جمال العربية

جمال العربية

إلى المجهول..
شعر: عبدالرحمن شكري

ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان س إن الشعر وجدان
وفـي شـدوك شعـر النفـ س لازورٌ وبهتان

لعلهما أن يكونا أشهر بيتين من الشعر رددهما الناس للشاعر عبدالرحمن شكري ثالث الثلاثة الذين ارتبطت بهم جماعة الديوان: العقاد والمازني وشكري، بل هو أقل الثلاثة حظا من الشهرة وذيوع الصيت والمجد الأدبي، سبقه زميلاه وتفوقا عليه في الحظوة ودوران الذكر، بالرغم من سبقه لهما تجديدا وإبداعا وفكرا، واحتفالا ـ في شعره ونقده ـ بالثورة التجديدية التي اقترنت بجماعة الديوان.

ولقد صار هذان البيتان عنوانا على موقف جماعة الديوان من الشعر، وشعارا لها. وهو موقف يزيده شكري وضوحا وجلاء حين يتحدث عن مفهومه للعاطفة في الشعر في تقديمه لديوانه الثالث: أناشيد الصبا وهو يقول: إن روح الشاعر مثل آلة الغناء، لابد أن تتهيأ تهيؤا خاصا لكل نغمة من النغمات، فيقصر بعض الأوتار، ويطال بعضها، ويشد وتر، ويرخى آخر. والشاعر لايمكنه أن يهيىء روحه كذلك متى شاء. بل لابد من أسباب يتوخاها زمنا، حتى يساعده الطبع فتتهيأ نفسه، ثم يوقع عليها مايشاء وجدانه من الألحان. بين عامي 1886، 1958 عاش عبدالرحمن شكري، وبين مدينتي بورسعيد والإسكندرية كانت علاقته بالمكان نشأة وإقامة ورحلة حياة. وبين تفتح وجدانه على كتاب الأغاني ـ موسوعة التراث العربي الأدبي الكبرى ـ (وكتاب الذخيرة الذهبية) ـ موسوعة مختارات الشعر الإنجليزي كان تحليقه بجناحين ـ أحدهما عربي والآخر غربي ـ وكان ارتباطه العميق بالغنائية التي اصطبغت بها مختارات الأصفهاني في أغانيه، وتفجرت بها الرومانسية الغربية في مختارات الذخيرة الذهبية.

أما ريادة شكري وأستاذيته لزميليه فيعترف بها المازني حين يقول عنه: (كان من زملائي في مدرسة المعلمين الأستاذ عبدالرحمن شكري، وكان كاتبا شاعراً واسع الاطلاع على الأدب العربي والآداب الغربية، وقد أخرج أول جزء من ديوان شعره وهو في السنة الأولى في مدرسة المعلمين، فكانت له ضجة. وكان هذا الديوان بداية اقتحام المذهب الجديد في الأدب للميدان، وفاتحة الصراع بينه وبين المذهب القديم ـ مذهب شوقي وحافظ وأضرابهما، وتوثقت الصلة بيني وبين شكري فصار أستاذي وهو زميلي).

أما العقاد فيعترف لشكري بالسبق في ريادة التجديد والدعوة إليه فكرا ونقدا وإبداعا حين يقول عنه عام 1959: لم يسبقه أحد فيما أذكر إلى تطبيق البلاغة النفسية ـ السيكولوجية ـ المستمدة من أدب الغرب على ما يقرؤه من شعر الفحول في اللغة العربية، ولعله أول من كتب في لغتنا عن الفرق بين تصور الخيال وتصور الوهم وهما ملتبسان حتى في موازين بعض النقاد الغربيين.

والقصيدة التي نلتقي معها الآن من شعر عبدالرحمن شكري تمثل جوهر شاعريته أصدق تمثيل: شعوراً ولغة وبناء وموقفا من الكون والحياة والإنسان. القصيدة عنوانها إلى المجهول، وهي إحدى قصائد ديوانه الخامس الخطرات. كما أن الشاعر يقدم لقصيدته بمقدمة نثرية طويلة يقول في بعض سطورها: الولوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون. والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة، وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة فأخذ يبحث تلك المظاهر. وهو الذي أدى إلى كشف القارات والبحار، وزاد علمه بالسماء، وعلمه ركوب الهواء في الطائرات حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك. وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة، ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك، في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون.

القصيدة إذن خطاب شعري موجه إلى المجهول، خطاب وجداني مفعم بالنفس الغنائي الذي يتردد في أبيات القصيدة وأصدائها الشجية الأسيانة، خطاب يضج بالرغبة العارمة في كشف الغيب والمستور، والظمأ الشديد للانطلاق رغبة في الشدو والتغريد والخلاص من الأسر والقيود. إن الشاعر معتصم بإباء ـ لايد له فيه أو سلطان له عليه يأبى عليه حياة لايدرك معناها ولا يعي حكمتها، وهو الذي يعيش بوعيه ورغبته العارمة في الكشف والمغامرة وتوقه إلى استكناه المجهول. إنه طموح يضني الشاعر ويعنيه، لكنه الطموح المشروع الذي يدفع بالنسر إلى الذرا غير عابىء بقرن الشمس أو حاجبها الملتهب، ولا بظلمات ليل تستحكم وحشته ويطغى موجه وما يوحي به من رهبة.

والشاعر يوائم بين الفكرة ومساحة الشعور ويصوغ خطابه إلى المجهول منغمسا في ماء الشعر وحميّاه، غير بعيد عن جلوة الإبداع وروح الفن الحقيقي. وهو حريص على أن يظل خطابه في دائرة الشعر لا الفكر، وإن كانت جماعة الديوان قد مزجت بينهما مزجا عضويا محكما في (صيغة الوجدان). فالوجدان ـ كما يرونه ـ ليس مجرد ساحة للأحاسيس والمشاعر والعواطف، لكنه يضيء بجلوات العقل والفكر، وصفاء الرؤية والتأمل، وهذا هوالذي يفرق بين وجدان مثقف ووجدان فقير شاحب، بين وجدان إنساني النزعة، ووجدان حيواني وحشي، بين وجدان زاخر بالمحبة والرضا والتسامح ووجدان ممتلىء بالعدوان والتعصب والبغضاء. فإذا ما تأملنا موسيقى القصيدة وبحرها الشعري ـ وهو بحر البسيط ـ بامتداداته ومداته النغمية والموسيقية، ومراوحة تفاعيله بين صيغة مستفعلن وصيغة فاعلن، وقافية القصيدة التي تحكمها الهاء المجرورة التي تسبقها الياء، وكأنها الصوت النواح يجد مدى إشباعه في هذه الياء التي تسبقه وتمهد له، تكامل لدينا الإحساس بما للصياغة الشعرية ـ حتى على مستوى الوزن والقافية ـ من أثر بارز في تجسيد الخطاب الشعري إلى المجهول، والكشف عن إفضاء الوجدان الإنساني بكل ما يثقله من عناصر الخوف والقلق والرغبة والحيرة والطموح والإصرار في مزيج رائع هو طبيعة النفس الإنسانية وجوهرها العميق الشفيف في آن. والآن إلى قصيدة عبدالرحمن شكري:

إلى المجهول

يحوطني منك بحر لست أعرفه

وحولي الكون لم تدرك مجاليه

ومهمه لست أدري ما أقاصيه(1)

 

أقضي حياتي بنفس لست أعرفها

يا ليت لي نظرة في الغيب تسعدني

 

لعل فيه ضياء الحق يبديه

إخال أني غريب وهو لي وطن

 

خاب الغريب الذي يرجو مقاصيه(2)

أوليت لي خطوة تدحو مجاهله

 

وتكشف الستر عن خافي مساعيه(3)

كأن روحي عود أنت تحكمه

 

فابسط يديك وأطلق من أغانيه(4)

والروح كالكون لاتبدو أسافله

 

عند اللبيب ولا تبدو أعاليه(5)

وأكبر الظن أني هالك أبدا

 

شوقا إليك وقلبي فيه ما فيه(6)

من حسرة وإباء لست أملكه

 

يأبى لي العيش لم تدرك معانيه

وأنت في الكون من قاص ومقترب

 

قد استوى فيك قاصيه ودانيه(7)

كأنني منك في ناب لمفترس

 

المرء يسعى ولغز العيش يدميه(8)

كم تجعل العقل طفلا حار حائره

 

ورب مطلب قد خاب باغيهِ

لولا النبال نبال القوس مضمية

 

كنت ادريت بسهم القوس أرميهِ(9)

أو كان للسحر سهم نافذ أبداً

 

لكان لي منه سهم صال راميه

يا مصلت السيف قد فلت مضاربه

 

ورامي السهم قد خابت مراميه(10)

قلبي يحدثني أن لايليق به

 

رضا بجهل ذليل اللب يرضيه

قد ثار ثائر نفس عز مطلبها

 

وطار طائر لب في مراقيه

كالنسر لاحاجب للشمس يحرقه

 

ولا الصواعق والأرواح تثنيه(11)

وأنت كالليل والأفهام حائرة

 

مثل العيون علاها منك داجيه

ليل مهيب كليل البحر حندسه

 

تكاد تسمع منه صوت طاميه(12)

فليت لي فكرة كالكون واسعة

 

أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه

ليس الطموح إلى المجهول من سفه

 

ولا السمو إلى حق بمكروه

إن لم أنل منه ما أروي الغليل به

 

قد يحمد المرء ماء ليس يرويه

والقانعون بما قد دان عيشهم

 

موت فإن خضوع اللب يرديه(13)

يا قلب يهنيك نبض كل حرق

 

إلى الغرائب مما عز ساميه

فالعيش حب لما استعصت مسالكه

 

تجارب المرء تدميه وتعليه

كم ليلة بتها ولهان ذا أمل

 

لم يسل: قلبي أن غابت أمانيهِ

لعل خاطر فكر طارقي عرضا

 

يدنو بما أنا طول العمر أبغيه

يوضح الغامض المستور عن فطن

 

وأفهم العيش تستهوي بواديه

 

فاروق شوشة