شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

عندما جثا "لويس" رافعا راية التسليم!

انتفضت دمياط فجأة, وفتح الناس أعينهم في حيرة, وهم يلمحون الأفق البعيد ينشق عن مئات السفن التي ملأت صدر البحر العريض, وما كانوا يدرون أن هناك ألفا وثمانمائة سفينة ضخمة قد أبحرت من شواطىء فرنسا تحمل عشرات الألوف من الجنود يقودهم ملك فرنسا المغامر المتعصب لويس التاسع, وفي حاشيته صفوة أمراء فرنسا وقوادها وذوو الرأي والمكانة فيها. وكان هدف لويس أن ينتزع القدس من العرب ويجعلها تابعة لفرنسا, ثم يبسط نفوذه على فلسطين والشام, ولم يجد سبيلا إلى تنفيذ خطته إلا بالاستيلاء على القاهرة أولاً, والطريق إلى القاهرة يبدأ من دمياط. ولكن لويس لم يصل إلى القاهرة, ولهذا لم يصل إلى القدس, بل وصل إلى بيت القاضي فخر الدين بن لقمان, سجينا, مسكينا, جاثيا أمام أبواب دمياط والمنصورة, رافعا راية التسليم في ذلة وانكسار..!.

معركة دمياط

تلفتت دمياط ترمق (أشموم طناح) حيث المعسكر السلطاني رابض هناك, والملك الصالح نجم الدين أيوب يغالب أوجاع المرض الذي داهمه في الشام, فاضطر إلى العودة إلى مصر محمولا على محفة ليدير شئون القتال. وجالت نظرات دمياط خلال القلاع والحصون, فإذا بالأمير فخر الدين قائد الجيش يرسم مع أعوانه خطط الدفاع والمقاومة. ثم استرجعت نظراتها ثانية لتلقي بها عبر البحر حيث السفن تقترب وتقترب.

في يوم الجمعة الموافق 21 صفر سنة 647 هـ (يونيو 1249) كانت السفن الضخمة العديدة تقف تجاه دمياط, وأرسل لويس التاسع إلى السلطان إنذارا يهدده فيه ويتوعده ويطلب منه تسليم البلاد.. واختتمه بقوله:

(.. وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل, وعددهم كعدد الحصى.. وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء).

واستمع السلطان المريض إلى الإنذار الوقح, والدموع تملأ عينيه والغيظ ينهش قلبه, فكم يتمنى الآن أن ينهض ليطيح برأس هذا المعتدي الأحمق المغرور.. ولكنه المرض الذي يصفده بأغلاله, ويستهلك قواه.

وتنهد الصالح أيوب واختلجت كلماته وهو يملي رده إلى لويس:

(أما بعد, فإنه وصل كتابك, وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك, وعدد أبطالك, فنحن أرباب السيوف, وما قتل منا فريق إلا جددناه, ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه, فلو رأت عيناك أيها المغرور حد سيوفنا, وعظم حروبنا, وفتحنا منكم الحصون والسواحل.. لكان لك أن تعض على أناملك بالندم, ولابد أن تزل بك القدم, في يوم أوله لنا, وآخره عليك...).

واستطاعت جيوش العدوان أن تدخل دمياط بعد قتال عنيف, وأخذت الذئاب تتحصن بالمدينة, تلتقط أنفاسها بعد الصراع الرهيب.

وصدرت أوامر السلطان بأن يتجه الجند إلى (المنصورة) ولم يشأ ـ على الرغم من مرضه الأخير ـ أن يفارق جنده, ويبعد عن الميدان, فأمر بأن يحمل في محفته إلى القصر السلطاني المتواضع الذي شيده والده الملك الكامل عندما شيد هذه المدينة الصغيرة.

وتحركت السواعد السمراء الغاضبة حول دمياط, وانطلقت تثأر وتنتقم, وأخذت تحصد الذئاب الحمر, وتتلقف الأسرى, وتبعث بجموعهم إلى المنصورة ثم إلى القاهرة, حيث يزفهم الصبية والصغار..!.

شجرة الدر

كل هذا, والسلطان المريض ينوء بأثقال مرضه, والسل اللعين ينهش رئتيه ويمتص عافيته, والنهاية المحتومة تزحف نحوه في بطء رهيب.

وكانت شجرة الدر تقف بجوار زوجها المريض, تشد أزره, وتحيطه بالأطباء, وتحاول ما وسعها الجهد أن تدفع بالكارثة بعيدا عن رجلها الحبيب.ولكن الكارثة سرعان ما أطلت بوجهها الكالح الكريه. ففي ليلة 15 شعبان 647 هـ توفى الملك الصالح نجم الدين أيوب في الرابعة والأربعين من عمره بينما البلاد تحيا في فوهة بركان, وتعبىء قواها لرد العدوان.

هنا, امتدت يد شجرة الدر الحصيفة الحازمة, لتدير دفة الأمور وتلعب دورها التاريخي المجيد. فقد استدعت الأمير فخر الدين قائد الجيش, ومحسن الطواشي, وأفضت إليهما بمخاوفها من إعلان وفاة السلطان في هذه الظروف العصيبة الحرجة, أمرتهما بكتمان هذا النبأ. واستدعاء الأمير (طوران شاه) ابن السلطان وولي عهده من حصن كيفا بالشام, ليتولى شئون الحكم, على أن يتم ذلك في سرية كاملة..!.

واستمر قصر السلطان بالمنصورة لا يبدو عليه تغيير.. فالأمور تأخذ طريقها المألوف, والسماط السلطاني يمد في مواعيده المحددة كل يوم والأمراء يحضرون لتناول طعامهم كما تعودوا من قبل, وشجرة الدر الصابرة الحازمة تقول لمن يسأل عن السلطان (إنه مريض ما يصل إليه أحد).. بل إن الأوامر والمنشورات أخذت تخرج إلى الأمراء والقواد ممهورة بالعلامة السلطانية كالمعتاد..!.

هزيمة لويس أمام المنصورة

وخرج العدو من مكمنه, من دمياط الحزينة, بعد أن جاءه المدد الوفير عبر البحر, وأخذ يسير متجها إلى فارسكور, وسفنه المشحونة بالمعدات والمؤن تسير بحذائه في النيل. وأخيرا وقف تجاه المنصورة.

وأحس الجميع أن المعركة الفاصلة سوف تقع هنا. فقد آثر الملك لويس أن يغادر دمياط بنفسه على رأس جيشه الضخم ومعه كبار قواده, بينما كانت جموع المجاهدين العرب تتدفق على المنصورة من كل مكان.

كان العدو في الشرق, لا يفصله عن المجاهدين سوى (بحر أشموم) ـ البحر الصغير ـ وقد أخذ يقيم معسكراته, ويرابط هناك, بينما سفنه الكثيرة تقف في النيل قريبا من المنصورة, وفي ثقة واطمئنان, بدأت معسكرات الأعداء تقيم الأبراج, وتنشىء قنطرة على البحر الصغير, لكي تعبر قواتها إلى المنصورة.وفجأة, دوت انفجارات هائلة, وتساقطت كتل نارية كالشهب فإذا الأبراج والقنطرة تلتهمهما النيران, والقتلى يتساقطون.وصرخ الإفرنج فزعين, وتطلعوا إلى السماء ثم إلى المنصورة, فإذا بهم يفاجأون بست عشرة آلة ضخمة من قاذفات اللهب ـ أمام المعسكرات العربية ـ وقد تراصت في مواجهتهم في وعيد مخيف!.وأصيب الفرنج بالذهول, ولم يصدقوا ما يرون. وأخذوا مرة أخرى يقيمون الأبراج, ويحملون الأخشاب والمعدات, لينشئوا القنطرة على البحر الصغير. وتعالى الدوي المروع من جديد. وتساقطت القذائف الملهمة تلتهم ما يصنعون, بينما كان المصريون يعاودون الاستعداد لهجمات جديدة.

ونهض لويس من فراشه فزعا يتضرع إلى ربه باكيا: (أيها السيد الإله العظيم, احفظ لي رجالي..!).

ولجأ العدو إلى الحيلة, ليعبروا البحر الصغير إلى المنصورة, فاستمالوا بعض الخونة الذين دلوهم على مخاضات في هذا البحر. يمكنهم العبور منها إلى المنصورة.

ومن خلال هذه المخاضات استطاع الإفرنج أن يقتحموا المعسكرات المصرية حيث أخذوا يقتلون ويأسرون. وأسرع فخر الدين واشترك بنفسه في المعركة الغادرة حتى سقط شهيدا في الميدان.وأطلت شجرة الدر من القصر وشهدت القوات المهاجمة تقترب. وفجأة فوجىء المهاجمون بقذائف من القصر مع كتل بشرية رهيبة تندفع من خلفها أمواج هادرة من الجيش والشعب.وخر الأمير (دارتوا) شقيق لويس صريعا, وانهزم جنوده وولت فلولهم هاربة إلى معسكر الملك, تاركة في شوارع المنصورة أكثر من ألف وخمسمائة قتيل. وتمزقت الحملة الصليبية شر ممزق بعد أن انتثرت ثلاثون ألف جثة فرنسية على أرض الدلتا.ورفع الملك الأهوج المتعصب يديه, ورفع على رأسه راية التسليم, واقتيد لويس وقواده إلى السجن في دار لقمان, تحت حراسة الطواشي صبيح. فقد أيقن الملك أنه لم يعد أمامه للحفاظ على حياته سوى أن يقبل عار التسليم بلا قيد أو شرط.