واحة العربي

واحة العربي

السوق

التي تتحكم في أسعار الغذاء والفخار والنساء والرجال والبترول والسلاح وقصائد الشعر، وأشياء عديدة أخرى.

كانت أختي الكبرى ترتب أرديتها ـ الشال بالذات فوق الرأس ـ وتسحبني من يدي لأهبط معها في الطريق المؤدي إلى السوق، وأظل أتصادم في سيقان وأذرع الناس المتجمعين زحاماً ونقاشاَ وهمساً ـ مع استهلاك كمية وافرة من أصوات الحلف والقسم لتأكيد الثقة، كان سوق القرية مفعماً ـ في يومه الأثير ـ بالجبن والزبد واللحوم وليف النخل والحصر (جمع حصيرة) والكليم (السجاد البلدي) والأواني والبقر والبلح والغرابيل والماعز والفلفل والكمون والملح والأرانب والدواجن ومسحوق قرون الخراف (لعلاج البواسير) وقطرة العين والغلال وعلب دهن إحليل التمساح والجلود والقرب (جمع قربة) والجحوش وبقول الفول والبصل والأمشاط والفلايات (تسريح الشعر) وأكواب الصفيح والزجاج وغلايات الشاي وكنكة القهوة وزيوت دهان الجلد (تخفيف الجرب) والحلبة والعدس، ومواد أخرى عديدة لترويق الماء، ومناديل أحمر الخدود والكحل ومشدات الصدور والبامية الناشفة وشخاليل العيال ومناديل الرأس وألواح تعليم الكتابة في الكتاتيب، ثمالجوارب الشرابات (الجوارب) والصنادل والقباقيب وسكر النبات والينسون وشباك الصيد والكركم (يعطى المأكولات لوناً أصفر مبهجاً وطعماً خاصاً ـ كما يستعمل لعلاج دود البطن)، والعقود والحلقان (جمع حلق وهو القرط) والأساور (كانت نحاسية أوبرونزية) والحناء والبطاطا وقراميط السمك، وبذور الفجل والثوم، ثم أكوام البصل ـ والثوم أيضا ـ والردة والنخالة وحبوب البرسيم والجير النقي (لمعالجة شعر الجلود مع القرظ) والتلافيح وقماش الغزول (نوع رخيص ومتين في قلوع المراكب)، وغير ذلك من أشياء وعناصر وتكوينات ومسائل تتسامى رائحتها فتصنع للسوق ـ مع الغبار المثار بين الأقدام ـ شذى خاصاً لا يتكرر في أي موقع في قريتنا، ولا في أي يوم آخر، وعلى رأسها جوال صغير مليء بالبطاطا والبرتقال، لنعود إلى البيت. ومنذ ذلك الحين ظل شذى سوق قريتي ينخر في أنفي ـ وجمجمتي، ويصل أوجه آخر النهار حينما تشتعل الكوانين تحت أواني الطبيخ ـ باللحوم أو دونها، حيث تخترقني رائحة قدحة الملوخية لتطش في مركز ذكرياتي. إنني الآن أجلس خارج القرية أكاد أمد يدي إلى أي أخت في العالم كي تسحبني ـ طفلا ـ إلى بطن السوق، التي كنت أعتقد أنه لا يوجد سوق سواها (على فكرة: السوق تذكر وتؤنث) غير أن الأسواق كانت خارج سوق قريتي، سوق غير معلنة (لم أقل سوقاً سرية) تقوم بتسهيل أو تنشيط التزاوج، ثم هناك السوق المقامة طوال العام لترويج المخدرات والمؤثرات في العقل والأعصاب، وسوق الخبص واللمز والنميمة التي تعنى بنشر الكراهية والشائعات وعناصر الأخلاق السيئة، والعواصم ـ كل العواصم ـ تكون مركزا لتسويق السيارات ونجوم التمثيل والآراء الهدامة والجرارات والأفكار المناوئة لأي نظام قائم والتليفزيونات واستخراج تقرير طبي يساعد على الهروب القانوني من الخدمة العسكرية، كما أن للأشياء القديمة ـ الملبوسات بالذات ـ أسواقها الخاصة، في القاهرة، مثلا ـ سوق الكانتو في العتبة وهي التي يلجأ إليها كثير من منتجي الأفلام السينمائية للحصول على الملابس المناسبة بسعر رخيص وسوق السبتية ـ وراء بولاق ـ وتتعامل في كل شيء تقريبا، من الملابس ومواد التجميل حتى أجزاء من السيارات والقاطرات والطيارات ومدافع الهاون.

وتكاد كل قرى مصر تنظر بعيونها يوميا نحو الأسواق، فقد اعتادت أن تنسق بين أيام أسواقها حتى لا يتطابق سوقان لقريتين قريبتين في يوم واحد، وهو ما يساعد ـ بالطبع ـ على ترتيب الحصول على المراد دون اضطراب، وخصوصا أن كل سوق ـ مهما اكتملت ـ تكون قاصرة في نوع ما، فمثلا قريتنا ـ ديروط الشريف ـ تقوم بها سوق للفخاريات، وكانت تهتم بهذه الصناعة دون باقي القرى القريبة، ولا تزال أطلال (الفواخير) قائمة قريبة من السوق حتى آلآن بالرغم مما أحدثته التطورات الأخيرة من تقليص التعامل في هذا الصنف من المشغولات اليدوية المشكلة من طمي النيل بمواصفات خاصة وإضافات خاصة أيضا، وكانت سوق الفخار تشع بالجمال الناجم عن ترتيب الوحدات المتماثلة في تشكيلات ذوقية، الأزيار الكبيرة تحوطها أزيار صغيرة، القلل الحمراء، وهي غير القلل البيضاء (القناوية) وقد برزت زخارف رقابها الممتدة إلى أعلى، أو زخارف أجسادها المتكورة إلى أسفل رسوم بالسليقة لزهور ورءوس طيور، ثم المناطيل (جمع منطال: أوان فخارية يستخدم بدلها الآن الأكواب) مرصوصة قريبة من الأزيار تمعن فيها وتحاول أن تقترب منها في حب أبوي أو أموي ـ أيهما أعمق وأدفأ ـ المواجير (جمع ما جور) الخاصة بالعجين، وقد احتوى الأوسع الأقل وسعاً في جوفه حتى يبدأ صف المتارد (جمع مترد ـ ماجور صغير) ومنها جاء اسم مأكول الثريد الموروث، صحاف سمك الفرن بالبرغل (نوع من الفريك المصنع من حبوب القمح) زلعة تخزين السمن وبجوارها الزبدية التي يتوقف عملها عند التعامل بالزبد، أنواع أخرى عديدة من الأواني تساقطت أسماؤها من الذاكرة لكنها لا تزال حية: قدرة تدميس الفول أو انضاج اللحم الجملي تلك التي كانت تدفن في تراب الفرن فور انتهاء الخبيز ولا يتم الاقتراب منها إلا بعد نصف يوم، وأجمل عدس بالبصل والزبد والثوم والفلفل تذوقناه منها، ثم صفوف من أزيار صغيرة يحفظ فيها اللبن الحامض عاماً كاملاً حتى يصبح لبناً معتقاً هو العنصر الأساسي في صناعة الكشك، بلاليص تعتيق الجبن وحفظ اللفت والعسل الأسود، جرار نقل الماء وأباريق تبريدها وتثليجها، ثم هناك الأواني الفخارية المفلطحة التي يسهل على الجمال والأبقار والشياه والماعز والأرانب والدواجن تناول المياه منها. سوق الفخار هذه ثابتة تلحق بالسوق الأصلية، ويعاد تنظيمها كلما هل يوم السوق الأسبوعية، ويكو ن معظم عملائها من النساء الريفيات. كان ذلك قبل أن تنتشر وسائل النقل وتتطور وسائل تسويق البضائع، وقد اندثرت أنواع كثيرة من بضائع هذه الأسواق وظهرت بدائل بعضها في أكياس بمحلات (السوبرماركت) أوالمحلات المتخصصة في الأواني، لا سيما أن التغييرات التي داهمت العادات كان لها تأثير كبير في ذلك. وقد كانت الأسواق جزءاً من تاريخ أية أمة ـ حتى ولو لم يتم تسجيلها في كتب التاريخ، لكن أشهرها ـ بالطبع سوق عكاظ التي اشتهرت في الجاهلية، وموضعها بين نخلة والطائف وذي المجاز، وكانت تجتمع فيها القبائل عشرين يوماً من بداية هلال ذي القعدة، وسبب شهرة هذه السوق ـ كما هو معروف قيام الشعراء بانشاد الشعر وإلقاء ما استحدثوه من التفاخر والحماسة والمجادلة وقد تطور ذلك إلى المؤتمرات الأدبية المنتشرة في ربوع العالم العربي ـ سوق للشعر فقط دون الأشياء الأخرى، ذلك ما بدا منفصلا عن السياسة مثل سوق ليبزج في أوربا، وكونتيكت في أمريكا، ومونتريال في كندا، أو ما كان قائما على مبادىء سياسية بحتة كالسوق الأوربية المشتركة، وأخطر الأسواق هي أسواق البترول وأنشطة البورصات العالمية، وأسواق السلاح، والسوق السوداء التي تنشأ موازية للسوق المعلنة وتقضي عليها، ثم أسواق العبيد التي اندثرت تحت سطوة استعباد اقتصادي من نوع آخر.