العربية "1994": 73 طفلا بين كل ألف مولود حي.. أي أن ما يزيد على 7% من الأطفال يموتون تحت سن الخامسة نتيجة الفقر وسوء التغذية وسوء الرعاية الصحية.. كما أن "12%" من هذه الشريحة، وخلال فترة "85 ـ 1995" كانوا من ناقصي الوزن.

هذه الملايين المحرومة

وإذا كانت دائرة الحرمان تبدأ بالفقر وغياب فرص العمل، فإن الدائرة تتسع لتضم مظاهر الحياة اليومية من مسكن ومأكل ومياه وخدمة صحية أو تعليمية.

في تقدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن الذين عانوا من غياب المرافق الصحية في الفترة بين "90 ـ 95" قد بلغ عددهم: "98" مليون مواطن عربي أي نحو "40%" من السكان.. بينهم "36" مليونا محرومون من الخدمات الصحية. أيضا فإن المحرومين من المياه المأمونة النقية قد بلغ عددهم خلال هذه الفترة "67" مليونا!.

فإذا انتقلنا إلى دائرة أخرى تصل الإنسان بعالمه، وتمثل العتبات الأولى للمعرفة فإننا نفاجأ بأن نسبة الذين لا يعرفون القراءة والكتابة عام "93" 47% من السكان البالغين وبما يزيد على الستين مليون عربي. ستون مليونا لا يجدون سبيلهم للمعرفة، اللهم إلا ما يلتقطون في الحياة اليومية أو عبر المذياع والشاشة الصغيرة!

بطبيعة الحال فإن الأمر يتصل بالتعليم فنجد تسعة ملايين من الأطفال خارج التعليم الإبتدائي، و"15" مليونا ممن هم في شريحة سن التعليم الثانوي.. خارج الدائرة. الأخطر، وهو ما يحمل دلالة عامة تتصل بحرمان الأمة، وليست أجزاء منها هي نسبة المعاناة من نقص المياه. إن "55%" من تعداد السكان العرب يعانون من ذلك حيث لا يزيد متوسط نصيب الفرد من المياه على ألف متر مكعب في العام.

نصيبنا من الماء ضئيل، والصراع من حولنا يؤكد أنه سوف يقل عاما بعد عام وبما يؤثر على التنمية الاقتصادية والبشرية، وربما أمن المنطقة كلها.

نساء ورجال

الحرمان يشمل الجميع، ونصف الكوب الفارغ يضم عشرات الملايين، ومع ذلك يبقى للمرأة مركز الصدارة في الحرمان!.

في سوق العمل هي الأخيرة، فواحدة فقط من بين كل أربع نساء يدخلن مجال الحياة العملية، فإذا دخلت فبأجر أقل، وإذا ضاقت فرص العمل كانت أول من يعود إلى البيت. صحيح أن نسبة تعليم الفتيات قد ارتفعت بسرعة، ولكن الأمية مازالت واسعة الانتشار، حتى أن نسبتها في البلدان العربية قد تراوحت بين 26% و78% من عدد الإناث، بل إنه وفي عام 1993 كانت معظم النساء أميات في سبع بلاد عربية من بين خمسة عشر بلدا قدمت بيانات عن إلمام النساء بمبادىء القراءة والكتابة.

في مثل هذا الوضع يصبح طبيعيا أن تكون مشاركة المرأة في العمل السياسي محدودة حتى لو تم استدعاؤهن لأغراض قبائلية أو حزبية إلى صناديق الاقتراع.

الأهم، أن تكون المرأة فاعلة سياسيا. والدراسة تقول أن المرأة العربية لا تحوز أكثر من 4% من المقاعد البرلمانية.

حرمان المرأة هو الأكثر، لكن هناك حرمانا يفوق ما يعانيه الرجل والمرأة اللذان يعيشان فوق الأرض العربية. ذلك هو حرمان اللاجئين الذين يتركون أوطانهم تحت وطأة الحروب أوالاضطهاد السياسي.

من بلادنا ووفقا لأرقام مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين "96" فإن هناك نحو خمسة ملايين مواطن عربي فروا إلى خارج الأوطان:

"3.2" مليون فلسطيني، "630" ألف عراقي، "446" ألف صومالي، "424" ألف سوداني، و"362" ألفا من أريتريا.

كلهم محرومون من الأوطان، ويحملون لقب لاجيء طبقا لتعريف القانون الدولي، "إنهم الخائفون من الاضطهاد في بلادهم أو الذين تجبرهم الاضطرابات والحروب على الهجرة"!

خمسة ملايين تعترف بهم مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، أي نحو "2%" من سكان المنطقة العربية، والوباء ينتقل من دولة إلى أخرى.

الرقم لا يشمل المهاجرين اختياريا، أو حالات الهجرة التي عادت مثل لبنان وغيرها.

الحرمان العربي تترجمه الأرقام، ونصف الكوب الفارغ مازال بحاجة لمن يملؤه، وربما لمن يتذكر، ولا يكفي أن نتغنى بنصف الكوب الممتلىء.